صيد الخاطر/فصل: فلينظر أحدكم من يخالل
فصل: فلينظر أحدكم من يخالل
رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء، فبحثت بالتجارب عنهم، فإذا أكثرهم حساد على النعم، وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقا، ولا يواسون من مالهم صديقا. فتأملت الأمر، فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئا يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها ليكون أنسه به. ينبغي أن يعد الخلق كلهم معارف، ليس فيهم صديق، بل تحسبهم أعداء. ولا تظهر سرك لمخلوق منهم، ولا تعدن من يصلح لشدة لا ولدا ولا أخا ولا صديقا. بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة بالتوقي لحظة. ثم أنفر عنهم، وأقبل على شأنك، متوكلا على خالقك. فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه. فليكن جليسك وأنيسك، وموضع توكلك وشكواك. فإن ضعف بصرك فإستغث به، وإن قل يقينك فسله القوة. وإياك أن تميل إلى غيره، فإنه غيور، وأن تشكو من أقداره، فربما غضب ولم يعتب. أوحى الله عز وجل إلى يوسف عليه السلام: [ من خلصك من الجب؟ من فعل؟ من فعل؟ قال: أنت ]. قال: فلم ذكرت غيري؟ فلأطيلن حسبك، أو كما قال. هذا وإنما تعرض يوسف عليه السلام بسبب مباح اذكرني عند ربك ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم. وما أعرف العيش إلا لمن يعرفه ويعيش معه، ويتأدب بين يديه في حركاته وكلماته كأنه يراه. ويقف على باب طرفه حارسا من نظرة لا تصلح، وعلى باب لسانه حافظا له من كلمة لا تحسن، وعلى باب قلبه حماية لمسكنه من دخول الأغيار. ويستوحش من الخلق شغلا به، وهذا يكون على سيرة الروحانيين. فأما المخلط فالكدر غالب عليه، والمحق لا يطلب إلا الأرفع. قال القائل:
ألا لا أحب السير إلا مصاعدا ولا البرق إلا أن يكون يمانيا