صيد الخاطر/فصل: العلم أشرف مكتسب
فصل: العلم أشرف مكتسب
الواجب على العاقل أن يتبع الدليل ثم لا ينظر فيما لا يجني من مكروه. مثاله أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق عز وجل وملكه وتدبيره. فإذا رأى الإنسان عالما محروما، وجاهلا مرزوقا، أوجب عليه الدليل المثبت حكمة الخالق التسليم إليه، ونسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه. فإن أقواما لم يفعلوا ذلك جهلا منهم، أفتراهم بماذا حكموا؟ بفساد هذا التدبير؟ أليس بمتقضى عقولهم؟ أو ما عقولهم من جملة مواهبه؟ فكيف يحكم على حكمته وتدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالإضافة إليه أنقص من كل شيء؟ ولقد بلغني عن اللعين ابن الراوندي أنه كان جالسا على الجسر وفي يده رغيف يأكله، فجازت خيل وأموال، فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان الخادم. ثم جازت خيل وأموال، فقال: لمن هذه؟ فقيل لفلان الخادم. فلما مر الخادم رأى شخصا محتقرا، فرمى الرغيف إلى ناحيته وقال: وهذا لفلان. ما هذه القسمة. ولو فكر المعترض لبانت له وجوه أقلها جهله بمن يدعي معرفته وقلة تعظيمه له. وذلك يوجب عليه أشد مما كان فيه من تضييق العيش، ولكنه ميراث إبليس، حيث اعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه السلام. فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه، ومن مملوك يتيه على سيده. ومما ينبغي أن يتبع فيه الدليل، ولا يلتفت إلى ما جنت الحال، أن العلم أشرف مكتسب. وقد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا، ففأزوروا على العلم وقالوا: لا فائدة فيه، وذلك لجهلهم بمقدار العلم، فإن تابع الدليل لا يبالي ما جنى. وإنما يبين الاختبار بفقد الغرض. ولو لم يكن من الدليل على صدق نبينا ﷺ إلا إعراضه عن الدنيا وتضييق العيش عليه. ثم لن يخلف شيئا، وحرم أهله الميراث، لكفاءة ذلك دليلا على صدق طلبه لمطلوب آخر. وربما رأى الجاهل قوما من العلماء يفعلون خطيئة فيزدري على العلم ويدعيه ناقصا، وهذا غلط كبير، فليتق الله العاقل وليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة الله تعالى والعمل بالعلم، وليعلم أن الابتلاء في الصبر على فوات المطلوبات، وليلزم اتباع الدليل وإن جنى مكروها والله الموفق.