الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/4
فصل
ومع هذا فقد حفظ عن أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس هذا القول وفي ذلك حجة على من يزعم أن أقوال هؤلاء الأئمة بدون الصحابة ليس بحجة فروى اللالكائي من طريقين من طريق محمد بن المصفى ومن طريق الفضل بن عبد الله الفارسي كلاهما عن عمرو بن جميع أبي المنذر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: لما حكم علي الحكمين قالت له الخوارج: حكمت رجلين؟ قال ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن
ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناد آخر إلى علي وقال: حدثنا محمد بن حجاج الحضرمي المضري حدثنا يعلى بن عبد العزيز حدثنا عتبة بن السكن الفزاري حدثنا الفرج بن يزيد الكلاعي قال: قالوا لعلي يوم صفين حكمت كافرا أو منافقا؟ قال: ما حكمت مخلوقا ما حكمت إلا القرآن
وهذا السياق يبطل تأويل من يفسر كلام السلف بأن المخلوق هو المفتري المكذوب والقرآن غير مفتر ولا مكذوب فإنهم لما قالوا: حكمت مخلوقا إنما أرادوا مربوبا مصنوعا خلقه الله لم يريدوا مكذوبا
فقوله: ما حكمت مخلوقا نفي لما ادعوه وقوله: ما حكمت إلا القرآن نفي لهذا الخلق عنه وقد روي ذلك عن علي من طريق ثالث
وأما قول ابن مسعود فمن المحفوظ الثابت عنه الذي رواه الناس من وجوه كثيرة صحيحة من حديث يحيى بن سعيد القطان وغيره عن سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن أبي كنف قال: قال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين قال: فذكرت ذلك لابراهيم قال فقال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع
وروى محمد بن هرون الروياني حدثنا أبو الربيع حدثنا أبو عوانة عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن حنظلة بن خويلد العنزي قال: أخذ عبد الله بيدي فلما أشرفنا على السد إذ نطر إلى السوق قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن وآية قال فغمزني عبد الله بيدي
ثم قال: أتراه مكفرا؟ أما إن كل آية فيها يمين ولا نزاع بين الأمة أن المخلوقات لا يجب في الحلف بها يمين كالكعبة وغيرها إلا ما نازع فيه بعضهم من الحلف برسول الله ﷺ لكون الإيمان به أحد ركني الإيمان وقوله: عليه كل آية يمين قد اتبعه الأئمة وعملوا به كالإمام أحمد وإسحق وغيرهما لكن هل تتداخل الأيمان إذا كان المحلوف عليه واحدا؟ كما لو حلف بالله لا يفعل ثم حلف بالله لايفعل هذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
وأما قول ابن عباس فقال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا بن صالح بن جابر الانماطي حدثنا علي بن عاصم عن عمران بن حدير عن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال مه القرآن منه زاد الصهيبي في حديثه فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود
فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثانية أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب من أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور وجرت المحنة المشهورة وكان أئمة الهدى على ما جاءت به الرسل عن الله من أن القرآن كلام الله تكلم به هو سبحانه وهو منه وقائم به وما كان كذلك لم يكن مخلوقا إنما المخلوق ما يخلقه من الأعيان المحدثة وصفاتها وكثير منهم يرد قول الجهمية بإطلاق القول بأن القرآن كلام الله لأن حقيقة قولهم أنه ليس كلامه ولا تكلم ولا يتكلم به ولا بغيره فإن المستقر في فطر الناس وعقولهم ولغاتهم أن المتكلم بالكلام لا بد أن يقوم به الكلام فلا يكون متكلما بشيء لم يقم به بل هوقائم بغيره كما لا يكون عالما بعلم قائما بغيره ولا حيا بحياة قائمة بغيره ولا مريدا بإرادة قائمة بغيره ولا محبا ومبغضا ولا راضيا وساخطا بحب وبغض ورضى وسخط قائم بغيره ولا متألما ولا متنعما وفرحا وضاحكا يتألم وتنعم وفرح وضحك قائم بغيره فكل ذلك عند الناس من العلوم الضرورية البديهية الفطرية التي لا ينازعهم فيها إلا من أحيلت فطرته
وكذلك عندهم لا يكون آمرا وناهيا بأمر ونهي لا يقوم به بل يقوم بغيره ولا يكون مخبرا ومحدثا ومنبأ بخبر وحديث ونبأ لا يقوم به بل بغيره ولا يكون حامدا أو ذاما ومادحا ومثنيا بحمد وذم ومدح وثناء لا يقوم به بل بغيره ولايكون مناجيا ومناديا وداعيا بنجاء ودعاء ونداء لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره ولا يكون واعدا وموعدا بوعد ووعيد لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره ولا يكون مصدقا ومكذبا بتصديق وتكذيب لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره ولا يكون حالفا ومقسما موليا بحلف وقسم ويمين لا يقوم به ولا يقوم إلا بغيره بل من أظهر العلوم الفطرية الضرورية التي علمها بنوآدم وجوب قيام هذه الأمور بالموصوف بها وامتناع أنها لا تقوم إلا بغيره
فمن قال أن الحمد والثناء والأمر والنهي والنبأ والخبر والوعد والوعيد والحلف واليمين والمناداة والمناجاة وسائر ما يسمى ويوصف به أنواع الكلام يمتنع أن تكون قائمة بالآمر الناهي المناجي المنادي المنبىء المخبر الواعد المتوعد الحامد المثني الذي هو الله تعالى ويجب أن تكون قائمة بغيره فقد خالف الفطرة الضرورية المتفق عليها بين الآدميين وبدل لغات الخلق أجمعين ثم مع مخالفته للمعقولات واللغات فقد كذب المرسلين أجمعين ونسبهم إلى غاية التدليس والتلبيس على المخاطبين لأن الرسل أجمعين أخبروا أن الله أمر ونهى وقال ويقول وقد علم بالاضطرار أن مقصودهم أن الله هو نفسه الذي أمر ونهى وقال: لا إن ذلك شيء لم يقم به بل خلقه في غيره
ثم لو كان مقصودهم ذلك فمعلوم أن هذا ليس هو المعروف من الخطاب ولا المفهوم منه لا عند الخاصة ولا عند العامة: بل المعروف المعلوم أن يكون الكلام قائما بالمتكلم فلو أرادوا بكلامه وقوله إنه خلق في بعض المخلوقات كلاما لكانوا قد أضلوا الخلق على زعم الجهمية ولبسوا عليهم غاية التلبيس وأرادوا باللفظ ما أعلم يدلوا الخلق عليه والله تعالى قد أخبر أن الرسل بلغت البلاغ المبين فمن نسبهم إلى هذا فقد كفر بالله ورسوله
وهذا قول الزنادقة المنافقين الذين هم أصل الجهمية الذين يصفون الرسل بذلك من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم بل كون المتكلم الآمر الناهي لا يوصف بذلك إلا لقيام الكلام بغيره مع امتناع قيامه به أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازا
وزعمت الجهمية الملحدة في أسماء الله وآياته المحرفة للكلم عن مواضعه المبدلة لدين الله من المعتزلة ونحوهم أن المتكلم في اللغة من فعل الكلام وإن كان قائما بغيره كالجني المتكلم الى لسان الإنسي المصروع فإنه هو المتكلم بما يسمع من المصروع لأنه فعل ذلك وإن كان الكلام لم يقع إلا بالإنسي دون الجني وهذا من التمويه والتدليس فأما قولهم المتكلم من فعل الكلام فقد نازعهم فيه طائفة من الصفاتية وقالوا بل المتكلم من قام به الكلام وإن لم يفعله كما يقوله الكلابية والأشعرية وبين الفريقين في ذلك نزاع طويل
وأما السلف والأئمة وأكثر الناس فلم ينازعوهم هذا النزاع بل قالوا: الكلام وإن قيل أنه فعل للمتكلم فلا بد أن يكون قائما به فلا يكون الكلام لازما لمتكلم يمتنع أن يقوم به الكلام وجميع المسموع من اللغات والمعلوم في فطرة البريات يوافق ذلك وأما تكلم الجني على لسان الإنسي فلا بد أن يقوم بالجني كلام ولكن تحريكه مع ذلك لجوارح الإنسي يشبه تحريك روح الإنسي لجوارحه بكلامه ويشبه تحريك الإنسان بكلامه وحركته وتصويته كما يصوت بقصبة ونحوها مع أنه في ذلك كله قد قام به من الفعل ما يصح به نسبة ذلك إليه وقولهم: المتكلم من فعل الكلام وإن كان قائما بغيره كلام متناقض فإن الفعل أيضا لا يقوم بغير الفاعل وإنما الذي يقوم بغيره هوالمفعول
وأما قول من يقول: إن الخلق لا يكون إلا بمعنى المخلوق فهو من بدع الجهمية وعامة أهل الإسلام على خلاف هذا وكذلك قال الأئمة مثل ما ذكره الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال: ففيما يسأل عنه الجهمي يقال له: تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ فلا يجد فيقال له: فيم قلت فيقول: من قول الله: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } وزعم أن كل مجعول مخلوق فادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها ويبتغي الفتنة في تأويلها
وذلك أن جعل في القرآن من المخلوقين على وجهين على معنى التسمية وعلى معنى فعل من أفعالهم قوله: { الذين جعلوا القرآن عضين } قالوا: هو شعرا وأنباء الأولين وأضغاث أحلام فهذا على معنى التسمية وقال: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } يعني أنهم سموهم إناثا ثم ذكر جعل على غير معنى التسمية فقال: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } فهذا على معنى فعل من أفعالهم وقال: { حتى إذا جعله نارا } هذا على معنى فعل هذا جعل المخلوقين
ثم ذكر جعل من الله على معنى خلق وجعل على غير معنى خلق والذي قال الله جل ثناؤه جعل على معنى خلق لا يكون إلا خلقا ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عن المعنى فما قال الله جعل على معنى خلق كذلك قوله: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } بمعنى خلق الظلمات والنور { وجعلنا الليل والنهار آيتين } يقول خلقنا الليل والنهار آيتين قال: { وجعل الشمس سراجا } وقال: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } يقول خلق منها زوجها خلق من آدم حواء وقال: { وجعل لها رواسي } ومثله في القرآن كثير فهذا وما كان مثاله لا يكون مثاله إلا على معنى خلق وقوله: { ما جعل الله من بحيرة } لا يعني ما خلق الله من بحيرة
وقال الله لإبراهيم: { إني جاعلك للناس إماما } لا يعني أني خالقك للناس إماما لأن خلق إبراهيم كان متقدما قال إبراهيم: { رب اجعل هذا بلدا آمنا } وقال: { رب اجعلني مقيم الصلاة } لا يعني خلقني مقيم الصلاة وقال: { يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة } لا يعني يريد الله أن لا يخلق لهم حظا في الآخرة
وقال لأم موسى: { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } لا يعني وخالقوه من المرسلين لأن الله تعالى وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعد ذلك مرسلا وقال: { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم } لا يعني فيخلقه في جهنم وقال: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } وقال: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } لا يعني خلقه دكا ومثله في القرآن كثير وما كان على مثاله يكون على معنى خلق فإذا قال تعالى جعل على معنى خلق وقال جعل على غير معنى خلق فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى الخلق فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون فلما قال الله عز وجل: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } يقول جعله جعلا على معنى فعل من أفعال الله على غيرمعنى خلق
وقال في سورة يوسف: { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } قال: { بلسان عربي مبين } وقال: { فإنما يسرناه بلسانك } فلما جعل الله القرآن عربيا ويسره بلسان نبيه كان ذلك فعلا من أفعال الله جعل به القرآن عربيا ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه
وقال البخاري في صحيحه باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون
وقال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى ﷺ وعلى نبينا وعلى سائر الأنبباء
قلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: لأن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا فعبرعن الله وخلق صوتا فسمع
فزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان فقلنا فهل يجوز لمكون أو لغير الله أن يقول لموسى لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري وأني أنا ربك؟ فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمية أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون يا موسى إن الله رب العالمين ولا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين وقد قال الله جل ثناؤه وكلم الله موسى تكاليما وقال { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال: إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فهذا منصوص القرآن قال: وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم
فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله ﷺ: [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ] قال وأما قولهم إن الكلام لايكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان
أليس الله عز وجل قال للسموات والأرض: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أتراه أنها قالت بجوف وشفتين ولسان؟ وقال الله: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أتراها أنها سبحت بفم وجوف ولسان وشفتين والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان ولكن الله أنطقها كيف شاء من غير أن يقول فم ولسان وشفتان
قال: فلما خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا وغيره مخلوق؟ قال: نعم قلنا: هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون وحديث الزهري [ قال لما سمع موسى كلام ربه قال يارب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم ياموسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك مت قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا تشبهه قال: أسمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلا حلاوة سمعتموها فكأنه مثله ] قال وقلنا للجهمية: من القائل لعيسى يوم القيامة يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله أليس الله هو القائل قالوا: يكون الله شيئا يعبر عن الله كمايكون فعبر لموسى فقلنا: فمن القائل: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين }
أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون الله شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول عن مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال أقول إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا: وكذلك بنوآدم كلامهم مخلوق ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتثسبيه فتعالى الله عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول إنه كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة
فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر
فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا: نحن نقول كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة والذي ليس له قدر ة هو عاجز ولا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لامتى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: { ذرني ومن خلقت وحيدا } أو قد كان لهذا الذي سماه وحيدا عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد
وكذلك ذكر الأشعري في المقالات اختلاف المعتزلة في أن الباري متكلم فقال: اختلفت المعتزلة في ذلك فمنهم من أتبت الباري متكلما ومنهم من امتنع أن يثبت الباري متكلما ولو أثبته متكلما لأثبته منفصلا والقائل لهذا الأسكافي وعباد بن سليمان قلت: وأما نقل أبي الحسين البصري اتفاق المسلمين على أن الباري متكلم ونقل من أخذ ذلك عنه كالرازي وغيره فليس بمستقيم فإن أبا الحسين كان يأخذ ما يذكره مشايخه البصريون وما نقلوه وهؤلاء يوافقون المسلمين على إطلاق القول بأن الله متكلم فيوافقون أهل الإيمان في اللفظ وهم في المعنى قائلون بقول من نفى ذلك فإذا ذكر الاجماع على هذا الإطلاق ظن المستمع لذلك أن النزاع في تغيير اللفظ كالنزاع في تغيير بعض آيات القرآن وليس كذلك بل النفاة حقيقة قولهم نفي أن يكون الله متكلما كما يصرح بذلك من يصرح منهم ولكن وافقوا المسلمين على إطلاق اللفظ نفاقا من زنادقتهم وجهلا من سائرهم
وهذا الذي بينه الإمام أحمد هو محض السنة وصريحها الذي كان عليه أئمتها وقد خلصه تخليصا لا يعرف قدره إلا خواص الأمة الذين يعرفون مزال أقدام الأذكياء الفضلاء في هذه المهمة الغبراء حتى كثر بين الفرق من الخصومات والأهواء وسائر الناس يقولون بذلك من وجه دون وجه قال الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة: قرأت في كتاب شاكر عن أبي زرعة قال: إن الذي عندنا أن القوم لم يزالوا يعبدون خالقا كاملا لصفاته ومن زعم أن الله كان ولا علم ثم خلق علما فعلم بخلقه أو لم يكن متكلما فخلق كلاما ثم تكلم به أو لم يكن سميعا بصيرا ثم خلق سمعا وبصرا: فقد نسبه إلى النقص وقائل هذا كافر لم يزل الله كاملا بصفاته لم يحدث فيه صفة ولا تزول عنه صفة قبل أن يخلق الخلق وبعد ما خلق الخلق كاملا بصفاته فمن وجه أن الرب تبارك وتعالى يتكلم كيف يتكلم بشفتين ولسان ولهوات فهذه السموات والأرض قال لهما: إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين أفهاهنا شفتان ولسان ولهوات قلت: أبو زرعة الرازي كان يشبه بأحمد بن حنبل في حفظه وفقهه ودينه ومعرفته وأحمد كان عظيم الثناء عليه داعيا له وهذا المعنى الذي ذكره هو في كلام الإمام أحمد في مواضع كما ذكره الخلال في كتاب السنة عن حنبل وقد ذكره حنبل في كتبه مثل كتاب السنة والمحنة لحنبل
قال حنبل: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبوعبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ولا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء
وقال حنبل في موضع آخر ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه وقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فنعبد الله بصفات غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه قال الله تبارك وتعالى: { وهو السميع البصير }
قال حنبل في موضع آخر: وهو سميع بصير بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغه الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن الحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت ووصف وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه
هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا بما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا ترد ولا تدفع وهو على العرش بلا حد
كما قال تعالى { ثم استوى على العرش } كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم لأبيه { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا تتعدى القرآن والحديث
والخبر بضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول وتبيين القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة قلت له: والمشبهة ما يقولون؟ قال: من قال بصركبصري ويد كيدي - وقال حنبل في موضع آخر - وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود الكلام في هذا لا أحبه
