صيد الخاطر/فصل: عزلة العالم عن الشر
فصل: عزلة العالم عن الشر
بكرت يوما أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة، فجعلت أجول وحدي وأتفكر في ذلك المكان ومن كان به من العلماء والصالحين. ورأيت أقواما قد جاوروا فيه فسألت أحدهم: منذ كم أنت ها هنا؟ فأومأ إلي قريب من أربعين سنة. فرأيته في بيت كثير الدرن والوسخ، وجعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة، فأخذت النفس تحسن ذلك، وتذم الدنيا والاغترار بها. فأقبل العلم ينكر على النفس، ونهض الفهم لحقائق الأمور، وموضوع الشرع يقوي ما قال العلم. فينحل من ذلك أن قلت للنفس: اعلمي أن هؤلاء على ضربين. منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال، فتفوته فضائل المخالطة لأهل العلم والعمل وطلب الولد، ونفع الخلق، وانتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم، فيحدث له من حاله تشابه فيها الوحش فيؤثر الانفراد. وربما يبس الطبع، وساء الخلق، وربما حدث من حبس مائة المحتقن سميه من أفسدت بدنه وعقله، وربما أورثته الخلوة وسوسة، وربما ظن أنه من الأولياء واستغنى بما يعرفه، وربما خيل له الشيطان أشياء من الخيالات وهو يعدها كرامات، ربما ظن أن الذي هو فيه الغاية لا يدري أنه إلى الكراهة أقرب. فإن رسول الله ﷺ: نهى أن يبيت الرجل وحده، وهؤلاء كل منهم يبيت وحده، ونهى عن التبتل وهذا تبتل، ونهىعن الرهبانية وهذا من خفىخدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلالة بألطف وجه وأخفاه. والضرب الثاني: مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة، إذ ليس لأحدهم مأوى. فهم في مقام الزمني. وإن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم والعمل والكسب وتعلقت هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب، فرضوا بالعمى بعد البصر، وبالزمن بعد الإطلاق قالت لي النفس: لا أرضى هذا الذي تقوله، فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح المستحسنات والمطاعم المشتهيات. فإذا لم تكن من أهل التعبد فلا تطعن فيهم. فقلت لها: إن فهمت حدثتك وإن كنت تقلدين صور الأحوال فلا فهم لك. أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد، ومنها شفاء النفس بإخراج الفضلة المؤذية، وكمال خروجها لا يكون إلى بوجود المستحسن. واعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء في الفرج. وبتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي. كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم، وننهاه عن الحكم وهو غضبان أو حاقن. وبكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي خلق منها. ثم للنفس حظ فهو يستوفيه إستيفاء الناقة حظها من العلف في السفر، وذلك بعين على سيرها. وأما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها. وإنما المراد إصلاح الناقة لجمع همها، ونيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها. وإذا تأملت حال الشرب الأول رأيت من هذا عجبا، فإن النبي ﷺ إختار لنفسه عائشة رضي الله عنها وكانت مستحسنة. [ ورأى زينب استحسنها، فتزوجها، وكذلك إختار صفية، وكان إذا وصفت له إمرأة بعث يخطبها ]. وكان لعلي رضي الله عنه أربع حرائر، وسبع عشرة سرية مات عنهن. وقبل هذه الأمة فقد كان لداود عليه السلام مائة إمرأة، ولسليمان عليه السلام ألف إمرأة، فمن ادعى خللا في هذه الطرق، أو أن هؤلاء آثروا هواهم، وأنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض وغيرها أفضل، فقد إدعى على الكاملين النقصان، وإنما هو الناقص في فهمه لا هم. وقد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية وفالوذج، وكان حسن الطعم، وكان يقول: [ إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل ]. وهذه الفنون التي أشرت إليها إن قصدت للحاجة إليها، أو لقضاء وطر النفس منها، أو لبلوغ الأغراض الدينية والدنيوية منها، فكله قصد صحيح لا يعكر عليه من يقوم ويقعد في ركعات لا يفهم معناها، وفي تسبيحات أكثر ألفاظها ردية. كلا ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات، وأشرف العبادات، وهو الأمر بالمصالح، والناطق بالنصائح. ثم منفعة العلم معروفة، وزهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه، وقد قال ﷺ: لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت الشمس. ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والجوارح على التي لا تصيد. والطين منه ما ينتفع به على الطين في المقلع. وغاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح، وأكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح. فكم فوتت العزلة علما يصلح به أهل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين، وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب، والله الموفق.