صيد الخاطر/فصل: من ذاق طعم المعرفة وجد طعم المحبة
فصل: من ذاق طعم المعرفة وجد طعم المحبة
لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم، هتف بي هاتف من باطني: دعني من شرح الصبر على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت. وصف حال الرضى، فإني أجد نسيما من ذكره فيه روح للروح. فقلت: أيها الهاتف اسمع الجواب. وافهم الصواب. إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي. أما العارف فتقل عنده المرارة، لقوة حلاوة المعرفة. فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار، حلاوة، كما قال القائل:
عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني لما تحب أحب
وقال بعض المحبين في هذا المعنى:
ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا
فصاح بي الهاتف: حدثني بماذا أرضى؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته؟ فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضى، مما لا يدخل؟ فقلت له: نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد. إرض بما كان منه، فأما الكسل والتخلف فذاك منسوب إليك، فلا ترض به من فعلك. وكن مستوفيا حقه عليك، مناقشا نفسك فيما بقربك منه، غير راض منها بالتواني في المجاهدة. فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها، فكن راضيا بها، كما قالت رابعة ـ رحمة الله عليها ـ وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل، فقيل: هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا؟ فقالت: إن الراضي لا يتحيز ومن ذاق طعم المعرفة، وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضى عنده ضرورة. فينبغي الإجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة. فقد قال سبحانه وتعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به. فذلك الغنى الأكبر.. ووافقراه...