صيد الخاطر/فصل: عزة العلم تضع أصحابها فوق الملوك
فصل: عزة العلم تضع أصحابها فوق الملوك
بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة. وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: والله لا ينال أحد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عنده كريما. فالسعيد من اقتنع بالبلغة، فإن أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا. اللهم إلا أن يكون متورعا في كسبه، معينا لنفسه عن الطمع، قاصدا إعانة أهل الخير، والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته. فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين فبعيد أن يسلم معه الدين، فإن وقعت سلامته ظاهرا فالعاقبة خطرة. قال أبو محمد التميمي: ما غبطت أحدا إلا الشريف أبا جعفر يوم مات القائم بأمر الله فإنه غسله وخرج ينفض أكمامه فقعد في مسجده لا يبالي بأحد ونحن منزعجون لا ندري ما يجري علينا. وذاك أن التميمي كان متعلقا على السلطان يمضي له في الرسائل، فخاف مغبة القرب. وقد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان فكانت مغبتهم سيئة. ولعمري إنهم طلبوا الراحة فأخطئوا طريقها، لأن غموم القلب لا توازيها لذة مال ولا لذة مطعم، هذا في الدنيا قبل الآخرة. ومن أشرف وأطيب عيشا من منفرد في زاوية لا يخالط السلاطين ولا يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب. فإنه لا يخلو من كسرة وقعب ماء، ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه أو يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق. ومن تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه، وحال ابن أبي داؤد، ويحيى بن أكثم عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا والسلامة في الآخرة. وما أحسن ما قال ابن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف. ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئا خاف أن يكون قد طرح له فيه سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن خرج كان منزعجا من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا يبقى له لذة مطعم ولا منكح. وكلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته، وكلما استجد الجواري أكثر منهن فذهبت قوته، ولا يكاد يبعد ما بين الوطء والوطء فلا يجد في الوطء كبيرة لذة لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين، وكذلك لذة الأكل فإن من أكل على شبع، ووطئ من غير صدق شهوة وقلق، لم يجد اللذة التامة التي يجدها الفقير إذا جاع، والعزب إذا وجد امرأة. ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام، ولذة الأمن قد حرمها الأمراء فلذتهم ناقصة، وحسابهم زائد. والله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغا من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء المخلصين كالحسن وسفيان وأحمد والعباد المحققين كمعروف، فإن لذة العلم تزيد على كل لذة. وأما ضرهم إذا جاعوا أو ابتلوا بأذى، فإن ذلك يزيد في رفعتهم. وكذلك لذة الخلوة والتعبد. فهذا معروف، كان منفردا بربه طيب العيش معه، لذيذ الخلوة به. ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة فما يخلو أن يهدي إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن. وأقله من يقف على قبره فيقرأ: قل هو الله أحد ويهديها له. والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة. هذا بعد الموت، ويوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف، وكذلك قبور العلماء المحققين. ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها. فقال سفيان بن عتبة: منذ أخذت من مال فلان الأمير، منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن. وهذا أبو يوسف القاضي، لا يزور قبره اثنان. فالصبر عن مخالطة الأمراء وإن أوجب ضيق العيش من وجه، يحصل طيب العيش من جهات. ومع التخليط، لا يحصل مقصود. فمن عزم جزم. كان أبو الحسن القزويني، لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة، فربما جاء السلطان فيقعد لانتظاره، ليسلم عليه. ومد النفس في هذا ربما أضجر السامع، ومن ذاق عرف.