صيد الخاطر/فصل: في العزلة طيب العيش
فصل: في العزلة طيب العيش
العزلة عن الخلق سبب طيب العيش. ولا بد من مخالطة بمقدار، فدار العدو واستحله، فربما كادك فأهلكك. وأحسن إلى من أساء إليك. وإستعن على أمورك بالكتمان، ولتكن الناس عندك معارف، فأما أصدقاء فلا. لأن أعز الأشياء وجود صديق، ذاك أن الصديق يجب أن يكون في مرتبة ممائل. فإن صادفته عاميا لم تنتفع به لسوء أخلاقه، وقلة علمه وأدبه، وإن صادفت مممماثلا أو مقاربا حسدك. وإذا كان لك يقظة تلمحت من أفعاله وأقواله ما يدل على حسدك لتعرفنهم في لحن القول. وإذا أردت تأكيد ذلك فضع عليه من يضعك عنده. فلا يحرج إليه إلا بما في قلبه. فإن أردت العيش فابعد عن الحسود لأنه يرى نعمتك، فربما أصابها بالعين. فإن إضطررت إلى مخالطته فلا تفش له سرك ولا تشاورهه، ولا يغرنك تملقه لك، ولا ما يظهره من الدين والتعبد، فإن الحسد يغلب الدين. وقد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل. وإن أخوة يوسف باعوه بثمن بخس. وكان أبو عامر الراهب من المتعبدين العقلاء، وعبد الله بن أبي من الرؤساء، أخرجهما حسد رسول الله ﷺ إلى النفاق وترك الصواب. ولا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما هو فيه، فإنه في أمر عظيم متصل لا يرضيه إلا زوال نعمتك. وكلما إمتدت إمتد عذابه، فلا عيش له. وما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد والغل من صدورهم. ولولا أنه نزع تحاسدوا وتنغص عيشهم.