قال عبد الله: جردوا القرآن وقال النبي - ﷺ -: [ يضع قدمه ] نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله ﷺ - بل نؤمن به قال الله تبارك وتعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عما نهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والإرتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال الخلال: وناداني أبو القاسم أين الجبلي من حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى: { لا إله إلا هو الحي القيوم } { لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى وقد روى البخاري في صحيحه عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: قال رجل لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثا } { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية وقال: { أم السماء بناها } - إلى قوله - { دحاها } فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ثم قال: { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } - إلى - { طائعين } فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء وقال: وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى فقال لا أنساب في النفخة الأولى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون وأما قوله: ما كنا مشركين ولا يكتمون الله حديثا فإن الله لا يغفرلأهل الإخلاص ذنوبهم قال المشركون تعالوا نقل لم نكن مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده يود الذين كفروا الآية وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ودحاها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام ومابينهما في بومين آخرين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك وذلك قوله إني لم أزل كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب فيه الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله هكذا [ رواه البخاري ] مختصرا ورواه البرقاني في صحيحه من الطريق الذي أخرجها البخاري بعينها من طريق شيخ البخاري بعينه بألفاظه التامة أن ابن عباس جاءه رجل فقال: يا بن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي فقد وقع ذلك في صدري فقال ابن عباس: أتكذيب؟ فقال الرجل ما هو بتكذيب ولكن اختلاف قال: فهلم ما وقع في نفسك فقال له الرجل: اسمع الله يقول: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وقال في آية أخرى: { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } وقال في آية أخرى؟ { ولا يكتمون الله حديثا }
وقال في آية أخرى: { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية وفي قول: { أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } فذكر في هذه الآية: خلق السماء قبل الأرض
وقال في الآية الأخرى: { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وقوله: { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } { وكان الله سميعا بصيرا } وكأنه كان ثم انقضى فقال ابن عباس: هات ما في نفسك من هذا فقال السائل: إذا أنبأتني بهذا فحسبي قال ابن عباس قوله: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فهذا في النفخة الأولى ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون
وأما قول الله عز وجل: { والله ربنا ما كنا مشركين } وقوله: { ولا يكتمون الله حديثا } فإن الله تعالى يوم القيامة يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم لايتعاظم عليه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركا فلما رأى المشركون قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك تعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين فقال الله تعالى أما إذا كتموا الشرك فاختم على أفواههم فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا فذلك قوله: { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا }
وأما قوله: { أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين يعني ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشق فيها الأنهار وجعل فيها السبل وخلق الجبال والرمال والآكام وما فيها في يومين آخرين فذلك قوله: { والأرض بعد ذلك دحاها } وقوله: { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } وجعلت السموات في يومين آخرين
وأما قوله: { وكان الله سميعا بصيرا } { غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } فإن الله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه ذلك ولم ينحله أحد غيره وكان الله أي لم يزل كذلك ثم قال ابن عباس: احفظ عني ما حدثتك واعلم أن ما اختلف عليك من القرآن أشباه ما حدثتك فإن الله لم ينزل شيئا إلا أصاب به الذي أراد ولكن الناس لا يعلمون فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله
وهكذا رواه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن شيخ البخاري كما رواه البرقاني وإنما يختلفان في يسير من الأحرف وما ذكره أئمة السنة والحديث متعين لما جاء في الآثار من أنه سبحانه لم يزل كاملا بصفاته لم تحدث له صفة ولا تزول عنه صفة ليس لمخالف لقولهم أنه ينزل كما شاء ويجيء يوم القيامة كما يشاء وأنه استوى على العرش بعد أن خلق السموات وأنه يتكلم إذا شاء وأنه خلق آدم بيديه ونحو ذلك من الأفعال القائمة بذاته فإن الفعل الواحد من هذه الأفعال ليس مما يدخل في مطلق صفاته ولكن كونه بحيث يفعل إذا شاء هو صفته والفرق بين الصفة والفعل ظاهر فإن تجدد الصفة أو زوالها يقتضي تغير الموصوف واستحالته ويقتضي تجدد كمال له بعد نقص أو تجدد نقص له بعد كمال كما في صفات الموجودات كلها إذا حدث للموصوف ما لم يكن عليه من الصفات مثل تجدد العلم بما لم يكن يعلمه والقدرة على ما لم يكن يقدر عليه ونحو ذلك أو زال عنه ذلك بخلاف الفعل
وهكذا يقوله طوائف من أهل الكلام المخالفين للمعتزلة والذين هم أقرب إلى السنة منهم من المرجئة والكرامية وطوائف من الشيعة كما نقلوا عن الكرامية الذين يقولون إنه تحله الحوادث من القول والإرادة والاستمتاع والنظر ويقولون مع ذلك: لم يزل الله متكلما ولم يزل بمشيئته القديمة ولم يزل سميعا بصيرا أجمعوا على أن هذه الحوادث لا توجب لله سبحانه وصفا ولا هي صفات له سبحانه والذين ينازعون في هذا من المعترلة ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم فيقولون لو قام فعل حادث بذات القديم لاتصف بها وصار الحادث صفة له إذ لا معنى لقيام المعاني واختصاصها بالذوات إلا كونها صفات لها فلو قامت الحوادث من الأفعال والأقوال والارادات بذات القديم لاتصف بها كما اتصف بالحياة والقدرة والعلم والمشيئة ولو اتصف بها لتغير بها والتغير عليه ممتنع وهذا نزاع لفظي فإن تسمية هذا صفة وتغيرا لا يوافقهم الأولون عليه وليست اللغة أيضا موافقة عليه فإنها لا تسمي قيام الإنسان وقعوده تغيرا له ولا يطلق القول بأنه صفة له وإن أطلق ذلك فالنزاع اللفظي لا يضر إلا إذا خولفت ألفاظ الشريعة وليس في الشريعة ما يخالف ذلك ولكن هؤلاء كثيرا ما يتنازعون في الألفاظ المجملة المتشابهة وقد قيل أكبر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء
قال الإمام أحمد في وصف أهل البدع فهم مخالفون الكتاب مختلفون في الكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ويتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم والذين يبين أن مجرد الحركة في الجهات ليست تغيرا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: [ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] فأمر بتغيير المنكر باليد أو اللسان ومعلوم أن تغيير المنكر هو ما يخرجه عن أن يكون منكرا وذلك لا يحصل إلا بإزالة صورته وصفته بتحريكه من حيز إلى حيز فتغيير الخمر لا يحصل بمجرد نقلها من حيزإلى حيز بل بإراقتها أو إفسادها مما فيه استحالة صورتها وكذلك من رأى من يقتل غيره لم يكن تغيير ذلك بمجرد النقل الذي ليس فيه زوال صورة القتل بل لا بد من زوال صورة القتال وكذلك الزانيان وكذلك المتكلم بالبدعة والداعي ليس تغيير هذا المنكر بمجرد التحويل من حيز إلى حيز وأمثال ذلك كثيرة فإذا كان النبي ﷺ قد أمر بتغيير المنكر وذلك لا يحصل قط بمجرد النقل في الأحياز والجهات إذ الأحياز والجهات متساوية فهومنكر هنا كما أنه منكر هناك علم أن هذا لا يدخل في مسمى التغيير بل لا بد في التغيير من إزالة صورة موجودة وإن ذاك قد يحصل بالنقل لكن الغرض أن مجرد الحركة كحركة الشمس والقمر والكواكب لا يسمى تغيرا بخلاف ما يعرض للجسد من الخوف والمرض والجوع ونحو ذلك مما يغير صفته
قلت وفي هذا الذي لا ذكره الإمام أحمد ردعلى الطائفتين المختلفتين في معنى قول أحمد وسائر السلف في معنى أن القرآن غير مخلوق هل المراد أنه قديم لازم لذاته لا يتعلق بالمشيئة والقدرة كالعلم أو المراد أنه لم يزل متكلما كما يقال لم يزل خالقا وقد ذكر الخلاف في ذلك عن أصحاب الإمام أحمد أبو بكر عبد العزيز في كتاب المقنع وذكره عنه القاضي أبو يعلى في كتاب البيان في القرآن مع أن القاضي وأتباعه يقولون بالقول الأول ويتأولون كلام أحمد المخالف لذلك على الأسماع ونحوه وليس الأمر كذلك وهذه المسألة هي التي وقعت الفتنة بها بين الإمام أبي بكر بن خزيمة وبعض أصحابه
وكلام أحمد والأئمة ليس هو قول هؤلاء ولا قول هؤلاء بل فيه ما أثبته هؤلاء من الحق وما أثبته هؤلاء من الحق وكل كل من الطائفتين أثبت من الحق ما أثبته فإن الإمام أحمد قد بين أنه لم يزل الله متكلما إذا شاء وإذا نظر ذلك بالعلم والقدرة والنور فليس كالمخلوقات الباينة عنه لأن الكلام من صفاته وليس كالصفة القائمة به التي لا تتعلق بمشيئته ولهذا قال أحمد في رواية حنبل: لم يزل الله متكلما عالما غفورا وقد ذكرنا كلام ابن عباس في دلالة القرآن على ذلك فذكر أحمد ثلاث صفات متكلما عالما غفورا فالتكلم يشبه العلم من وجه ويشبه المغفرة من وجه فلا يشبه بأحدهما دون الآخر فالطائفة التي جعلته كالعلم من وجه والطائفة التي جعلته كالمغفرة من كل وجه قصرت في معرفته وليس هذا وصفا له بالقدرة على الكلام بل هو وصف له بوجود الكلام إذا شاء وسيجيء كلام أحمد في رواية المروزي
وقوله: إن الله لم يخل من العلم والكلام وليسا من الخلق لأنه لم يخل منهما ولم يزل الله متكلما عالما فقد نفى عنه الخلق في ذاته أو غير ذاته وبين أنه لم يخل منهما وهنا يبين أنه لم يخلق القرآن لا في ذاته ولا خارجا عنه وفي كلامه دليل على أن قول القائل تحله الحوادث أو لا تحله الحوادث كلاهما منكر عنده وهو تقتضي أصوله لأن في نفي ذلك بدعة وفي إثباته أيضا بدعة ولهذا أنكر أحمد على من قال القرآن محدث إذ كان معناه عندهم معنى الخلق المخلوق كما روى الخلال عن الميموني أنه قال لأبي عبد الله ما تقول فيمن قال إن أسماء الله محدثة فقال: كافر
ثم قال لي: الله من أسمائه فمن قال إنها محدثة فقد زعم أن الله مخلوق وأعظم أمرهم عنده وجعل يكفرهم وقرأ علي { الله ربكم ورب آبائكم الأولين } وذكر آية أخرى
وقال الخلال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه كلامه في داود الأصبهاني وكتاب محمد بن يحيى النيسابوري فقال: جاءني داود فقال: تدخل على أبي عبد الله وتعلمه قصتي وأنه لم يكن مني يعني ما حكوا عنه قال: فدخلت على أبي فذكرت له ذلك قال: ولم أعلم أنه على الباب فقال لي: كذب قد جاءني كتاب محمد بن يحيى هات تلك الاضبارة قال الخلال وذكر الكلام فلم أحفظه جيدا فأخبرني أبو يحيى عن زكريا أبو الفرج الرازي قال: جئت يوما إلى أبي بكر المروزي وإذا عنده عبد الله بن أحمد فقال له أبو بكر: أحب أن تخبر أبا يحيى ما سمعت من أبيك في داود الأصبهاني فقال عبد الله: لما قدم داود من خراسان جاءني فسلم علي فسلمت عليه فقال لي قد علمت شدة محبتي لكم وللشيخ وقد بلغه عني كلام فأحب أن تعذرني عنده وتقول له أن ليس هذا مقالتي أوليس كما قيل لك فقلت: لا تريد؟
فأبى فدخلت إلى أبي فأخبرته أن داود جاء فقال إنه لا يقول بهذه المقالة وأنكر قال: جئني بتلك الاضبارة [ الكتب ] فأخرج منها كتابا فقال هذا كتاب محمد بن يحيى النيسابوري وفيه أنه يعني داود الأصبهاني أحل في بلدنا الحال والمحل
وذكر في كتابه أنه قال القرآن محدث فقلت له إنه ينكر ذلك فقال: محمد بن يحيى أصدق منه لا نقبل قول عدو الله أو نحو ما قال أبو يحيى وأخبرني أبو بكر المروزي بنحو ذلك قال الخلال وأخبرني الحسين بن عبد الله - يعني الخرقي - والد أبي القاسم صاحب المختصر قال: سألت أبا بكر المروزي عن قصة داود الأصبهاني وما أنكر عليه أبو عبد الله فقال: كان داود خرج إلى خراسان إلى إسحاق بن راهويه فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وشيخ من أصحاب الحديث من قطيعة الربيع شهدوا عليه أنه قال القرآن محدث فقال لي أبوعبد الله: من داود بن علي الأصبهاني لا فرج الله عنه فقلت: هذا من غلمان أبي ثور قال جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدث ثم إن داود قدم إلى ههنا فذكر نحو قصة عبد الله قال المروزي: وحدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري أن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه لما سمع كلام داود في بيته وثب عليه إسحاق فضربه وأنكرعليه هذه قصته
قال الخلال أخبرني محمد بن جعفر الراشدي قال: لقيت ابن محمد بن يحيى بالبصرة عند بندار فسألته عن داود فأخبرني بمثل ما كتب به محمد بن يحيى إلى أحمد بن حنبل وقال: خرج من عندنا من خراسان بأسوأ حال وكتب لي بخطه وقال شهد عليه بهذا القول بخراسان علماء نيسابور
قلت: أما الذي تكلم به عند إسحاق فأظنه كلامه في مسألة اللفظ فإنه قال: الأمرين كما قال الخلال سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة سمعت أبا عبد الله محمد بن الحسن بن صبيح قال سمعت داود ألأصبهاني يقول: القرآن محدث ولفظي بالقرآن مخلوق قلت فأنكر الأئمة على داود قوله أن القرآن محدث لوجهين:
أحدهما: إن معنى هذا عند الناس كان معنى قول من يقول القرآن مخلوق
وكانت الواقفة الذين يعتقدون أن الخلق مخلوق ويظهرون الوقف فلا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون إنه محدث ومقصودهم مقصود الذين قالوا هو مخلوق فيوافقونهم في المعنى ويستترون بهذا اللفظ فيمتنعون عن نفي الخلق عنه وكان إمام الواقفة في زمن أحمد محمد بن شجاع الثلجي يفعل ذلك وهو تلميذ بشر المريسي وكانوا يسمونه ترس الجهمية ولهذا حكى أهل المقالات عنه ذلك
قال الأشعري في كتاب المقالات القول في القرآن قالت المعتزلة والخوارج وأكثر الزيدية والمرجئة وكثير من الرافضة: إن القرآن كلام الله وإنه مخلوق لله لم يكن ثم كان وقال هشام بن الحكم ومن ذهب مذهبه أن القرآن صفة لله لا يقال مخلوق ولا أنه خالق هذه الحكاية عنه وزاد الثلجي في الحكاية عنه أنه قال: لا يقال غير مخلوق أيضا كما لا يقال مخلوق لأن الصفات لا توصف
وحكى زرقان عنه أن القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن وأما القرآن ففعل الله مثل العلم والحركة منه لاهو هوولا هوغيره
قال محمد بن شجاع الثلجي ومن وافقه من الواقفة: إن القرآن كلام الله وإنه محدث كان بعد أن لم يكن وبالله كان وهو الذي أحدثه وأمتنعوا من إطلاق القول بأنه مخلوق أو غير مخلوق وقال زهير: ألا يرى أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وبلغني عن بعض المتفقهين كان يقول: إن الله لم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل قادرا على الكلام ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق قال وهذا قول داود الأصبهاني وقال أبو معاذ التومني: القرآن كلام الله حدث وليس بمحدث وفعل ليس بمفعول وامتنع أن يزعم أنه خلق ويقول ليس يخلق ولا مخلوق وأنه قائم بالله ومحال أن يتكلم الله بكلام قائم بغيره كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه أن ذلك أجمع قائم بالله وكان يقول: إن بعض القرآن أمر وهو الإرادة من الله الإيمان لأن معنى أن الله أراد الإيمان هو أنه أمر به وحكى زرقان عن معمر أنه قال: إن الله تعالى خلق الجوهر والأعراض التي هي فيه هي فعل الجوهر إنما هي فعل الطبيعة فالقرآن فعل الجوهرالذي هوفيه بطبعه فهو لا خالق ولا مخلوق وهو محدث للشيء الذي هو حال فيه بطبعه وحكي عن ثمامة بن أشرس النميري أنه قال: يجوز أن يكون من الله
ويجوز أن يكون الله تعالى يبتدؤه فإن كان الله أبتدأه فهو مخلوق وإن كان فعل الطبيعة فهو لا خالق ولا مخلوق قال وهذا قول عبد الله بن كلاب
قال عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وأنه قديم بكلامه وأن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وأن الكلام ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير وأنه معنى واحد بالله تعالى وأن الرسم هو الحروف المتغايرة دون قراءة القارىء وأنه خطأ أن يقال كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره وأن العبارات عن كلام الله تعالى تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير كما أن ذكرنا الله يختلف ويتغاير والمدلول لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا لعلة وهي أن الرسم الذي هو عبارة عنه عبراني وكذلك سمي أمرا لعلة ونهيا وخبرا لعلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا قبل وجود العلة التي بها يسمى كلامه أمرا وكذلك القول في تسمية كلامه نهيا وزجرا وأنكر أن يكون البارىء لم يزل مخبرا أو لم يزل ناهيا وقال إن الله لا يخلق شيئا إلا قال له كن فيكون فيستحيل أن يكون قوله كن مخلوقا قال: وزعم عبد الله بن كلاب أن ما يسمع الناس يتلونه هو عبارة عن كلام الله وأن موسى سمع الله متكلما بكلامه وأن معنى قوله: { فأجره حتى يسمع كلام الله } معناه حتى يفهم كلام الله قال ويحتمل على مذهبه أن يكون معناه حتى يسمع التالين يتلونه قال: وقال بعض من أنكر خلق القرآن أن القرآن قد يكتب ويسمع وأنه متغاير غير مخلوق وكذلك العلم غير القدرة والقدرة غير العلم وأن الله تعالى لايجوز أن يكون غير صفاته وصفاته متغايرة وهو غير متغاير قال
وقد حكي عن صاحب هذه المقالة أنه قال: بعض القرآن مخلوق وبعضه غير مخلوق فما كان منه مخلوقا فمثل صفات المخلوقين وغير ذلك والأخبار عن أفعالهم قال وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث وأن الله تعالى لم يزل به متكلما وأنه مع ذلك حروف وأصوات وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلما بها وحكي عن ابن الماجشون: إن نصف القرآن مخلوق ونصفه غير مخلوق وحكى بعض من يخبر عن المقالات: أن قائلا من أصحاب الحديث قال ما كان علما من علم الله في القرآن فلا نقول مخلوق ولا نقول غير الله وما كان منه أمرا أو نهيا فهو مخلوق وحكى هذا الحاكي عن سليمان بن جرير قال وهو معه عندي قال وحكى محمد بن شجاع أن فرقة قالت أن القرآن هو الخالق وأن فرقة قالت هو بعضه وحكى زرقان أن القائل بهذا وكيع بن الجراح وأن فرقة قالت: إن الله هو بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن وأن فرقة قالت هو أولى قائم بالله لم يسبقه قال الأشعري وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق كنحوعبد الله بن كلاب ومن قال إنه محدث كنحو زهير ومن قال إنه محدث كنحو أبي معاذ التوني يقولون إن القرآن ليس بجسم ولا عرض قلت: محمد بن شجاع وزر قال ونحوهما هم من الجهمية ونقلهم عن أهل السنة فيه تحريف في النقل
وقد ذكر الأشعري في أول كتابه في المقالات أنه وجد ذلك في نقل المقالات فإنه قال:
أما بعد فإنه لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات ورأيت الناس في حكاية يحكون من ذكر المقالات ويصنفون في النحل والديانات من بين مقصر فيما يحكيه وغالط فيما يذكر من قول مخالفيه وبين معتمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من خالفه ومن بين تارك للتقضي في حكايته لما يرويه من اختلاف المختلفين ومن بين منم يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به قال: وليس هذا سبيل الديانين ولا سبيل ألفاظ المتميزين فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمست شرحه من أمر المقالات واختصار ذلك
قلت: وهو نفسه وإن تحرى فيما ينقله ضبطا وصدقا لكنه أكثر ما ينقله من مذاهب الذين لم يقف على كتبهم وكلامهم هومن نقل هؤلاء المصنفين في المقالات كزرقان وهو معتزلي وابن الراوندي وهو شيعي وكتب أبي علي الجبائي ونحوهم فيقع في النقل ما فيه من جهة هؤلاء مثل هذا الموضع فإن ما ذكره محمد بن شجاع عن فرقة أنها قالت إن القرآن هو الخالق وفرقة قالت هو بعضه وحكاية زرقان أن القائل بهذا هو وكيع بن الجراح هو من باب النقل بتأويلهم الفاسد وكذلك قوله أن فرقة قالت إن الله بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن وذلك أن الذي قاله وكيع وسائر الأئمة أن القرآن من الله يعنون أن القرآن صفة الله وأنه تعالى هو المتكلم به وأن الصفة هي مما تدخل في مسمى الموصوف كما روى الخلال حدثني أبو بكر السالمي حدثنى ابن أبي أويس سمعت مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله من الله وليس شيء من الله مخلوق ورواه اللالكائي من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبد الله بن يزيد الواسطي سمعت أبا بكر أحمد بن محمد المعمري سمعت ابن أبي أويس يقول: سمعت خالي مالك بن أنس وجماعة العلماء بالمدينة يذكرون القرآن فقالوا: كلام الله وهو منه ليس من الله شيء مخلوق وقال الخلال: أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: أدركت الناس ما يتكلمون في هذا ولاعرفنا هذا إلا بعد منذ سنين القرآن كلام الله منزل من عند الله لا يؤول إلى خالق ولا مخلوق منه بدأ وإليه يعود هذا الذي لم نزل عليه ولا نعرف غيره قال الخلال: أنبأنا المروزي أخبرني أبو سعيد بن أخي حجاج الأنماطي أنه سمع عمه يقول: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق وهو منه
وروى اللالكائي من حديث حمد بن الحسن الصوفي حدثنا عبد الصمد مردويه قال: اجتمعنا إلى اسماعيل بن علية بعد ما رجع من كلامه فكنت أنا وعلي فتى هشيم وأبو الوليد خلف الجوهري وأبو كنانة الأعور وأبو محمد سرور مولى المعلى صاحب هشيم فقال له علي فتى هشيم: نحب أن نسمع منك ما نؤديه إلى الناس في أمر القرآن ققال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق ومن قال إن شيئا من الله مخلوق فقد كفر وأنا أستغفر الله مما كان مني في المجلس
وروى من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال أخبرت عن محرز بن عون قال محمد بن يزيد الواسطي: علمه وكلامه منه وهو غير مخلوق وقال عبد الله أنبأنا إسحاق بن البهلول سمعت ابن أبي أويس يقول: القرآن كلام الله ومن الله وما كان من الله فليس بمخلوق وقال الخلال في كتاب السنة أخبرني محمد بن سليمان قال قلت: لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ما تقول في القرآن عن أي قالة تسأل قلت كلام الله قال كلام الله وليس بمخلوق ولا تجزع أن تقول ليس بمخلوق فإن كلام الله من الله ومن ذات الله وتكلم الله به وليس من الله شيء مخلوق
وروى عن جماعة عن أحمد بن الحسن الترمذي قال سألت أحمد فقالت: يا أبا عبد الله قد وقع في أمر القرآن ما قد وقع فإن سئلت عنه ماذا أقول فقال لي ألست أنت مخلوقا؟ قلت نعم فقال أليس كل شيء منك مخلوقا؟ قلت: نعم قال فكلام الله أليس هومنه؟ قلت: نعم قال: فيكون شيء من الله عزوجل مخلوقا قال الخلال وأخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني حنبل سمعت أبا عبد الله يقول: قال الله في كتابه العزيز: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فجبريل سمعه من الله تعالى وسمعه النبي ﷺ من جبريل ﷺ وسمعه أصحاب النبي من النبى ﷺ فالقرآن كلام الله غير مخلوق ولا نشك ولا نرتاب فيه وأسماء الله تعالى في القرآن وصفاته في القرآن إن القرآن من علم الله وصفاته منه فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وقد كنا نهاب الكلام في هذا حتى أحدث هؤلاء ما أحدثوا وقالوا ما قالوا ودعوا الناس إلى ما دعوهم إليه فبان لنا أمرهم وهو الكفر بالله العظيم ثم قال أبوعبد الله لم يزل الله عالما متكلما نعبد الله بصفات غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف بها نفسه سميع عليم غفوررحيم عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات الله تبارك وتعالى وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال: { ثم استوى على العرش } كيف شاء المشيئة إليه والإستطاعة له ليس كمثله شيء وهو السميع البصيرلا يبلغه صفة الواصفين وهوكما وصف نفسه نؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه كل من عند ربنا قال الله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } نترك الجدال في القرآن والمراد فيه لا نجادل ولا نماري ونؤمن به كله ونرده إلى عالمه تبارك وتعالى فهو أعلم به منه بدأ وإليه يعود قال أبو عبد الله وقال: لي عبد الرحمن بن إسحاق كان الله ولا قرآن فقلت: مجيبا له كان الله ولا علم فالعلم من الله وله وعلم الله منه والعلم غير مخلوق فمن قال إنه مخلوق فقد كفر بالله وزعم أن الله مخلوق فهذا الكفر البين الصراح
قال وسمعت عبد الله بن أحمد قال ذكر أبو بكر الأعين قال سئل أحمد بن حنبل عن تفسيرقوله القرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود فقال أحمد: منه خرج هو المتكلم له وإليه يعود قال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني حدثنا أبو يعقوب إسحق بن إبراهجم يعني ابن راهويه عن سفيان بن عيينة عن عمروبن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة أدركت أصحاب النبي ﷺ فمن دونهم يقولون الله خالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود قال الخلال حدثني عبد الله بن أحمد حدثني محمد بن إسحاق الصافاني حدثني أبو حاتم الطويل قال قال وكيع: من قال إن كلام الله ليس منه فقد كفر ومن قال إن شيئا منه مخلوق فقد كفر وروى أبو القاسم اللالكائي قال ذكر أحمد بن فرح الضرير وحدثني علي بن الحسين الهاشمي حدثنا عمي قال سمعت وكيع بن الجراح يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق فقلت يا أبا سفيان من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله يقول: { ولكن حق القول مني } ولا يكون شيء من الله مخلوقا قال اللالكائي وكذلك فسره أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد والحسن بن الصباح البزار وعبد العزيز بن يحيى الكناني فهذا لفظ وكيع بن الجراح الذي سماه زرقان وهو لفظ سائر الأئمة الذين حرف محمد بن شجاع قولهم فإن قولهم كلام الله من الله يريدون به شيئين:
