صيد الخاطر/فصل: دع التصنع في الوعظ
فصل: دع التصنع في الوعظ
تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ، يعتقدها العوام وجهال العلماء قربة وهي منكر وبعد. وذاك أن المقرئ يطرب ويخرج الألحان إلى الغناء، والواعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون وليلى، فيصفق هذا، ويخرق ثوبه هذا، ويعتقدون أن ذلك قربة ومعلوم أن هذه الألحان كالموسيقى، توجب طربا للنفوس ونشوة، فالتعرض بما يوجب الفساد غلط عظيم. وينبغي الإحتساب على الوعاظ في هذا، وكذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون الأحزان ليكثر بكاء النساء، فيعطون على ذلك الأجرة. ولو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك، وهذه أضداد للشرع. قال ابن عقيل: [ حضرنا عزاء رجل قد مات، فقرأ المقرئ: يا أسفى على يوسف فقلت له: [ هذه نياحة بالقرآن ]. وفي الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة والمحبة، فترى الحائك والسوقي الذي لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله تعالى. والصافي حالا منهم ـ وهو أصلحهم ـ يتخايل بوهمه شخصا هو الخالق فيبكيه شوقه إليه لما يسمع من عظمته ورحمته وجماله. وليس ما يتخايلونه المعبود، لأن المعبود لا يقع في خيال. وبعد هذا فالتحقيق مع العوام صعب، ولا يكادون ينتفعون بمر الحق إلا أن الواعظ مأمور بألا يتعدى الصواب، ولا يتعرض لما يفسدهم، بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه، وهذا يحتاج إلى صناعة، فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقاد ببيت من الشعر. وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ ليجمع مطالبهم، لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ، قدر الملح في الطعام، ثم يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق. وقد حضر أحمد بن حنبل، فسمع كلام الحارث المحاسبي فبكى، ثم قال: [ لا يعجبني الحضور ]، وإنما بكى لأن الحال أوجبت البكاء. وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم. وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم، لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم، فرأوا حضور القصص صادا لهم، واليوم كثر الإعراض عن العلم، فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ، يرده عن ذنب، ويحركه إلى توبة، وإنما الخلل في القاص، فليتق الله عز وجل.