صيد الخاطر/فصل: الحر تكفيه الإشارة
فصل: الحر تكفيه الإشارة
ربما أخذ المتيقظ بيت شعر، فأخذ منه إشارة فإنتفع بها. قال الجنيد: ناولني سري رقعة مكتوب فيها سمعت حاديا في الطريق مكة شرفها الله تعالى بقول.
أبكي وما يدريك ما يبكيني أبكي حذارا أن تفارقيني
وتقطعي حبلي وتهجريني
فانظر رحمك الله ووفقك، إلى تأثير هذه الأبيات عند سري حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما إطلع عليه، ولم يصلح للإطلاع على مثلها إلا الجنيد. فإن أقواما فيهم كثافة طبع، وخشونة فهم. قال بعضهم لما سمع مثل هذه. إلا م يشار بهذه؟ إن كان إلى الحق، فالحق عز وجل لا يشار بلفظ تأنيث. وإن كان إلى إمرأة فأين الزهد؟ ولعمري إن هذا حداء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا، ولذلك ينهى عن سماع القصائد وأقوال أهل الغناء، لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس، وغلبات الهوى. ومن أين لنا مثل الجنيد وستري؟ وإذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان. وأما إعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب: أن سيرا لم يأخذ الإشارة من اللفظ، ولم يقس ذلك على مطلوبه فيصيره تأنيسا أو تذكيرا. وإنما أخذ الإشارة من المعنى، فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات، فيقول: أبكي حذارا من إعراضك وإبعادك. فهذا الحاصل له. وما التفت قط إلى تذكير ولا إلى لفظ تأنيث. فافهم هذا. وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بكان وكان. فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع إمرأة تنشد: غسلت له طول الليل فركت له طول النهار خرج يعاين غيري زلق وقع في الطين فأخذ من إشارة معناها كان يا عبدي إني حسنت خلقك، وأصلحت شأنك، وقومت بنيتك، فأقبلت على غيري فانظر عواقب خلافك لي. وقال ابن عقيل: وسمعت إمرأة تقول، من هذا المكان، وكانت كلمة بقيت في قلقها مدة.:
كم كنت با الله أقول لك لذا التواني غائله
وللقبيح خميرة تبين بعد قليل
قال ابن عقيل: فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غدا تبين خمايرها بين يدي الله تعالى.