صيد الخاطر/فصل: جهاد النفس
فصل: جهاد النفس
تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقا من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين: أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها. مثل أن يمنعها مباحا فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح. وأخفى من ذلك أن يرى ـ بمنعه إياها ما منع ـ أنه قد فصل سواه ممن لم يمنعها ذلك وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها. والوجه الثاني، أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله ما تشتهيه. ونحن كالوكلاء في حفظها. لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر. ثم رب شد أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها. وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلا من الحلاوة، ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب. ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعا، ومن لقمة ربما حرمت لقمات. فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها ـ بل يرخى لها في وقت والطول بيده. فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها. فإذا رآها مالت ردها باللطف، فإن ونت وأبت فبالعنف. ويحبسها في مقام المداراة، كالزوجة التي مبنى عقلها على الضعف والقلة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب. وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم. هذه مجاهده من حيث العمل، فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق، وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول: ألست التي قال فيك: خلقتك بيدي، واسجدت لك ملائكتي، وارتضاك للخلافة أرضه، وراسلك واقترض منك واشترى. فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة، تؤلمك بقة؟ وإن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد. وأن ونت في العمل، حدثها بجزيل الأجر. وإن مالت إلى الهوى، خوفها عظيم الوزر. ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية، كقوله تعالى: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم والمعنوية كقوله تعالى: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق. فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل.