الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/7
الكلام في الوقف واللفظ
من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال الله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وأن موسى عليه السلام سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمهم بذلك لأنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر
والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان ويقرون بأن الله مقلب القلوب يقرعون بشفاعة رسول الله ﷺ وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحشر حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق أسماء الله هي الله ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله ينزلهم حيث شاء ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوما من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله ﷺ وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله ﷺ
ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ويأخذون بقضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله تعالى عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المديون أفضل الناس كلهم بعد النبي ﷺ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله ﷺ وإن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من متسغفر كما جاء الحديث عن رسول الله ﷺ ويأخذون بالكتاب والسنة
كما قال الله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }
ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحصر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث نبيه ﷺ إلى آخر عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك
ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقوا بخروج الدجال وأن عيسى بن مريم يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال الله وأن السحر كائن موجود في الدنيا ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم ومواراتهم ويقرون بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا كانت أو حراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ القرآن وأن الأطفال أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد عالم العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمور بيد الله تعالى
ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله تعالى به والإنتهاء عما نهى الله عنه وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين والنصحية لجماعة المسلمين واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والمعصية والفخر والكبر والازدراء على الناس والعجب ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية ونفقة المأكل والمشرب
وقال فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير
قال: فأما أصحاب عبد الله بن سعيد فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الباري لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عزيزا عظيما جليلا كبيرا كريما مريدا متكلما جوادا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفاة لله تعالى وقال ويقولون أسماء الله تعالى وصفاته لا يقال هي غيره ولا يقال أن علمه غيره كما قالت الجهمية ولا يقال أن علمه هو هو كما قال بعض المعتزلة وكذلك قولهم في سائر الصفات فذكر الأشعري أن أصحاب ابن كلاب يقولون بأكثر قول أهل الحديث وأن لهم زيادة أخرى وذلك دليل على أنهم ينقصون عن أقوالهم فأما قول ابن كلاب في القرآن فلم يذكره الأشعري إلا عنه وحده وجعل له ترجمة فقال:
وهذا قول عبد الله بن كلاب
قال عبد الله بن كلاب إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وأن الكلام ليس بحرف ولا صوت ولا ينفسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير وأنه معنى واحد بالله تعالى وأن الرسم هو الحروف المتغايرة وهو قراءة القارىء وأنه خطأ أن يقال كلام الله هو هو أن بعضه أو غيره وأن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير كما أن ذكرنا لله يختلف ويتغاير والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو عبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا وكذلك سمي أمرا لعلة وسمي نهيا لعلة وخبر العلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمي كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي بها سمي كلامه أمرا وكذلك القول في تسميته نهيا وخبرا وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا وكذلك لم يزل ناهيا
فهذه حكاية الأشعري عن ابن كلاب أنه يقول إن الله لم يزل متكلما وأن كلامه صفة له قائم به كعلمه وقدرته وكذلك سائر الصفات التي يثبتها لله تعالى هي عنده قديمة بالله غير متعلقة بمشيئته وقدرته
وأما الجهمية المحضة من المعتزلة وغيرهم فعندهم لا يقوم به شيء من هذه الصفات ولا غيرها بل كل ما يضاف إليه فإنما يعود معناه إلى أمر مخلوق منفصل عنه كما قالوه في الكلام
ولما قال أولئك لهؤلاء إن الحروف لا تكون إلا متعاقبة ولا بد لها من مخارج وكلاهما يمنع قدمها قال لهم هؤلاء هذا بعينه وارد في المعنى فإن المعاني مطابقة للحروف في الترتيب وهي مفتقرة إلى محل كافتقار الحروف فيما قيل في أحدهما قيل في الآخر
ولما زعم أولئك أن الكلام كله هو معنى واحد قال هؤلاء إن جاز أن يعقل أن المعاني المتنوعة تعود إلى حرف واحد جاز أن يعقل أن الحروف المتنوعة تعود إلى حرف واحد وقالوا لهم أيضا الترتيب نوعان ترتيب ذاتي وترتيب وجودي فالأول كترتيب العلم على الحياة والمعلول على العلة التامة وهؤلاء الذين فسروا قولهم بأنه غير مخلوق بأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته سواء قالوا إنه معنى أو هو حروف أو هو معنى وحرف
يقولون إن المخلوق هو المحدث وهو ما يحدثه الله تعالى منفصلا عنه وأنه ماثم إلا قديم أو مخلوق وما كان قديما فإنه لازم لذات الله تعالى لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون فعلا له وما كان محدثا فهو المخلوق المنفصل عن الله تعالى وهو المتعلق بمشيئته وقدرته ولا يقوم عندهم بذات الله فعل ولا كلام ولا إرادة ولا غير ذلك مما يتعلق بمشيئته وقدرته ويقولون لا تحل الحوادث بذاته ولا يجوز عليه الحركة ولا فعل حادث ولا غير ذلك وهؤلاء يتأولون كل ما ورد في الكتاب والسنة مما يخالف ذلك وهو كثير جدا كقوله ثم استوى على العرش إلى السماء وكما وصف به نفسه من المجيء والاتيان والنزول وغضبه يوم القيامة ورضاه على أهل الجنة وتكليمه لموسى ولعباده يوم القيامة وتكلمه بالوحي إذا تكلم به فسمعته الملائكة
وهؤلاء جميعا يحتجون على قدم القرآن بحجتهم المشهورة التي هي أصل المذهب التي احتج بها الأشعري وأصحابه والقاضي أبو يعلي وابن عقيل وأبو الحسن ابن الزاغوني وغيرهم وهي التي تقدم ذكرها في بيان أصل الطائفة الأولى عن أبي المعالي لأنه اعتقد أن صاغها على وجه يدفع بها بعض الأسئلة وقد ذكرنا ذلك ونبين أنه بناها على امتناع حلول الحوادث به ونحن نذكر ها هنا كما ذكرها هؤلاء فإن هذا مشهور في كلامهم كلهم وقد اعترف أصحاب الأشعري أن هذه الطريقة هي عمدته وعمدة غيره من أئمتهم كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فورك وأبي منصور على قدم الكلام قال لو كان كلام الباري حادثا لم يخل من أن يقوم بذات الباري تعالى فيكون محلا للحوادث بمثابة الجواهر أو يحدث لا في محل وذلك محال لأنه يؤدي إلى إبطال التفرقة بين ما يقوم بنفسه وبين ما لا يقوم بنفسه على أن في نفس المحل نفي اختصاصه إذ ليس اختصاصه به سبحانه أولى من اختصاصه بغيره وإن حدث في محل آخر وقام به كلاما لذلك المحل وكان المحل به متكلما آمرا ناهيا لأن كل قائم بمحل اختص به اختصاصا يجب أن يضاف إليه عند العبارة بأخص أوصافه يشتق له أو للجملة التي المحل منها وصف منه إما من أخص وصفه أو أعم أوصافه أو من معناه أو يصح إضافته إليه بأخص وصفه فإذا لم يكن ذلك بطل أن يخلق كلامه في محل وإذا بطلت هذه الأقسام بطل كونه حادثا
وقال طائفة منهم القاضيان أبو علي بن وأبو يعلي وابن عقيل وأبو الحسن الزغواني وهذا لفظه قال والطريق الثاني المعقول وفيه أدلة نذكر منها الجلي من معتمداتها فمن ذلك تقول لو كان كلام الله مخلوقا لم يخل أن يكون مخلوقا في محل أو لا في محل فإن كان في محل فلا يخلو أن يكون محله ذات الباري سبحانه أو ذاتا غير ذاته مخلوقة ومحال أن يكون خلقه الله في ذاته لأن ذلك يوجب كون ذاته تعالى محلا للحوادث وهذا محال اتفقت الأئمة قاطبة على إحالته ومحال أن يكون في محل هو ذات غير ذاته تعالى لأن ذلك يوجب أن يكون كلاما لتلك الذات ولا يكون كلاما لله تعالى ولأنه لو جاز أن يكون كلاما لله تعالى يقال له كلامه وصفته لجاز أن يقال مثل ذلك في سائر الصفات مثل الكون واللون والحركة والسكون والإرادة إلى غير ذلك من الصفات وهذا مما اتفقنا على بطلانه
ومحال أن يكون خلقه لا في محل من جهة أن الكلام صفة والصفات لا بد لها من محل تقوم به ولو جاز أن يقال كلام الله لا في محل لجاز أن يقال إرادة وحركة وشهوة وفعل ولون لا في محل وهذا مما يعلم إحالته قطعا وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أنه غير مخلوق ثم قال قالوا قد وصفت الباري بأشياء حدثت في غيره ألا ترى أنا نصفه بأنه محسن بإحسان أحدثه في حق عباده ونصفه بأنه كاتب لوجود كتابه أحدثها في اللوح المحفوظ فما كان يمتنع أن يكون ههنا مثله قلنا الاحسان صفة قائمة بنفس المحسن وليس توقف وصفة بهذه الصفة على وجود منه وإذا ظهر إحسانه على خلقه كان ذلك أثر وصفه بالإحسان لأن ما فعله هو صفته وجرى ذلك مجرى وصفه بأنه صانع فإنه يوصف بذلك لأنه عالم بحقيقة المصنوع لا أن الصفة هي المصنوع وكذلك القول في وصفه بأنه كاتب لأن الكتابة تجري مجرى الصنعة في أنها نوع من أنواع العلوم بكيفيات المنفعل في إيجاد فعله وذلك أمر غير المصنوع وهذا بين واضح
قلت هذا الالتزام بالمحسن والكاتب والعادل والخالق ونحو ذلك وهو إلزام مشهور المعتزلة على قول أهل الاثبات باطنه أن المتكلم لا يد أن يقوم به الكلام فألزموهم أسماء الأفعال وهذا السؤال هو الذي ضعضع هذه الحجة عند أبي المعالي الجويني والرازي وغيرهم لما ألزمهم المعتزلة بذلك ولهذا عدل عنها أبو المعالي إلى أن قال قد حصل الاتفاق على أنه سبحانه متكلم بكلامه وأنه لا بد من ضرب من الاختصاص في إضافة الكلام إليه ثم الاختصاص إما اختصاص قيام وإما أن يكون اختصاص فعل بفاعل
والثاني باطل لأنه لا فرق بين خلق الأجسام وأنواع الأعراض وبين خلق الكلام في أنه لا يرجع إلى القديم سبحانه صفة حقيقة من جميع ما خلقه قلت فهو في هذا لم يلتزم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لئلا ترد عليه المعارضات لكن قال يزول الاختصاص وهذا الذي ذكره في الحقيقة يستلزم لذلك وملزوم له فإن الكلام له اختصاص فإن لم يكن بفاعله كان بمحله والمعارضات واردة لا محالة وأجاب غيره عن اسم العادل والمحسن ونحوهما بأن قالوا العادل من تمام الأسماء عندنا لأنه فاعل العدل وإنما يشترط قيام العدل بالعادل منا لا من حيث كان فاعلا للعدل بل لخصوص وصف ذلك الفعل فإن العدل قد يكون حركة أو سكونا أو نحوهما فمن ذلك الوجه يجب قيامه به وكل معنى له ضد فشرط قيامه بالموصوف به والذي يسمي عدلا فينا من الأفعال فله ضد وهو الجور فمن ذلك يجب قيامه بالفاعل منا قلت هذه فروق لا حقيقة لها عند التأمل فإن قيام الكلام بالمتكلم كقيام الفعل بالفاعل سواء لا فرق بينهما لا في الشاهد ولا في اللغة والاشتقاق ولا في القياس العقلي ولهذا عدل الرازي عن تقرير الطريقة المشهورة من أن المتكلم من قام به الكلام إذا كانت تحتاج إلى هذه المقدمة وإلى نفي جواز كونه محلا للحوادث وأثبت ذلك بطريقة في غاية الضعف وهو الاجماع الجدلي المركب والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد لهم في مسائل الصفات والقدر فجعلوه موصوفا بمفعولاته القائمة بغيره حتى قالوا من فعل الظلم فهو ظالم ومن فعل السفه فهو سفيه ومن فعل الكذب فهو كاذب ونحو ذلك وكل هذا باطل بل الموصوف بهذه الأسماء من قامت به هذه الأفعال لا من جهلها فعلا لغيره أو قائمة بغيره
والأشعرية عجزوا عن مناظرتهم في هذا المقام في مسألة القرآن ومسائل القدر بكونهم سلموا له أن الرب لا تقوم به صفة فعلية فلا يقوم به عدل ولا إحسان ولا تأثير أصلا فلزمهم أن يقولوا هو موصوف بمفعولاته فلا يجب أن يكون القرآن قائما به ويكون مسمى بأسماء القبائح التي خلقها لكن أبو محمد بن كلاب يقول لم يزل كريما جوادا فهذا قد يجيب عن صفة الإحسان وحدها بذلك وأما سائر أهل الإثبات من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيقولون أن الرب تقوم به الأفعال فيتصف به طردا لما ذكر في الكلام وأن الفاعل من قام به الفعل فالعادل والمحسن من قام به العدل والإحسان كما أشرنا إلى هذا تقدم وبهذا أجاب القاضي وابن الحسن وابن الزاغوني وغيرهم فجواب هؤلاء المتعزلة جيد لكن تنازع هؤلاء هل ما يقوم به يمتنع تعلقه بمشيئته وقدرته فالقاضي وابن الزاغوني وغيرهم مشوا على أصلهم في امتناع قيام الحوادث به ولكن تفسيرهم للصانع والكاتب بالعالم ليس بمستقيم على هذا الأصل فإن إذا جاز أن تفسر الأفعال بالعلم قيل مثل ذلك في الجميع فبطل الأصل بل الكتابة والصنعة فعل يقوم به وإن استلزم العلم وهل يجب أن يكون قديما لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو يجوز أن يكون من ذلك ما يتعلق بمشيئته وقدرته على القولين في الكلام والأفعال وقد ظن من ذكر من هؤلاء كأبي علي وأبي الحسن بن الزاغوني أن الأمة قاطبة اتفقت على أنه لا يقوم به الحوادث وجعلو ذلك الأصل الذي اعتمدوه وهذا مبلغهم من العلم وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام ونحوه وما أكثرها فمن تدبرها وجد عامة المقالات الفاسدة بينونها على مقدمات لا تثبت إلا بإجماع مدعى أو قياس وكلاهما عند التحقيق يكون باطلا
ومن العجب أن بعض متكلمة أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم يدعون مثل هذا الإجماع مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك بل عن إمامهم وغيره من الأئمة حتى في لفظ الحركة والانتقال بينهم في ذلك نزاع مشهور وقد أثبت ذلك طوائف مثل ابن حامد وغيره وقد ذكر إجماع أهل السنة على ذلك حرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدرامي وغيرهما من علماء السنة المشهورين فليتدبر العاقل ما وقع في هذه الأصول من الاضطراب وليحمد الله على الهداية وليقل ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ولكن نعرف أن هذه الحجة تبين فساد قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون خلق الله كلامه في محل فما ذكروه يبين فساد هذا القول الذي اتفقت سلف الأمة وأئمتها على ضلالة قائلة بل ذلك عند من يعرف ما جاء به الرسول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ولكن هذا يسلم ويطرد لمن جعل الأفعال قائمة به وجعل صفة التكوين قائمة به
ولهذا انتقضت على الأشعرية دون الجمهور ويبين أن كلام الله قائم به وهذا حق وأما كونه لا يتكلم إذا شاء ولا يقدر أن يتكلم بما شاء فهذا لا يصح إلا بما ابتدعته الجهمية من قولهم لا يتحرك ولا تحل به الحوادث وبذلك نفوا أن يكون استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا وأن يجيء يوم القيامة وغير ذلك مما وصف به نفسه في الكتاب والسنة وأما قول هؤلاء لو خلقه في نفسه لكانت ذاته محلا للحوادث فالذين يقولون أنه يتكلم إذا شاء لا يقولون إنه يخلق في نفسه شيئا إذ الخلق هو فعل أيضا قائم به عندهم بمشيئته فلا يكون للخالق خلق آخر وإلا لزم الدور والتسلسل ولهذا لم يقل أحد ممن قال بذلك أن كلامه مخلوق بل كل من قال إن كلامه مخلوق فإنما مراده أن يخلقه منفصلا عنه والسلف علموا أن هذا مرادهم فجعلوا يبينون فساد ذلك كقول مالك وأحمد وغيرهما كلام الله من الله ولا يكون من الله شيء مخلوق وقولهم كلام الله من الله ليس ببائن عنه وقول أحمد لمن سأله كلامك منك قال بلى فكلام الله من الله ومثل هذا كثير في كلامهم فلو أن المحتج قال اتفق المسلمون على أنه لا يخلق في ذاته شيئا لكان هذا كلاما صحيحا فإن أحدا لم يطلق عليه أن يخلق في نفسه شيئا فيما أعلم بخلاف اللفظ الذي ادعاه فإن النزاع فيه من أشهر الأمور والذين أثبتوا ذلك أكثر من الذين نفوه من أهل الحديث وأهل الكلام جميعا
ولكن اتفاق الأمة فيما أعلم أنه لا يخلق في نفسه شيئا يبطل مذهب المعتزلة ولا يدل على أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولعل هذه حجة عبدالعزيز الكناني ولهذا النزاع العظيم بين الذين يقولن هو مخلوق أو محدوث بمعنى أنه أحدثه في غيره والذين يقولون هو قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته إذا تدبره اللبيب وجد أن كل طائفة إنما تقيم الحجج على إبطال قول خصمها لا على صحة قولها أما الذين ينفون الخلق عنهم فادلتهم عامتها مبنية على أنه لا بد من قيام الكلام به وأنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام لا يقوم إلا بغيره وهذا أصل صحيح وهو من أصول السلف الذي بينوا به فساد قول الجهمية وأما الذين قالوا مخلوق فليس لهم حجة إلا ما يتضمن أنه متعلق بمشيئته وقدرته وأن ذلك يمنع كونه قديما وذلك كقوله إنا أرسلنا نوحا وأوحينا إلى إبراهيم وأهلكنا القرون لا يكون إلا بعد وجود المخبر عنه وإلا كان كذبا لأنه أخبار عن الماضي
وكذلك إخباره عن أقوال الأمم المتقدمة ومخاطبة بعضهم بعضا بقوله قالوا وقالوا كذلك فهذا لا يكون إلا بعد وجود المخبر عنه وقولهم إنه موصوف بأنه مجعول عربيا وأنه أحكمت آياته ثم فصلت وهذا إخبار بفعل منه تعليق به وذلك يوجب تعلقه بمشيئته وقدرته وقد نص أحمد على أن الجعل فعل من الله غير الخلق كما تقدم ذكر لفظه وقد حققوا ذلك بأن الله ذكر أنه جعله عربيا على وجه الامتنان علينا به والامتنان إنما يكون بفعله المتعلق بشميئته وقدرته لا بالأمور اللازمة لذاته ومن خالف ذلك أجابوا بجواب ضعيف كقول ابن الزاغوني جعلناه أي أظهرناه وأنزلنا فيقال لهم يكفي في ذلك أن يقال أنزلنا قرآنا عربيا فإنه عندكم لا يقدر على أن ينزله ويظهره غير عربي ولا يمكن ذلك فإن كان ذلك ممتنعا لذاته كيف يمتن بترك فعله وإنما الممكن أن ينزله أولا ينزله أما أن ينزله عربيا وغير عربي فهذا ممتنع عندهم وقد قال تعالى: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته } فعلم أن جعله عجميا كان ممكنا وعندهم ذلك غير ممكن وهذا أيضا حجة على من جعل العبارة مخلوقة منفصلة عن الله لأنه جعل القرآن نفسه عربيا وعجميا وعندهم لا يكون ذلك إلا في العبارة عن الله لأنه جعل القرآن نفسه عربيا وعجميا وعندهم لا يكون ذلك إلا في العبارة المخلوقة لا في نفس القرآن الذي هو غير مخلوق وعندهم المعنى الذي عبارته عربية هو الذي عبارته سريانية وعبرانية فإن جاز أن يقال هو عربي لكون عبارته كذلك كان كلام الله هو عربي سرياني عبراني لأن الموصوف بذلك عندهم شيء واحد
وكتاب الله يدل على أن كلامه يقدر أن يجعله عربيا وأن يجعله عجميا وهو متكلم به ليس مخلوقا منفصلا عنه وأما أئمة أهل الحديث والفقهاء والصوفية وطوائفة أهل الكلام الذين خالفوا المعتزلة قديما من المرجئة والشيعة ثم الكرامية وغيرهم فيخالفون في ذلك ويجعلون هذه الأفعال القائمة بذاته متعلقة بمشيتئه وقدرته وأصحاب الإمام أحمد قد تنازعوا في ذلك كما تنازع غيرهم وذكر أبو بكر عبدالعزيز عنهم في المقنع قولين
وحكى الحارث المحاسبي القولين عن أهل السنة ولكن المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة يوافق هذا القول كما ذكرناه من كلامه في الرد على الجهمية فإن الجهمي لما قال إن الله لم يتكلم ولا يتكلم فنفي المستقبل كما نفي الماضي قال أحمد فكيف يصنعون بحديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ] ثم قال أحمد والجوارج إذا شهدت على الكفارين فقالوا لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان ولكن الله أنطقها كما شاء فكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان فذكر أن الله يتكلم كيف يشاء
ومن يقول بالأول يقول إن تكلمه لا يتعلق بالمشيئة إذ لا يتعلق بالمشيئة عندهم إلا المحدث الذي هو مخلوق منفصل ثم قال أحمد وحديث الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلام قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما تطيق بذلك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا صف لنا كلام ربك فقال سبحانه الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبه قال اسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله فقوله إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان أي لغة ولي قوة الألسن كلها أي اللغات كلها وأنا أقوى من ذلك فيه بيان أن الكلام يكون بقوة الله وقدرته وأنه يقدر أن يتكلم بكلام أقوى من كلام وهذا صريح في قول هؤلاء كما هو صريح في أنه كلمه بصوت وكان يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت وكذلك قول أحمد وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة يا عيسى وقلنا فمن القائل فلنسألن الذين أرسل إليهم ولسنألن المرسلين فإنه دليل على أنه سألهم عن تكليمه في المستقبل حيث أنكروا أن يكون منه تكليم في المستقبل ثم لما قالوا إنما يكون شيئا فيعبر عن الله قال قلنا قد أعظمتم على الله الفرية زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان
فقد حكى عنهم منكرا عليهم نفيهم عن الله تعالى أن يتكلم أو يتحرك أو يزول من مكان إلى مكانه ثم إنه قال فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا كذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تبارك وتعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله تعالى قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إن الله قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة فهذا من كلامه يبين أن أولئك الذين قالوا كلامه مخلوق أرادوا أنه لم يكن متكلما حتى خلق الكلام إذ هذا معنى قولهم قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق إذ المخلوق هو القائم ببعض الأجسام فعندهم تكلمه مثل بعض الأعيان المخلوقة ولهذا يمتنع عندهم أن يكون قبل ذلك متكلما
فرد أحمد هذا بأن هذا تشبيه بالإنسان الذي كان عاجرا عن التكلم لصغره حتى خلق الله له كلاما فمن مر عليه وقت وهو غير موصوف فيه بأنه متكلم إذا شاء مقتدر على الكلام كان ناقصا ففي ذلك كفر بجحد كمال الرب وصفته وتشبيهه له بالإنسان العاجر ولهذا قال بل نقول لم يزل متكلما إذا شاء فجمع بين الأمرين كونه لم يزل متكلما وبين كون ذلك متعلقا بمشيئته وأنه لا يجوز نفي المتكلم عنه إلا أن يخلق التكلم كما لا يجوز نفي العلم والقدرة والنور وهذا هو الكمال في الكلام أن يتكلم المتكلم إذا شاء فأما العاجز عن الكلام فهو ناقص قبيح وأما الذي يلزمه الكلام ولا يتعلق بمشيئته واختياره فإنه يكون أيضا عاجزا ناقصا كالذي يصوت بغير اختياره كالأصوات الدائمة التي تلزم الجمادات بغير اختيارها مثل النواعير ولما أقام الحجة بتكليم الله تعالى موسى وأنه تكلم ويتكلم وإن ذلك ممكن من غير حاجة إلى جوف وفم وشفتين ولسان إذا كان من المخلوقات ويتكلم وينطقها الله تعالى بدون حاجة إلى ذلك فالخالق سبحانه أولى بالغناء من المخلوق إذ كل ما ثبت للمخلوق من صفة كمال كالغناء فالله تعالى أولى به فالله أحق بالإستغناء عن ما استغنت عنه المخلوقات في كلامها
ذكر أن الجهمي لما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره قلنا غيره مخلوق قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون فأحمد رحمه الله تعالى لم ينكر عليه إطلاق الغير على القرآن حتى استفسره ما أراد به إذ لفظ الغير مجمل يراد به الذي يفارق الآخر وهو قولهم أنه مخلوق ويراد به ما لا يكون هو إياه وهذا يبين أن إطلاق القول على الصفة بأنها هي الموصوف أو غيره كلام مجمل يقبل بوجه ويرد بوجه فمتى أريد بالغير المباينة للرب كان المعنى فاسدا وإنما ذكر هذا لأن أهل البدع كما وصفهم به يتمسكون بالمتشابه من الكلام ولفظ الغير من المتشابه فإذا قال هو غيره فقيل له نعم لأنه ليس هو إياه قال وما كان غير الله فهو مخلوق وغير في هذا الموضع الثاني إنما يصح إذا أريد بها ما كان بائنا عن الله تعالى فهو مخلوق فيستعمل لفظ الغير في إحدى المقدمتين بمعنى وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر لما فيها من الإجمال والاشتراك فلهذا استفسر الإمام أحمد فلما فسر مراده قال فهذا هو القول الأول متى قلت هو مخلوق فقد قلت بأنه خلق شيئا فعبر عنه وأنه لا تكلم ولا يتكلم ثم احتج عليهم بما دل عليه القرآن من تكلمه في الآخرة وخطابه للرسل فلما أقروا بنفي التكلم عنه أزلا وأبدا ولم يفسروا ذلك إلا بخلق الكلام في غيره قال قد أعظمتم الفرية على الله حين زعمتم أن الله تعالى لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان إلى مكان
وهذه الحجة من باب قياس الأولى وهي من جنس الامثال التي ضربها الله في كتابه فإن الله تعالى عاب الأصنام بأنها لا ترجح قولا وانها لا تملك ضرا ولا نفعا وهذا من المعلوم ببداية العقول أن كون الشيء لا يقدر على التكلم صفة نقص وأن المتكلم أكمل من العاجز عن الكلام وكل ما تتنزه المخلوق عنه من صفة نقص فالله تعالى أحق بتنزيهه عنه وكلما ثبت لشيء من صفة كمال فالله تعالى أحق باتصافه بذلك فالله أحق يتنزيهه عن كونه لا يتكلم من الأحياء الآدميين وأحق بالكلام منهم وهو سبحانه منزه عن مماثلة الناقصين المعدوم والموات وأما قول أحمد فلما ظهرت عليه الحجة قال إنه قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق يتكلم وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول أن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول أنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول أنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول أنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة
فهذا يدل على أن هذا القول أراد به الجهمي أنه قد يتكلم بعد أن لم يكن متكلما بكلام مخلوق يخلقه لنفسه في ذاته أو يخلقه قائما بنفسه ليكون هذا القول غير الأول الذي قال إنه يخلق شيئا فيعبر عن الله وقال إنكم شبهتموه بالأصنام التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان ثم انتقل الجهمي عن ذلك القول إلى هذا القول وقال أحمد في الجواب فقلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله قد كان في قوت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه إلى آخر كلامه ففي هذا كله دليل على أنه أنكر عليهم كونه كان لا يتكلم حتى خلق لنفسه كلاما في نفسه فصار حينئذ متكلما بعد أن لم يكن متكلما وبين أن ذلك يستلزم أنه كان ناقصا فصار كاملا لأن عدم التكلم صفة نقص وهذا هو الكفر فإن وصف الله بالنقص كفر وفيه تشبيه له بمن كان ناقصا عاجزا عن الكلام حتى خلق له الكلام
ولهذا قال: بل نقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء فبين أن كونه موصوفا بالتكلم إذا شاء أمر لم يزل لا يجوز أن يكون ذلك محدثا لأنه يستلزم كماله بعد نقصه وفيه تشبيه له بالآدميين كما أن منع تكلمه بالكلية تشبيه له بالجمادات من الأصنام التي تعبد من دون الله تعالى وغيره ثم إنه بين أن ثبوت هذه الصفة له فيما لم يزل كثبوت العلم والقدرة والنور والعظمة لم يزل موصوفا بها لا يقال إنه كان بدون هذه الصفات حتى أحدثها لأن ذلك يستلزم أنه كان ناقصا فكمل بعد نقصه سبحانه وتعالى عن ذلك
ولهذا كان كلام أحمد وغيره من الأئمة مع الجهمية في هذه المسألة فيه بيان الفصل بين كلام الله تعالى وقوله وبين خلقه وأن هذا ليس هذا ويذكرون هذا الفرق في المواضع التي أخبر الله ورسوله بأن تكلم بالوحي وأنه إذا تكلم بالوحي كان هذا من أعظم الحجج لهم فإن من يقول القرآن مخلوق يقول إن الله خلقه منفصلا عنه كسائر المخلوقات وليس يعود إليه من خلقه حكم من الأحكام أصلا بل ذلك بمنزلة خلق السماء والأرض وكلام الذراع المسموم ونطق الأيدي والأرجل وغير ذلك مما خلقه الله تعالى من الموصوفات والأفعال والصفات ومما يعلم بالاضطرار أن ما كان كذلك فلا بد أن يصفه الله تعالى بالخلق كما وصف غيره من المخلوقات ولا يجوز أيضا أن يضاف إلى الله تعالى إضافة اختصاص يتميز بها عن غيره من المخلوقات إذ لا اختصاص له أصلا فلا يكون كلاما لله تعالى ولا قولا أصلا والقرآن كله يثبت له صفة الاختصاص بالقول والكلام ولم يثبت قط له الصفة المشتركة بينه وبين سائر المخلوقات من صفة الخلق فالقرآن دل على الفرق بين القول والمقول وبين المخلوق والمفعول قال الإمام أحمد وقد ذكر الله تعالى كلامه في غير موضع من القرآن فسماه كلاما ولم يسمه خلقا قال: { فتلقى آدم من ربه كلمات } وقال: { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } وقال: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال: { اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } وقال: { وكلم الله موسى تكليما } وقال: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته } فأخبر الله عز وجل أن النبي ﷺ كان يؤمن بالله وبكلام الله وقال: { يريدون أن يبدلوا كلام الله } وقال: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي } وقال: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ولم يقل حتى يسمع خلق الله فهذا المنصوص بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير هو بين والحمد لله
قلت وقد تضمن هذا أن الله إذا سماه كلاما في مواضع كثيرة ولم يسمه خلقا ومن المعلوم المستقر في الفطر أن الكلام هو ما تكلم به المتكلم لا يكون منفصلا ولهذا قال فهذا المنصوص بلسان عربي مبين لا يحتاج إلى تفسير هو بين يعني أن بيان الله مما ذكره من كلامه وأن كلامه هو بين لكل أحد ليس من الخفي ولا من المتشابه الذي يحتاج إلى تفسير الجهمي الذي يجعله مخلوقا منفصلا عنه كسائر المخلوقات، حرف هذا الكلم عن مواضعه والحد في آياته الله تحريفا وإلحادا يعلمه كل ذي فطرة سليمة ولهذا تجد ذوي الفطر السليمة إذا ذكر لهم هذا المذهب يقولون هذا يقول أن القرآن ليس كلام الله حتى أنهم يقولون ذلك عمن يقول حروف القرآن مخلوقة هذا يقول القرآن ليس كلام الله لا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق لما استقر في فطرهم أن ما يكون مخلوقا منفصلا عن الله لا يكون كلام الله فمن قال إن الله لم يتكلم بحروف القرآن بل جعله خالقا لها في جسم من الأجسام فهو عندهم يقول إن القرآن ليس بكلام الله سواء جعل تلك الحروف هي القرآن أو ادعى أن ثم معنى قديما هو كلام الله دون سائر الحروف فإن المستقر في فطر الناس الذي تلقته الأمة خلفا عن سلف عن نبيها أن القرآن جميعه كلام الله وكلهم فهم هذا المعنى المنصوص بلسان عربي مبين كما ذكر أحمد أنه تكلم به لا أنه خلقه في بعض المخلوقات
ثم ذكر أحمد ما أمر الله به من القول وما نهى عنه من القول وأنه لم يذكر في المأمور به قولوا عن القرآن أنه ملخوق ولا في المنهي عنه لا تقولوا أنه كلامي قال أحمد وقد سألت الجهمية أليس إنما قال الله جل ثناؤه: { قولوا آمنا بالله } { وقولوا للناس حسنا } { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } { وقولوا قولا سديدا } { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وقال: { وقل الحق من ربكم } وقال: { وقل سلام } ولم نسمع الله يقول قولوا إن كلامي خلق وقال: { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا } وقال: { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا } وقال: { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } وقال: { ولا تقف ما ليس لك به علم } { ولا تدع مع الله إلها آخر } وقال: { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } { ولا تمش في الأرض مرحا } ومثله في القرآن كثير فهذا ما نهى الله عنه ولم يقل لنا لا تقولوا إن القرآن كلامي
قلت: وهذه حجة قوية وذلك أن القرآن لو كان كما يزعمه الجهمي مخلوقا منفصلا كالسماء والأرض وكلام الذراع والأيدي والأرجل لكان معرفة ذلك واجبا لا سيما وعند الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن معرفة ذلك من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به وقد يقولون أن معرفة ذلك واجبة قبل معرفة الرسالة وأن معرفة الرسالة لا تتم إلا بتنزيه الله عن كلام يقوم به لأن الكلام لا يقوم إلا بجسم متحيز ونفي ذلك عندهم واجب قبل الإقرار بالرسول فإن الجسم يستلزم أن يكون محدثا مخلوقا يجوز عليه الحاجة وذلك يمنع ما بنوا عليه العلم بصدق الرسول وقد صرحوا بذلك في كتبهم فإذا كان الأمر كذلك كان بيان ذلك من الواجبات فإذا لم يأمر الله به قط مع حاجة المكلفين إليه ومع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز علم أنه ليس مأموروا به ولا واجبا وذلك يبطل قولهم وأيضا فلم ينه العباد عن أن يسموه كلامه مع العلم بأن هذه التسمية ظاهرة في أنه هو المتكلم به ليس هو الذي خلقه في جسم غيره والجهمي وإن زعم أن الكلام يقال لمن فعله بغيره كما مثله من تكلم الجني على لسان المصروع فهو لا ينازع في أن غالب الناس لا يفهمون من الكلام إلا ما يقوم بالمتكلم بل لا يعرفون كلاما منفصلا عن متكلمه قط وأمر الجني فيه من الأشكال والنزاع بل بطلان قول المستدل به مما يمنع أن يكون ذلك ظاهرا لعموم الناس
