صيد الخاطر/فصل: أهل البدع والتشبيه
فصل: أهل البدع والتشبيه
اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول، محروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل، وكذلك كل الشرائع. إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال. مثل ما أثر عند النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام فتأملوا الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر، فنسبوا الفاعل إلى الإلهية. ولو تأمل ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص والحاجات، وهذا القدر يكفي في عدم صلاح إلهية، فيعلم حينئذ ما جرى على يديه فعل غيره. وقد يؤثر ذلك في الفروع. مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوه عشرين يوما، ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم. ومن هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول والفروع، وقد قارب الضلال في أمتنا هذه المسالك، وإن كان عمومهم قد حفظ من الشرك والشك والخلاف الظاهر الشنيع لأنهم أعقل الأمم وأفهمها. غير أن الشيطان قارب بهم ولم يطمع في إغراقهم، وإن كان قد أغرق بعضهم في بحار الضلال. فمن ذلك أن الرسول ﷺ: جاء بكتاب عزيز من الله عز وجل قيل في صفته: ما فرطنا في الكتاب من شيء وبين ما عساه بشكل مما يحتاج إلى بيانه بسنته كما قيل له: لتبين للناس ما نزل إليهم فقال بعد البيان: تركتكم على بيضاء نقية. فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه، ولم يرضوا بطريقة أصحابه، فبحثوا ثم إنقسموا. فمنهم: من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها، فإن القرآن والحديث يثبتان الإله عز وجل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس كقوله تعالى: استوى على العرش وقوله تعالى: بل يداه مبسوطتان وقوله تعالى ولتصنع على عيني وقول النبي ﷺ: ينزل الله إلى السماء الدنيا ويبسط يده لمسيء الليل والنهار، ويضحك ويغضب. كل هذه الأشياء ـ وإن كان ظاهرا يوجب تخايل التشبيه، فالمراد منها إثبات موجود فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها، قطع ذلك بقوله: ليس كمثله شيء. ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الأكبر، وقد قصد الشرع تقرير وجوده فقال: إنا أنزلناه نزل به الروح الأمين فذرني ومن يكذب بهذا الحديث وهذا كتاب أنزلناه وأثبته في القلوب بقوله تعالى: في صدور الذين أوتوا العلم وفي المصاحف قوله تعالى: في لوح محفوظ وقول رسول الله ﷺ: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو. فقال قوم من هؤلاء: مخلوق فأسقطوا حرمته من النفوس، وقالوا: لم ينزل، ولا يتصور نزوله وكيف تنفصل الصفة عن الموصوف، وليس في المصحف إلا حبر وورق؟ فعادوا على ما تعب الشرع في إثباته بالمحو. كما قالوا: إن الله عز وجل ليس في السماء، ولا يقال إستوى على العرش. ولا ينزل إلى السماء الدنيا، بل ذاك رحمته، فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها، وليس هذا مراد الشرع. وجاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع، بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا: الله على العرش، ولم يقنعوا بقوله: ثم استوى على العرش. ودفن لهم أقوام من سلفهم دفائن، ووضعت لهم الملاحدة أحاديث، فلم يعلموا ما يجوز عليه ممالا يجوز، فأثبتوا بها صفاته، وجمهور الصحيح منها آت على توسع العرب، فأخذوهم على الظاهر، فكانوا في ضرب المثل كجحا فإن أمه قالت له: إحفظ الباب، فقلعه ومشى به، فأخذ ما في الدار، فلامته أمه. فقال: إنما قلت إحفظ الباب، وما قلت إحفظ الدار. ولما تخايلوا صورة عظيمة على العرش، أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على العرش، مثل قوله: [ ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة ]. فقالوا: ليس المراد به دنو الإقتراب، وإنما المراد قرب المنزل والحظ. وقالوا في قوله تعالى: إلا أن يأتيهم الله في ظلل: هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات. فهم يحلونه عاما ويحرمونه عاما. ويسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات، فإنه قد أضاف إليه النفخ والروح. وأثبتوا خلقه باليد، فلو قالوا خلقه لم يمكن إنكار هذا بل قالوا هي صفة تولى بها خلق آدم دون غيره. فأي مزية كانت تكون لآدم؟ فشغلهم النظر في فضيلة آدم، عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما لا يليق به. فإنه لا يجوز عليه المس، ولا العمل بالآلات، وإنما آدم أضافه إليه، فقالوا: نطلق على الله تعالى إسم الصورة لقوله: خلق آدم على صورته. وفهموا هذا الحديث وهو قوله عليه السلام: إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا يقل قبح الله وجهك ولا وجها أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته. فلو كان المراد به الله عز وجل لكان وجه الله سبحانه يشبه وجه هذا المخاصم لأن الحديث كذا جاء ـ ولا وجها أشبه وجهك ـ ورووا حديث خولة بنت حكيم: وإن آخر وطئة وطئها الله بوج وما علموا النقل ولا السير وقول الرسول ﷺ: اللهم أشدد وطأتك على مضر، وأن المراد به آخر وقعة قاتل فيها المسلمون بوج، وهي غزاة حنين. فقالوا: نحمل الخبرعلى ظاهره، وأن الله وطئ ذلك المكان. ولا شك أن عندهم أن الله تعالى كان في الأرض ثم صعد إلى السماء، وكذلك قالوا في قوله إن الله لا يمل حتى تملوا قالوا: يجوز أن الله يوصف بالملل فجهلوا اللغة وما علموا أنه لو كانت حتى ههنا للغاية لم تكن بمدح لأنه إذا مل حين يمل فأي مدح، وإنما هو كقول الشاعر:
جلبت مني هزيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا
والمعنى لا يمل وإن ملوا. وقالوا في قوله عليه الصلاة السلام: الرحم شجنة من الرحمن تتعلق بحقوي الرحمن. فقالوا ـ الحقوا ـ صفة ذات وذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما قبلت. وعمومها وضعته الملاحدة كما يروى عن عبد الله بن عمرو. وقال: [ خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر ] فقالوا: نثبت هذا على ظاهره. ثم أرضوا العوام بقولهم: ولا نثبت جوارح، فكأنهم يقولون فلان قائم وما هو قائم. فاختلف قولهم هل يطلق على الله عز وجل إنه جالس أو قائم كقوله تعالى: قائما بالقسط. وهؤلاء أخس فهما من جحا لأن قوله قائما بالقسط لا يراد به القيام وإنما هو كما يقال: الأمير قائم بالعدل. وإنما ذكرت بعض أقوالهم لئلا يسكن إلى شيء منها. فالحذر من هؤلاء عبادة. وإنما الطريق طريق السلف. على أنني أقول لك قد قال أحمد بن حنبل رحمه الله عليه [ من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال ]. فلا ينبغي أن تسمع من معظم في النفوس شيئا في الأصول فتقلده فيه. ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة فقل: هذا من الراوي، لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه. فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول ولا أبوبكر ولا عمر رضي الله عنهما. فهذا أصل يجب البناء عليه فلا يهولنك ذكر معظم في النفوس. وكان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم، وأنما أدخل أقوام فيه ما تأذينا به. ولقد أدخل المتزهدون في الدين ما ينفر الناس، حتى إنهم يرون أفعالهم فيستعبدون الطريق. وأكثر أدلة هذه الطريق القصاص، فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم وهو لا يحسن الوضوء كلموه بدقائق الجنيد، وإرشادات الشبلي. فرأى ذلك العامي أن الطريق الواضح لزوم زاوية وترك الكسب للعائلة ومناجاة الحق في