صيد الخاطر/فصل: تذكر أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم
فصل: تذكر أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم
من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عز وجل ففي أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضى، فليتفكر في أحوال رسول الله ﷺ. فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف في مملوكه، ورآه حكيما لا يصنع شيئا عبثا، فسلم تسليم مملوك لحكيم فكانت العجائب تجري عليه ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف. ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا، بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح. هذا سيد الرسل ﷺ بعث إلى الخلق وحده، وبالكفر قد ملأ الآفاق، فجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الخيزران، وهم يضربونه إذا خرج، ويدمون عقبه، وشق السلى على ظهره، وهو ساكت ساكن. ويخرج كل موسم فيقول: من يؤويني، من ينصرني؟ ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا في جواز كافر، ولم يوجد من الطبع تأنف، ولا من الباطن اعتراض. إذ لو كان غيره لقال: يا رب أنت مالك الخلق، وقارد على النصر، فلم أذل؟ كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق؟ فلم نعطي الدنية في ديننا؟ ولما قال هذا، قال له الرسول ﷺ: إني عبد الله ولن يضيعني، فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما. فقوله: إني عبد الله، إقرار بالملك وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء. وقوله: لن يضيعني، بيان حكمته، وأنه لا يفعل شيئا عبثا. ثم يبتلي بالجموع فيثد الحجر، ولله خزائن السموات والأرض. وتقتل أصحابه ويشج وجهه، وتكسر رباعيته، ويمثل بعمه وهو ساكت ثم يرزق ابنا ويسلب منه، فيتعلل بالحسن والحسين، فيخبر بما سيجري عليهما. ويسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها، فينغص عيشه بقذفها. ويبالغ في إظهار المعجزات فيقام في وجهه مسيلمة والعنسي وابن صياد. ويقيم ناموس الأمانة والصدق، فيقال: كذاب ساحر. ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان وهو ساكن ساكت. فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر. ثم يشدد عليه الموت، فيسلب روحه الشريفة وهو مضطجع في كساء ملبد وإزار غليظ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ. هذا شيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قلبه، ولو ابتليت به الملائكة ما صبرت. هذا آدم عليه السلام يباح له الجنة سوى شجرة فلا يقع ذباب حرصه إلا على العقر. ونبينا ﷺ يقول في المباح: مالي وللدنيا. وهذا نوح عليه السلام يضج مما لاقى، فيصبح من كمد وجده لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. ونبينا ﷺ يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. هذا الكليم موسى ﷺ، يستغيث عند عبادة قومه العجل على القدر قائلا إن هي إلا فتنتك ويوجه إليه ملك الموت فيقلع عينه. وعيسى ﷺ يقول: [ إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني ]. ونبينا ﷺ يخير بين البقاء والموت، فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى. هذا سليمان ﷺ يقول: هب لي ملكا، ونبينا ﷺ يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا هذا والله فعل رجل عرف الوجود والموجود، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته، فصار هواه فيما يجري.