وإن كان كذلك وكان الواجب على قول الجهمي ما نهى الناس عن أن يقولوا القرآن كلام الله حتى لا يقولوا بالباطل وأما البيان بأن قولهم كلام الله أن الله خلق ذلك الكلام في جسم غيره كما ذكره الجهمية من أنه خلق شيئا فعبر عنه فلما لم يؤمروا بهذا ولم ينهوا عن ذلك مع الحاجة إلى هذا الأمر والنهي على زعم الجهمي علم أن قوله المستلزم لازم للأمر والنهي الذي لم يقع من الشارع باطل ولهذا كان أحمد يقول لهم فيما يقوله في المناظرة الخطابية كيف أقول ما لم يقل أي هذا القول لم يقله أحد قبلنا ولو كان من الدين لكان قوله فعدم قول أولئك له يدل على أنه ليس من الدين وكذلك احتجاج أبي عبدالرحمن الأدرمي وهو الشيخ الأدنى الذي قدمه ابن أبي داود على الواثق فناظره امامه كما حكاه ابنه المهتدي وقطعه الأدنى في المناظرة والقصة مشهورة وقال لابن أبي داود يا أحمد أرأيت مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل هي داخلة في عقد الدين الذي لا يتم الدين إلا بها وهل علمها رسول الله ﷺ وهل أمر بها وهل وسعه ووسع خلفاؤه السكوت عنها فكانت هذه الحجج كلها تبين أن هذا القول لو كان من الدين لوجب بيانه وعدم ذلك مع قيام المقتضى له دليل على أنه ليس من الدين وإذا لم يكن من الدين كان باطلا لأن الدين لا بد فيه من أحد الأمرين إما أن يكون الله تعالى تكلم بالقرآن وبسائر كلامه وإما أن يكون خلقه في غيره لا يحتمل الأمر وجها ثالثا فإذا بطل أن يكون خلقه في غيره من الدين تعين أن يكون القول الآخر من الدين ثالثا فإذا بطل أن يكون خلقه في غيره من الدين تعين أن يكون القول الآخر من الدين وهو أنه هو المتكلم به فمنه بدأ ومنه حق القول ومن لدنه نزل ولو كان مخلوقا في جسم غيره لكان بمثابة ما يخلقه في الأيدي والأرجل والذراع والصخر وغير ذلك من الأجسام فإنه وإن كان منه أي من خلقه فليس من لدنه ولا هو قولا منه ولا بدأ منه
قال الإمام أحمد وقد سمعت الملائكة كلام الله كلاما ولم تسمه خلقا في قوله تعالى حتى إذا نزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد ﷺ وبينها ستمائة سنة فلما أوحي الله جل ثناؤه إلى محمد ﷺ سمع الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفاء وظنوا أنه أمر من أمر الساعة ففزعوا وخروا لوجوههم سجدا فذلك قول عز وجل حتى إذا فزع عن قلوبهم يقول حتى إذا تجلى الفزع عن قلوبهم رفع الملائكة رؤوسهم فسأل بعضهم بعضا فقالوا ماذا قال ربكم ولم يقولوا ماذا خلق ربكم فهذا بيان لمن أراد الله هداه
قلت: احتج أحمد بما سمعته الملائكة من الوحي إذا تكلم الله به كما قد جاءت بذلك الآثار المتعددة وسمعوا صوت الوحي فقالوا ماذا قال ربكم ولم يقولوا ماذا خلق ربكم فبين أن تكلم الله بالوحي الذي سمعوا صوته هو قوله ليس هو خلقه ومثل هذه العبارة ذكر البخاري الإمام صاحب الصحيح إما تلقيا له عن أحمد أو غيره أو موافقة اتفاقية وذكر ذلك في كتاب الصحيح وفي كتاب خلق الأفعال فقال في الصحيح في آخر في كتاب الرد على الجهمية باب قول الله ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ولم يقل ماذا خلق لكم وقال من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قال وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق من ربكم ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق
قال: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنس سمعت النبي ﷺ يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ثم قال حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمر عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي ﷺ قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان وقال وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير قال وحدثنا سفيان حدثنا عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة بهذا قال سفيان قال عمرو سمعت عكرمة حدثنا أبو هريرة قال علي قلت لسفيان قال سمعت عكرمة قال سمعت أبا هريرة قال نعم قلت لسفيان إن إنسانا روى عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يرفعه أنه قرأ فزع قال سفيان هكذا قرأ عمرو فلا أدري سمعه هكذا أم لا قال سفيان وهي قراءاتنا
وما ذكره أحمد من الفترة وتكلمه بالوحي بعدها قاله طوائف من السلف كما ذكره عبدالرزاق في تفسيره أنبأنا معمر عن قتادة والكلبي في قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم قالا لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد فنزل الوحي قال قتادة نزل مثل صوت الحديد على الصخر فأفزع الملائكة ذلك فقال حتى إذا فزع عن قلوبهم يقول إذا خلى عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير وهذه الآية وما فيها من الأحاديث المتعددة في الصحاح والسنن والمساند والآثار المأثورة عن السلف في تفسيرها فيها أصول من أصول الإيمان يبين بها ضلال من خالف ذلك من المتفلسفة الصائبة والجهمية ونحو هؤلاء ففيها ما دل عليه القرآن من أن الملائكة لا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لهم فضلا عن أن يتصرفوا ابتداء
