صيد الخاطر/فصل: متى جرى ما لا نعرف حكمته فأنسبه إلى قصور علمك
فصل: متى جرى ما لا نعرف حكمته فأنسبه إلى قصور علمك
هذا فصل ملاحظته من أهم الأشياء. ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله. ويعلم أنه حكيم ومالك، وأنه لا يعبث. فإن خفيت عليه حكمة فعله نسب الجهل إلى نفسه، وسلم للحكيم المالك. فإذا طالبه العقل بحكمة الفعل قال: ما بانت لي، فيجيب علي تسليم الأمر لمالكه. وإن أقواما نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه فرأوها لو صدرت من مخلوق نسب فيها إلى ضد الحكمة، فنسبوا الخالق إلى ذلك. وهذا الكفر المحض، والجنون البارد. والواجب نسبة الجهل إلى النفوس، لإغن العقول قاصرة مطالعة حكمته. وأول من فعل ذلك إبليس فإنه قد رآه قد فضل طينا على نار، والعقل يرى النار أفضل، فعاب حكمته. وعمت هذه المحنة خلقا ممن ينسب إلى العلم وكثير من العوام. فكم قد رأينا عالما يعترض وعاميا يرد فيكفر، وهذه محنة قد شملت أكثر الخلق. يرون عالما يضيق عليه، وفاسقا وسع عليه، فيقولون هذا لا يليق بالحكمة. وقد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات والخراج والجزية والغنائم والكفارات ليستغني بها الفقراء، فإختص بذلك الظلمة. وصانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها، فجاع الفقير. فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة ولا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء. وقد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين في حبسهم الحقوق، وابتلاء الفقراء بصبرهم عن حظوظهم. وأكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من إعتراض يخرج إلى الكفر فتخرج النفس كافرة. فكم عامي يقول: فلان قد ابتلى وما يستحق. ومعناه أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب. وقد قال بعض الخلعاء: أيا رب تخلق أقمار ليل وأغصان بان وكثبان رمل وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل؟؟ ومثل هذا ينشده جماعة من العلماء ويستحسنونه، وهو كفر محض. وما فهم هؤلاء سر النهي ولا معناه، لأنه ما نهى عن العشق، وإنما نهى عن العمل بمقتضى العشق من الأشياء المحرمة كالنظر واللمس والفعل القبيح. وفي الامتناع عن المشتهي دليل على الإيمان بوجود الناهي كصبر العطشان في رمضان عن الماء، فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم. وتسليم النفوس إلى القتل والجهاد دليل على اليقين بالجزاء. ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد فأين العقل المتأمل. كلا. لو تأمل وصبر قليلا لربح كثيرا. ولو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء والعوام لطال. ومن أحسن الناس حالا في ذلك، ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يوما وإشتد جوعه فجلس على الجسر وقد أمضه الجوع. فمرت الخيل مزينة بالحرير والديباج فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لعلي بن بلتق غلام الخليفة. فمرت جوار مستحسنات فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لعلي بن بلتق. فمر به رجل فرآه وعليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين فأخذهما ورمى بهما، وقال: هذه لعلي بن بلتق وهذان لي؟ نسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول ويعترض ويفعل أهل هذه المجاعة. فيا معترضين وهم في غاية النقص على من لا عيب في فعله. أنتم في البداية من ماء وطين، وفي الثاني من ماء مهين، ثم تحملون الأنجاس على الدوام، ولو حبس عنكم الهواء لصرتم جيفا. وكم من رأى يراه حازمكم فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه. ثم لمعاصي منكم زائدة في الحد. فما فيكم إلا الإعتراض على المالك الحكيم؟. ولو لم يكن في هذه البلاوي إلا أن يراد منا التسليم لكفى. ولو أنه أنشأ الخلق ليدلوا على وجوده ثم أهلكهم ولم يعدهم كان ذلك له، لأنه مالك، لكنه بفضله وعد بالإعادة والجزاء والبقاء الدائم في النعيم. فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته فانسب إلى قصور علمك. وقد ترى مقتولا ظلما، وكم قد قتل وظلم حتى قوبل ببعضه. وقل أن يجري لأحد آفة إلا ويستحقها غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا ورأينا الجزاء وحده. فسلم تسلم، واحذر كلمة إعتراض أو إضمار، فربما أخرجتك من دائرة الإسلام.