صيد الخاطر/فصل: التوبة النصوح
فصل: التوبة النصوح
من أراد دوام العافية والسلامة، فليتق الله عز وجل. فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى وإن قل إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة. ومن الإغترار أن تسيء فترى إحسانا فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: من يعمل سوءا يجز به. وربما قالت النفس: إنه يغفر فتسامحت. ولا شك أنه يغفر ولكن لمن يشاء. وأنا أشرح لك حالا فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة. وذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل ولا عزم على العود بعد الفعل ثم انتبه لما فعل فإستغفر الله كان فعله وإن دخله عمدا في مقام خطأ، مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع فيطلق النظر ويتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم تقصد. فهذا معنى قوله تعالى: إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. فأما المداوم على تلك النظرة المردد لها، المصر عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي مبارز بالخلاف، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره. ومن البعد ألا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا قائم أتأمل حدثا نصرانيا، فقال: [ ما هذا؟ لترين غبها ولو بعد حين، ] فنسيت القرآن بعد أربعين سنة. واعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر. ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الإختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض. قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحل لي، ثم كنت أنتظر العقوبة. فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه، فلقيت المشاق، ثم أعقب ذلك موت أعز الخلق عندي، وذهاب أشياء كانت لها وقع عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة فصلح حالي، ثم عاد الهوى فحملني على إطلاق بصري مرة أخرى، فطمس قلبي وعدمت رقته، وأستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول، ووقع لي تعويض عن المفقود بما كان فقده أصلح، فلما تأملت ما عوضت وما سلب من صحت من ألم تلك السياط. فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى فالعقوبة مرة. واعلموا أن ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة. وبالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى المبتلي كان قليلا في نيل رضاه، ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا مع إعراضه عنكم كانت سلامتكم هلاكا، وعافيتكم مرضا، وصحتكم سقما، والأمر بآخره، والعاقل من تلمح العواقب. وصابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء، فما أسرع زواله. والله الموفق، إذ لا حول إلا به، ولا قوة إلا بفضله.