كما قال تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال سبحانه: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } وقال: { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال: { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا }
فأخبر سبحانه أنهم لا يسبقونه بالقول ولا يعلمون إلا بأمره وأنهم لا يتكلمون بالشفاعة إلا بعد أن يأذن الله لهم وأنهم مع ذلك لا يعلمون ما قال حتى إذا فزع عن قلوبهم أي خلى عن قلوبهم فأزيل الفزع كما يقال فردت البعير إذا أزلت قراده وتحرب وتحرج وتأثم وتحنث إذا أزال عن نفسه الحرب والإثم والحرج والحنث فإذا أزيل الفزع عن قلوبهم قالوا حينئذ ماذا قال ربكم قالوا الحق وفي كل ذلك تكذيب للمتفلسفة من الصابئة ونحوهم ومن أتباعهم من أصناف المتكلمة والمتصوفة والمتعففة الذين خلطوا الحنيفية بالصائبة فيما يزعمونه من تعظيم العقول أو النفوس التي يزعمون أنها هي الملائكة وأنها متولدة عن الله لازمة لذاته وهي المدبرة للعالم بطريق التولد والتعليل لا بأمر من الله وإذن يكون إذا شاء بل يجعلون الذي يسمونه العقل الفعال هو المدبر لهذا العالم من غير أن يحدث الله نفسه شيئا أصلا وهذا عبد هؤلاء الملائكة والكواكب وعظموا ذلك جدا وهذه النصوص المتواترة تكذبهم وتبين بعدهم عن الحق بمراتب متعددة خمسة وأكثر
فإن المرتبة الأولى: إن الملائكة هل تتصرف وتتكلم كما يفعل ذلك سائر الأحياء بغير إذن من الله وأمر وقول وإن كان الله خالق أفعالهم كما هو خالق أفعال الحيوان كله فإن الحيوان من الجن والإنس والبهائم وإن كان الله خالق أفعالهم فإن أفعالهم قد تكون معصية وقد تكون غير مأمور بها ولا منهي عنها بل يتصرفون بموجب إرادتهم وإن كانت مخلوقة والملائكة ليسوا كذلك بل لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون فلا يفعلون ما يكون من جنس المباحات والمنهيات بل لا يفعلون إلا ما هو من الطاعات
والمرتبة الثانية: إنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى فلا يشفعون عنده لمن لا يحب الشفاعة له كما قد يفعله بعض من يدعو الله بما لا يحبه
والمرتبة الثالثة: إنهم أيضا لا يبتدأون بالشفاعة فلا يشفعون إلا بعد أن يأذن لهم في الشفاعة
والمرتبة الرابعة: إنهم لا يستأذنون في أن يشفعوا إذ هم لا يسبقونه بالقول بل هو يأذن لهم في الشفاعة ابتداء فيأمرهم بها فيفعلونها عبادة لله وطاعة
والمرتبة الخامسة: إنهم يسجدون إذا سمعوا كلامه وأمره وأذنه ولم يطيقوا فهمه ابتداء بل خضعت وفزعت وضربت بأجنحتها وضعفت وسجدت فإذا فزع عن قلوبهم فجلى عنهم الفزع قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير فهذه حالهم عند تكلمه بالوحي أما وحي كلامه الذي يبعث به رسله كما أنزل القرآن وأما أمره الذي يقضي به من أمر يكونه فذلك حاصل في أمر التشريع وأمر التكوين ولهذا قال سبحانه وتعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } وحتى حرف غاية يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها ليست بمنزلة إلى التي قد يكون ما بعدها خارجا عما قبلها كما في قوله: { ثم أتموا الصيام إلى الليل } وهي سواء كانت حرف عطف أو حرف جر تتضمن ذلك وما بعدها يكون النهاية التي ينبه بها على ما قبلها فتقول قدم الحجاج حتى المشاة فقدوم المشاة تنبيه على قدوم الركاب وتقول أكلت السمكة حتى رأسها تنبيه على غيره فإن أكل رؤوس السمك قد يبقى في العادة وهذه الآية أخبر فيها سبحانه أنه ليس ليغرة ملك ولا شرك في الملك ولا معاونة له ولا شفاعة إلا بعد إذنه فقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }
ثم قال: { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } والضمير في قوله ( عن قلوبهم ) يعود إلى ما دل عليه وله من أذن له فإن الملائكة يدخلون في قوله من أذن له ودل عليه قوله قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يمكلون فإن الملائكة تدخل في ذلك فسلبهم الملك والشركة والمعاونة والشفاعة إلا بإذنه ثم بين ذلك حتى أنه إذا تكلم لا يثبتون لكلامه ولا يستقرون بل يفزعون ولا يفهمون ثم إذا أزيل عنهم الفزع يقولون ماذا قال ربكم قالوا الحق وذلك أن ما بعد حتى هنا جملة تامة وهو قوله إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم والعامل في إذا هو قوله قالوا ماذا وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان متضمن معنى الشرط أي لما زال الفزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم والغاية بعد حتى يكون مفردا كما تقدم ويكون جملة ومنه قوله: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } وقوله تعالى: { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم } فأخبر عن ضلال أولئك إلى تلك الغاية وعن تسيير هؤلاء إلى هذه الغاية وكذلك قوله: { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا } الآية وكذلك قوله: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } وكذلك قوله: { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض } إلى قوله: { للذين اتقوا أفلا تعقلون * حتى إذا استيأس الرسل }