صيد الخاطر/فصل: الحذر من الإفراط في إظهار النعم
فصل: الحذر من الإفراط في إظهار النعم
قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس، فما أحد إلا وهو يحب أن يكون أعلى درجة من غيره. فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه، فينبغي أن يتجلد بستر تلك النكبة، لئلا يرى بعين نقص. ليتجمل المتعفف حتى لا يرى بعين الزحمة، وليتحامل المريض لئلا يشمت به ذو العافية. وقد قال ﷺ لأصحابه حين قدومه مكة وقد أخذتهم الحمى فخاف أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي، فقال: رحم الله من أظهر من نفسه الجلد، فيرملوا ـ والرمل شدة السعي ـ. وزال ذلك السبب وبقي الحكم، ليتذكر السبب فيفهم معناه. استأذنوا على معاوية وهو في الموت، فقال لأهله: أجلسوني، فقعد متمكنا يظهر العافية، فلما خرج العواد أنشد:
وتجلدي للشامتين أيهم أني لريب الدهر أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء، لئلا يتحملوا معى النوائب شماتة الأعداء، وإنها لأشد من كل نائبة. كان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية. بلى، ثم نكتة ينبغي التفطن لها، ربما أظهر الإنسان كثرة المال وسبوغ النعم، فأصابه عدوه بالعين، فلا يفي ما تبجح به بما يلاقي من انعكاس النعمة. والعين لا تصيب إلا ما يستحسن، ولا يكفي الاستحسان في إصابة العين حتى يكون من حاسد، ولا يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع. فإذا اجتمعت هذه الصفات خيف من إصابة العين، فليكن الإنسان مظهرا للتجميل مقدار ما يأمن إصابة العين ويعلم أنه في خير. وليحذر الإفراط في إظهار النعم، فإن العين هناك محذورة. وقد قال يعقوب لنبيه عليهم السلام لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة. وإنما خاف عليهم العين. فليفهم هذا الفصل فإنه ينفع من له تدبر.