أحدهما: إنه صفة من صفاته والصفة مما تدخل في مسمى اسمه وهذا كما قال الإمام أحمد فالعلم من الله وله وعلم الله منه وكقوله وقول غيره من الأئمة ما وصف الله من نفسه وسمى من نفسه ولا ريب أن هذا يقال في سائر الصفات كالقدرة والحياة والسمع والبصر وغير ذلك فإن هذه الصفات كلها من الله أي مما تدخل في مسمى اسمه
والثاني: يريدون بقولهم كلام الله منه أي خرج منه وتكلم به كقوله تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } وذلك كقوله: { ولكن حق القول مني } وقوله: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وهذا اللفظ والمعنى مما استفاضت به الآثار كما تقدم رواية ابن عباس أنه كان في جنازة فلما وضع الميت في اللحد قام رجل وقال اللهم رب القرآن أغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال مه القرآن منه وفي الرواية الأخرى فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود
وقد رواه الطبراني في كتاب السنة أيضا حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور الجوهري حدثنا عاصم بن علي حدثنا أبي عمر ان بن حدير عن عكرمة قال كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: الله رب القرآن أوسع عليه مدخله الله رب القرآن أغفر له فالتفت إليه ابن عباس فقال: مه القرآن كلام الله وليس بمربون منه خرج وإليه يعود - وقال الخلال حدثني المروذي في الكتاب الذي عرضه على أحمد بن حنبل قال وقد أخبرني شيخ أنه سمع ابن عيينة يقول القرآن خرج من الله قال وحدثنا أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل حدثنا ابن مهدي عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحرث بن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله ﷺ: [ إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه ] يعني القرآن قال وحدثنا عباس الوراق وغيره عن أبي النضر هاشم بن القاسم حدثنا بكر بن حنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطاة عن أبي أمامة قال قال رسول الله ﷺ: [ ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه ] يعني القرآن الحديث
قلت: والأول المرسل أثبت من هذا وقد رواهما الترمذي فقال: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو الضر حدثنا بكر بن خنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطأة عن أبي أمامة قال: قال النبي ﷺ: [ ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما وأن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه ]
قال أبو النضر يعني القرآن قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وبكر بن حنيس قد تكلم فيه ابن المبارك وتركه في آخر أمره وقد روى هذا الحديث عن زيد بن أرطأة عن جبير بن نفير عن النبي ﷺ - مرسلا حدثنا بذلك إسحاق بن منصور حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن معاوية عن العلاء بن الحرث عن زيد بن أرطأة عن جبير بن نقير قال قال النبي ﷺ: [ إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه يعني القرآن ]
وروى أبو القاسم اللالكائي حديث عمرو بن دينار المتقدم وذكره من طريق محمد بن جرير الطبري حدثنا محمد بن أبي منصور الأيلي حدثنا الحكم بن محمد أبو مروان الأيلي حدثنا ابن أبي عيينة سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود قال اللالكائي روى عبدالعزيز بن منيب المروذي عن ابن عيينة بهذا اللفظ قال ورواه عبدالرحمن بن أبي حاتم عن محمد بن عمار بن حريث حدثنا أبو مروان الطبري بمكة وكان فاضلا حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت شيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق
قال محمد بن عمار وأن شيخته أصحاب رسول الله ﷺ ابن عباس وجابر وذكر جماعة قال ورواه محمد بن مقاتل المروذي سمعت أبا وهب وكان من ساكني مكة وكان رجل صدق عين ابن عيينة بهذا اللفظ وكذلك رواه يزيد بن وهب عن سفيان ومحمد بن عبد الله بن مسرة عن سفيان بهذا اللفظ
قلت: وكذلك رواه البخاري عن الحكم بهذا اللفظ لكنه اقتصر به على سفيان فقال حدثني الحكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة حدثنا سفيان بن عيينة قال: أدركت شيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون القرآن كلام الله وليس بمخلوق ولم يروه اللالكائي هكذا عن غير البخاري وإسحاق بن راهوية قد أثبت اللفظين جميعا عن ابن عيينة عن عمرو مكتمل الإسناد والمتن وإنما سمى والله أعلم زرقان وكيعا لأنه كان من أعلم الأئمة بكفر الجهمية وباطن قولهم وكان من أعظمهم ذما لهم وتنفيرا عنهم فبلغ الجهمية من ذمه لهم ما لم يبلغهم من ذم غيره إذ هم من أجهل الناس بالآثار النبوية وكلام السلف والأئمة كما يشهد بذلك كتبهم ومحمد بن شجاع هذا مجروح منهم في روايته وترجمته في كتب الجرح والتعديل وترجمة معروفة وتجريح حكام الجرح والتعديل له مشهور
قال البخاري في كتاب الله خلق الأفعال حدثني أبو جعفر محمد بن عبد الله حدثني محمد بن قدامة اللال الأنصاري قال سمعت وكيعا يقول لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل
قال البخاري وقال وكيع الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهما والجهمية شر هذه الأصناف قال الله تعالى: { وكلم الله موسى تكليما } ويقولون لم يكلم ويقولون الإيمان بالقلب
قال البخاري: وقال وكيع إحذروا هؤلاء المرجئة وهؤلاء الجهمية والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمتم كيف كفروا قالوا تكفيك المعرفة وهذا كفر والمرجئة يقولون الإيمان قول بلا فعل وهذا بدعة فمن قال القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد ﷺ يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه قال: وقال وكيع على المريسي لعنه الله يهودي هو أن نصراني فقال له رجل كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا قال وكيع وعلى أصحابه لعنة الله القرآن كلام الله وضرب وكيع إحدى يديه على الآخرى فقال هو ببغداد يقال له المريسي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه