صيد الخاطر/فصل: من يطع الرسول فقد أطاع الله
فصل: من يطع الرسول فقد أطاع الله
الجادة السليمة، والطريق القومية، الإقتداء بصاحب الشرع. والبذار إلى الإستنان به، فهو الكامل الذي لا نقص فيه، فإن خلقا كثيرا إنحرفوا إلى جادة الزهد، وحملوا أنفسهم فوق الجهد، فأقاموا في أواخر العمر، والبدن قد نهك، وفانت أمور مهمة من العلم وغيره. وإن أقواما إنحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه، فأفاقوا في أواخر قدم، وقد فاتهم العمل به. فطريق المصطفى ﷺ العلم والعمل، والتلطف بالبدن. ما أوصى عبد الله بن عمر، عمر بن العاصي وقال له: إن لنفسك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا. فهذه هي الطريق الوسطى، والقول الفصل. فأما اليبس المجرد فكم فوت من علم، لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل. فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق، والعابد جاهل بها فيمشي العابد من الفجر إلى العصر، ويقوم العالم قبيل العصر فيلتقيان وقد سبق العالم فضل شوطه. فإن قال قائل: بين لي هذا؟ قلت: صورة التعبد خدمة لله تعالى، وذل له وربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة، لأنه ربما ظن أنه أهل لوجود الكرامة على يده، وأنه مستحق تقبيل يده، أو أنه خير من كثير من الناس وذلك كله لقلة العلم، وأعني بالعلم فهم أصول العلم، لا كثرة الرواية ومطالعة مسائل الخلاف. فإذا طالع العالم الأصولي، سبق هذا العابد بحسن خلق، ومداراة لناس، وتواضعه في نفسه، وإرشاده الخلق إلى الله تعالى، فيعسر هذا على العابد، وهو في ليل جهله بالحال راقد. ربما تزوج العابد ثم حمل نفسه على التجفف، فحبس زوجته عن مطلوبها ولم يطلقها، وصار كالتي حبست الهرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ومن تأمل حالة الرسول ﷺ، رأى كاملا من الخلق يعطي كل ذي حق حقه. فتارة يمزح، وتارة يضحك، ويداعب الأطفال، ويسمع الشعر، ويتكلم بالمعاريض، ويحسن معاشرة النساء، ويأكل ما قدر عليه وأتيح له، وإن كان لذيذا كالعسل. ويستعذب له الماء، ويفرش له في الظل، ولم ينكر ذلك، ولم يسمع عنه ما حدث بعده من جهال المتصوفة والمتزهدين، من منع النفس شهواتها على الإطلاق. فقد كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقبل، ويمص اللسان، ويطلب المستحسنات. فأما أكل خبز الشعير ووزن المأكول، وتجفيف البدن، وهجر كل مشتهي، فإنه تعذيب للنفس، وهدم للبدن. لا يقتضيه عقل، ولا يمدحه شرع. وإنما اقتنع أقوام بالقليل، لأسباب مثل أن حديث شبهة فتقللوا أو إختلط طعام بطعام فتورعوا. ثم كان النبي ﷺ يوفي العبادة حقها بقيام الليل والاجتهاد في الذكر. فعليك بطريقته التي هي أكمل الطرق، وبشرعته التي لا شوب فيها. ودع حديث فلان وفلان من الزهاد. واحمل أمرهم على أحسن محمل، وأقم لهم الأعذار مهما قدرت. فإن لم تجد عذرا فهم محجوبون بفعله، إذ هو قدوة الخلق، وسيد العقلاء. وهل فسد الناس إلا بالإنحراف عن الشريعة؟ ولقد حدثت آفات من المتصوفة والمتزهدين. خرقوا بها شبكة الشريعة وعبروا. فمنهم من يدعي المحبة والشوق، ولا يعرف المحبوب. فتراه يصيح ويستغيث ويمزق ثيابه ويخرج عن حد الشرع بدعواه ومضمونها. منهم من حمل على نفسه بالجوع والصوم الدائم، وقد صح عن النبي ﷺ إنه قال لعبد الله بن عمرو: صم يوما وأفطر يوما، فقال أريد أفضل من ذلك، فقال لا أفضل. وفيهم من خرج إلى السياحة، فأفأت نفسه الجماعة. وفيهم من دفن كتب العلم وقد يصلي ويصوم، ولم يعلم أن دفنها خطأ قبيح، لأن النفس تغفل وتحتاج إلى التذكير في كل وقت، ونعم المذكر كتب العلم. وإنما دخل إبليس على قوم منهم من حيث قدر، وكان مقصوده بدفن الكتب إطفاء المصباح، ليسير العابد في الظلمة. وما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال: أريد أن أمضي إلى جبل الأكام. فقال هذه ـ هوكلة ـ وهذه كلمة عامية معناها حب البطالة. وعلى الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش. قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير من جماعة، واتباع جنازة، وعيادة مريض. إلا أنها حالة الجنباء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام. أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة وبين الفقيه؟ بالله لو مال الخلق إلى التعبد لضاعت الشريعة. على أنه فهم معنى التعبد لم يقتصر به على الصلاة والصوم فرب ماش في حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة. والعمل بالبدن سعى الآلات الظاهرة. والعلم سعي الآلات الباطنة من العقل والفكر والفهم، فلذلك كان أشرف. فإن قلت: كيف تذم المعتزلين للشر وتنفي عنهم التعبد؟ قلت: ما أذمهم بل حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل من الدعاوي والآفات التي سببها قلة العلم. وحملوا على أنفسهم التي لبست لهم. وعن غير إذن الأمر ما لم يجز. حتى إن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الإطلاق فضيلة. وحتى قال بعض الحمقى: دخلت الحمام فوجدت غفلة. فآليت ألا أخرج حتى أسبح كذا وكذا تسبيحة، فطال الأمر فمرضت. وهذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له. ومن المتصوفة والزهاد من قنع بصورة اللباس، وركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب. طهر الله الأرض منهم، وأعان العلماء عليهم. فإن أكثر الحمقى معهم، فلو أنكر عالم على أحدهم، مال العوام على العالم بقوة الجهل. ولقد رأيت كثيرا من المتعبدين وهو مقام العجائز يسبح تسبيحات لا يجوز النطق بها، ويفعل في صلاته ما لم ترد به السنة. ولقد دخلت يوما على بعض من كان يتعبد، وقد أقام إماما وهو خلفه في جماعة يصلي بهم صلاة الضحى ويجهر، غفلت لهم: إن النبي ﷺ قال: صلاة النهار عجماء، فغضب ذلك الزاهد وقال: كم ينكر هذا علينا. وقد دخل فلان وأنكر فلان وأنكر، نحن نرفع أصواتنا حتى لا ننام. فقلت: واعجبا ومن قال لكم لا تناموا، أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو وأن النبي ﷺ قال له: قم ونم، وقد كان رسول الله ﷺ ينام، ولعله ما مضت عليه ليلة إلا ونام فيها. ولقد شاهدت رجلا كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور وهو يمشي في الجامع مشيا كثيرا دائما. فسألت ما السبب في هذا المشي؟ فقيل لي: حتى لا ينام. وهذا كلها حماقات أوجبتها قلة العلم، لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من النوم إختلط العقل، وفات المراد من التعبد لبعد الفهم. ولقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور أن رجلا إسمه كثير دخل عليهم الجامع فقال: إني عاهدت الله على أمر ونقضته، وقد جعلت تقوبتي لنفسي ألا آكل شيئا أربعين يوما، قال: فمكث منها عشرة أيام قريب الحال يصلي في جماعة، ثم في العشر الثاني بان ضعفه وكان يداري الأمر، ثم صار في العشر الثالث يصلي قاعدا، ثم استطرح في العشر الرابع، فلم تمت الأربعون جيء بنقوع فشربه، فسمعنا صوته في حلقه مثل ما يقع الماء على المقلاة، ثم مات بعد أيام. فقلت: يا لله العجب، أنظروا ما فعل الجهل بأهله، ظاهر هذا أنه في النار، إلا أن يعفى عنه، ولو فهم العلم وسأل العلماء لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل وأن ما فعله بنفسه حرام، ولكن من أعظم الجهل إستبداد الإنسان بعلمه، وكل هذه الحوادث نشأت قليلا قليلا حتى تمكنت. فأما الشرب الأول فلم يكن فيه من هذا شيء. وما كانت الصحابة تفعل شيئا من هذه الأشياء وقد كانوا يؤثرون ويأكلون دون الشبع. ويصبرون إذا لم يجدوا. فمن أراد الإقتداء فعليه برسول الله ﷺ وأصحابه ففي ذلك الشفاء والمطلوب. ولا ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع إسمه. فيقول: قال: أبو يزيد وقال الثوري. فإن المقلد أعمى. وكم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصا. فمن هذا المشار إليه طلب الأفضل والأعلى. والله الموفق.