خلوة على زعمه. مع كونه لا يعرف أركان الصلاة، ولا أدبه العلم، ولا قوم أخلاقه شيء من مخالطة العلماء. فلا يستفيد من خلوته إلا كما يستفيد الحمار من الإصطبل. فأن امتد عليه الزمان في تقلله زاد يبسه فربما خايلت له الماليخوليا أشباحا يظنهم الملائكة ثم يطأطئ رأسه، ويمد يده للتقبيل. فكم قد رأينا من أكار ترك الزرع وقعد في زاوية، فصار إلى هذه الحالة فاستراح من تعبه. فلو قيل له: عد مريضا، قال: مالي عادة. فلعن الله عادة تخالف الشريعة. فيرى العامة بما يورده القصاص أن طريق الشرع هذه، لا التي عليها الفقهاء، فيقعون في الضلال. ومن المتزهدين من لا يبالي عمل بالشرع أم لا. ثم يتفاوت جهالهم، فمنهم من سلك مذهب الإباحة ويقول: الشيخ لا يعارض، وينهمك في المعاصي. ومنهم: من يحفظ ناموسه فيفي بغير علم، لئلا يقال: الشيخ لا يدري. ولقد حدثني الشيخ أبو حكيم رحمه الله: أن الشريف الدحالتي ـ وكان يقصد فيزار ويتبرك به ـ حضر عنده يوما فسأل أبو حكيم: هل تحل المطلقة ثلاثا إذا ولدت ذكرا؟ قال: فقلت: لا والله، فقال لي الشريف: اسكت فو الله لقد أفتيت الناس بأنها تحل من ههنا إلى البصرة. وحكى لي الشيخ أبو حكيم: أن جد آذاذ الحداد، وكان يتوسم بالعلم، جاءت إليه امرأة فزوجها من رجل، ولم يسأل عن انقضاء العدة، فاعترضها الحاكم وفرق بينها وبين الزوج، وأنكر على المزوج، فلقيته المرأة. فقالت يا سيدي، أنا امرأة لا أعلم، فكيف زوجتني؟ فقال [ دعي حديثهم، ما أنت إلا طاهرة مطهرة ]. وحدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين، ويقول: والله ما سهوت، ولكن أفعله احترازا، فقال له الفقيه: قد بطلت صلاتك كلها، لأنك زدت سجودا غير مشروع. ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصرفة فإنهم سلكوا طرقا أكثرها تنافي الشريعة، وأهل التدين منهم يقللون ويخففون. وهذا ليس بشرع، حتى إن رجلا كان قريبا من زماني يقال له كثير، دخل إلى جامع المنصور وقال: عاهدت الله عهدا ونقضته، فقد ألزمت نفسي ألا تأكل أربعين يوما. فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام في العشر الرابع، أشرف على الموت، قال: فما إنقضت حتى تفرغ، فصب في حلقه ماء فسمعنا له نشيشا كنشيش المقلاة، ثم مات بعد أيام. فأنظروا إلى هذا المسكين وما فعله به جهلة. ومنهم من فسح لنفسه في كل ما يحب من التنعم واللذات، واقتنع من التصوف بالقميص والفوطة والعمامة اللطيفة ولم ينظر من أين يأكل ولا من أين يشرب، وخالط الأمراء من أرباب الدنيا، ولباس الحرير، وشراب الخمور، حفظا لماله وجاهه. ومنهم أقوام سننا لهم تلقوها من كلمات أكثرها لا يثبت. ومنهم من أكب على سماع الغناء والرقص واللعب، ثم إنقسم هؤلاء، فمنهم من يدعي العشق فيه، ومنهم من يقول بالحلول، ومنهم من يسمع على وجه الهوى واللعب. وكلا الطريقين يفسد العوام الفساد العام. وهذا الشرح يطول. وقد صنفت كتبا ترى فيها البسط الحسن إن شاء الله تعالى، منها [ تلبيس إبليس ]. والمقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل فإن رزقت فهما له فأنت تتبع الرسول ﷺ وأصحابه، وتترك بنيات الطريق ولا تقلد في دينك الرجال. فإذا فعلت فإنك لا تحتاج إلى وصية أخرى. واحذر جمود النقلة، وإنبساط المتكلمين، وجموع المتزهدين، وشره أهل الهوى، ووقوف العلماء على صورة العلم من غيل عمل، وعمل المتعبدين بغير علم. ومن أيده الله تعالى بلطفه، رزقه الفهم وأخرجه عن ربقة التقليد، وجعله أمة وحده في زمانه، لا يبالي بمن عبث، ولا يلتفت إلى من لام، قد سلم زمامه إلى دليله في واضح السبيل. عصمنا الله وإياكم من تقليد المعظمين، وألهمنا إتباع الرسول ﷺ، فإنه درة الوجود، ومقصود الكون ﷺ وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ورزقنا إتباعه مع أتباعه.