صيد الخاطر/فصل: التماس رضى الله وإن سخط الناس
فصل: التماس رضى الله وإن سخط الناس
العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل، وإن غضب الخلق. وكل من يحفظ جانب المخلوقين، ويضيع حق الخالق، يقلب الله قلب الذي قصد أن يرضيه فيسخطه عليه. قال المأمون لبعض أصحابه: [ لا تعص الله بطاعتي فيسلطني عليك ]. ولما بلغ طاهر بن الحسين فيما فعل بالأمين وفتك به، وصلب رأسه وإن كان ذلك عن إرادة المأمون، ولكن بقى أثر في قلبه، فكان المأمون لا يقدر أن يراه. ولقد دخل عليه يوما فبكى المأمون، فقال له طاهر: لم تبكي لا أبكى الله عينك، فلقد دانت لك البلاد؟ فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وسره حزن، ولن يخلو أحد من شجن. فلما خرج طاهر أنفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم، وسأله أن يسأل المأمون لم بكى؟ فلما تغذى المأمون قال: يا حسين إسقني. قال لا والله لا أسقيك حتى تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر؟ قال: يا حسين وكيف عنيت بهذا حتى سألت عنه؟ قال: لغمي بذلك. قال: يا حسين أمر إن خرج من رأسك قتلك. قال: يا سيدي ومتى أخرجت لك سرا؟ قال: إني ذكرت أخي محمدا وما ناله من الذلة، فخنقني العبرة، فاسترحت إلى إفاضتها ولن يفوت طاهرا مني ما يكره. فأخبر حسين طاهرا بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد. فقال له إن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه. قال: سأفعل. فدخل على المأمون فقال: ما بت البارحة. قال: ولم؟ قال: لأنك وليت غسان بن عباد خراسان. وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج خارج من الترك فيصطلمه. قال: فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين. فعقد له فمضى، فبقي مدة ثم قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة. فقال له صاحب البريد: ما دعوت لأمير المؤمنين. قال: سهو فلا تكتب. ففعل ذلك في الجمعة الثانية والثالثة. فقال له: لا بد أن أكتب لئلا يكتب التجار ويسبقوني. قال: أكتب. فكتب. فدعا المأمون أحمد بن أبي خالد وقال: إنه لم يذهب على إحتيالك في أمر طاهر، وأنا أعطي الله عهدا إن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي لتذمن عقباك. فشخص وجعل يتلوم في الطريق ويعتل بالمرض، فوصل إلى الري وقد بلغته وفاة طاهر. قلت: ولما خرج الراشد من بغداد وأرادوا تولية المقتفى، شهد جماعة من الشهود بأن الراشد لا يصلح للخلافة، فنزعوه، وولى المقتفي. فبلغني أنه ذكر للمقتفي بعض الشهود فذمه، وقال: كان فيمن أعان على أبي جعفر. وعلى ضد هذا، كل من يراعي جانب الحق والصواب، يرضى عنه من سخط عليه. ولقد حدثني الوزير ابن هبيرة أن المستنجد بالله كتب إليه كتابا وهو يومئذ ولي عهد، وأراد أن يستره من أبيه قال فقلت للواصل به: والله ما يمكنني أقرؤه ولا أجيب عنه. فلما ولي الخلافة دخلت عليه فقلت: أكبر دليل على صدقي وإخلاصي أني ما حابيتك في أبيك. فقال: صدقت أنت الوزير. وحدثني بعض الأصدقاء أن قوما ألحقوا إلى المخزن بعض دين لهم ليستخلص، فقال المسترشد لصاحب المخزن: خلصه لهم، وخذ ما ضمنوا لنا. فأحضر ابن الرطبي وعرض الأمر عليه، فقال: هذا أمر بظلم، وما أحكم فيه. فقال: إن السلطان قد تقدم، قال: ما أفعل. فأحضر قاضيا آخر، فبت الحكم، فأخبر الخليفة بالحال. فقال: أما ابن الرطبي فيشكر على ما قال. وأما الآخر فيعزل وذلك لأنه بان له أن الحق ما قاله ابن الرطبى. وكذلك ما طلبه السلطان من أن يلقب ملك الملوك، فاستفتى الفقهاء فأجازوا ذلك، وامتنع من إجازته الماوردي، فعظم قدره عند السلطان. ومثل هذا ـ إذا تتبع ـ كثير. فينبغي أن يحسن القصد لطاعة الخالق، وإن سخط المخلوق، فإنه يعود صاغرا. ولا يسخط الخالق، فيفوت الحظان جميعا.