الفتاوى الكبرى/كتاب الصلاة/16
193 - 277 - سئل: عمن يصلي مع الإمام وبينه وبين الإمام حائل بحيث لا يراه ولا يرى من يراه: هل تصح صلاته؟ أم لا؟
أجاب: الحمد لله نعم ! تصح صلاته عند أكثر العلماء وهو المنصوص الصريح عن أحمد فإنه نص على أن المنبر لا يمنع الاقتداء والسنة في الصفوف أن يتموا الأول فالأول ويتراصون في الصف
فمن صلى في مؤخر المسجد مع خلو ما يلي الإمام كانت صلاته مكروهة والله أعلم
194 - 278 - سئل: عن إمام يصلي خلفه جماعة وقدامه جماعة فهل تصح صلاة المتقدمين على الإمام؟ أم لا؟
أجاب: الحمد لله أما الذين خلف الإمام فصلاتهم صحيحة بلا ريب وأما الذين قدامه فللعلماء فيهم ثلاثة أقوال قيل: تصح وقيل: لا تصح وقيل: تصح إذا لم يمكنهم الصلاة معه إلا تكلفا وهذا أولى الأقوال والله أعلم
279 - / 195 - مسألة: في الحوانيت المجاورة للجامع من أرباب الأسواق إذا اتصلت بهم الصفوف فهل تجوز صلاة الجمعة في حوانيتهم؟
الجواب: أما صلاة الجمعة وغيرها فعلى الناس أن يسدوا الأول فالأول كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف ] فليس لأحد أن يسد الصفوف المؤخرة مع خلو المقدمة ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد ومن فعل ذلك استحق التأديب ولمن جاء بعده تخطيه ويدخل لتكميل الصفوف المقدمة فإن هذا لا حرمة له
كما أنه ليس لأحد أن يقدم ما يفرش له في المسجد ويتأخر هو وما فرش له لم يكن له حرمة بل يزال ويصلي مكانه على الصحيح بل إذا امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد فإذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم
وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء
وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء
وكذلك من صلى في حانوته والطريق خال لم تصح صلاته وليس له أن يقعد في الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به بل عليه أن يذهب إلى المسجد فيسد الأول فالأول والله أعلم
280 - 196 - مسألة: في صلاة الجمعة في الأسواق وفي الدكاكين والطرقات اختيارا هل تصح صلاته؟ أم لا؟
الجواب: إن اتصلت الصفوف فلا بأس بالصلاة لمن تأخر ولم يمكنه إلا ذلك
وأما إذا تعمد الرجل أن يقعد هناك ويترك الدخول إلى المسجد كالذين يقعدون في الحوانيت فهؤلاء مخطئون مخالفون للسنة فإن النبي ﷺ قال: [ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يكملون الأول فالأول ويتراصون في الصف ] وقال: [ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ]
وأما إذا لم تتصل الصفوف بل كان بين الصفوف طريق ففي صحة الصلاة قولان للعلماء هما روايتنا عن أحمد
أحدهما: لا تصح كقول أبي حنيفة
والثاني: تصح كقول الشافعي والله أعلم
197 - 281 - سئل: عن جامع بجانب السوق بحيث يسمع التكبير منه: هل تجوز صلاة الجمعة في السوق؟ أو على سطح السوق؟ أو في الدكاكين؟ أم لا؟
أجاب: الحمد لله إذا امتلأ الجامع جاز أن يصلي في الطرقات فإذا امتلأت صلوا فيما بينها من الحوانيت وغيرها وأما إذا لم تتصل الصفوف فلا وكذلك فوق الأسطحة والله أعلم
198 - 282 - سئل: عن رجل شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه لا يستطيع أن يأكل أو يشرب ولا يتحرك ولا يستنجي بالماء وإذا سجد ما يستطيع الرفع فكيف يصلي؟
الجواب: أما الصلاة فإنه يفعل ما يقدر عليه ويصلي قاعدا إذا لم يستطع القيام ويوميء برأسه إيماء بحسب حاله وإن سجد على فخذه جاز ويمسح بخرقة إذا تخلى ويوضئه غيره إذا أمكن ويجمع بين الصلاتين فيوضيه في آخر وقت الظهر فيصلي الظهر والعصر بلا قصر ثم إذا دخل وقت المغرب صلى المغرب والعشاء ويوضيه الفجر
وإن لم يستطع الصلاة قاعدا صلى على جنبه ووجهه إلى القبلة وإن لم يكن عنده من يوضئه ولا ييممه صلى على حسب حاله سواء كان على قفاه ورجلاه إلى القبلة أو على جنبه ووجهه إلى القبلة
وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة صلى إلى أي جهة توجه شرقا أو غربا والله سبحانه وتعالى أعلم
199 - 283 - سئل: هل تجوز صلاة المرأة قاعدة مع قدرتها على القيام؟
أجاب: وأما صلاة الفرض قاعدا مع القدرة على القيام فلا تصح لا من رجل ولا امرأة بل قد قال النبي ﷺ: [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك ]
ولكن يجوز التطوع جالسا ويجوز التطوع على الراحلة في السفر قبل أي جهة توجهت بصاحبها فإن النبي ﷺ كان يصلي على دابته قبل أي جهة توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة
ويجوز للمريض إذا شق عليه القيام أن يصلي قاعدا فإن لم يستطع صلى على جنبه وكذلك إذا كان رجل لا يمكنه النزول إلى الأرض صلى على راحلته والخائف من عدوه إذا نزل يصلي على راحلته والله أعلم
284 - 200 - سئل: هل القصر في السفر سنة أو عزيمة؟ وعن صحة الحديث الذي رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعل النبي ﷺ قصر الصلاة وأتم
أجاب: أما القصر في السفر فهو سنة النبي ﷺ وسنة خلفائه الراشدين فإن النبي ﷺ لم يصل في السفر قط إلا ركعتين وكذلك أبو بكر وعمر وكذلك عثمان في السنة الأولى من خلافته لكنه في السنة الثانية أتمها يمنى لأعذار مذكورة في غير هذا الموضوع
وأما الحديث المذكور فلا ريب أنه خطأ على عائشة وإبراهيم بن محمد هو ابن أبي يحيى المدني القدري وهو وطلحة بن عمرو المكي ضعيفان باتفاق أهل الحديث لا يحتج بواحد منهما فيما هو دون هذا وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت: [ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ] وقيل لعروة: فلم أتمت عائشة الصلاة؟ قال: تأولت كما تأول عثمان فهذه عائشة تخبر بأن صلاة السفر ركعتان وابن اختها عروة أعلم الناس بها: يذكر أنها أتمت بالتأويل لم يكن عندها بذلك سنة وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: [ صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ]
وأيضا فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي ﷺ لم يصل في السفر إلا ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى أربعا قط ولكن الثابت عنه أنه صام في السفر وأفطر وكان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر
وأما القصر فكل الصحابة كانوا يقصرون منهم أهل مكة وغير أهل مكة بمنى وعرفة وغيرهما وقد تنازع العلماء في التربيع: هل هو محرم؟ أو مكروه؟ أو ترك للأولى؟ أو مستحب؟ أو هما سواء على خمسة أقوال:
أحدها: قول من يقول أن الإتمام أفضل كقول للشافعي
والثاني: قول من يسوي بينهما كبعض أصحاب مالك
والثالث: قول من يقول القصر أفضل: كقول الشافعي الصحيح وإحدى الروايتين عن أحمد
والرابع: قول من يقول الإتمام مكروه كقول مالك في إحدى الروايتين وأحمد في الرواية الأخرى
والخامس: قول من يقول أن القصر واجب كقول أبي حنيفة ومالك في رواية
وأظهر الأقوال: قول من يقول إنه سنة وأن الإتمام مكروه ولهذا لا تجب نية القصر عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أحد القولين عنه في مذهبه
285 - / 201 - سئل: هل لمسافة القصر قدر محدود عن الشارع ﷺ؟
الجواب: السنة أن يقصر المسافر الصلاة فيصلي الرباعية ركعتين هكذا فعل رسول الله ﷺ في جميع أسفاره هو وأصحابه ولم يصل في السفر أربعا قط وما روي عنه أنه صلى في السفر أربعا في حياته فهو حديث باطل عند أئمة الحديث
وقد تنازع العلماء في المسافر إذا صلى أربعا فقيل: لا يجوز ذلك كما ما لا يجوز أن يصلي الفجر والجمعة والعيد أربعا وقيل: يجوز ولكن القصر أفضل عند عامتهم - ليس فيه إلا خلاف شاذ ولا يفتقر القصر إلى نية بل لو دخل في الصلاة وهو ينوي أن يصلي أربعا - اتباعا لسنة رسول الله ﷺ وقد كان ﷺ لما حج بالمسلمين حجة الوداع يصلي بهم ركعتين ركعتين إلى أن رجع وجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة والمسلمون خلفه ويصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم جمعا وقصرا ولم يأمر أحدا أن ينوي لا جمعا ولا قصرا
وأقام بمنى يوم العيد وإمام منى يصلي بالمسلمين ركعتين ركعتين والمسلمون خلفه يصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم وكذلك أبو بكر وعمر بعده ولم يأمر النبي ﷺ ولا أبو بكر ولا عمر أحدا من أهل مكة أن يصلي أربعا لا بمنى ولا بغيرها فلهذا كان أصح قولي العلماء أن أهل مكة يجمعون بعرفة ومزدلفة ويقصرون بها وبمنى وهذا قول عامة فقهاء الحجاز كمالك وابن عيينة وهو قول إسحاق بن راهويه واختيار طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي الخطاب في عباداته
وقد قيل: يجمعون ولا يقصرون وهو قول أبي حنيفة وهو المنصوص عن أحمد وقيل: لا يقصرون ولا يجمعون كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وهو أضعف الأقوال
والصواب المقطوع به أن أهل مكة يقصرون ويجمعون هناك كما كانوا يفعلون هناك مع النبي ﷺ وخلفائه ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه قال لهم هناك أتموا صلاتهم فإنا قوم سفر ولكن نقل أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم داخل مكة وكذلك كان عمر يأمر أهل مكة بالإتمام إذا صلى بهم في البلد وأما بمنى فلم يكن يأمرهم بذلك
وقد تنازع العلماء في قصر أهل مكة خلفه فقيل: كان ذلك لأجل النسك فلا يقصر المسافر سفرا قصيرا هناك وقيل: بل كان ذلك لأجل السفر وكلا القولين قاله بعض أصحاب أحمد والقول الثاني هو الصواب وهو أنهم قصروا لأجل سفرهم ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة وكانوا محرمين والقصر معلق بالسفر وجودا وعدما فلا يصلي ركعتين إلا مسافر وكل مسافر يصلي ركعتين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ صلاة المسافر ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة النحر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير نقص ]: أي غير قصر على لسان نبيكم ﷺ وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [ فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ]
وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كل سفر؟ وأظهر القولين أنه يجوز في كل سفر قصيرا كان أو طويلا كما قصر أهل مكة خلف النبي ﷺ بعرفة ومنى وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ
وأيضا فليس الكتاب والسنة يخصان بسفر دون سفر ولا تقصر ولا يفطر ولا تيمم ولم يحد النبي ﷺ مسافة القصر بحد لا زماني ولا مكاني والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة ليس على شيء منها حجة وهي متناقضة ولا يمكن أن يحد ذلك بحد صحيح
فإن الأرض لا تذرع بذرع مضبوط في عامة الأسفار وحركة المسافر تختلف والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع ﷺ ويقيد ما يقيده فيقصر المسافر الصلاة في كل سفر وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر من القصر والصلاة على الراحلة والمسح على الخفين
ومن قسم الأسفار إلى قصير وطويل وخص بعض الأحكام بهذا وبعضها بهذا وجعلها متعلقة بالسفر الطويل فليس معه حجة يجب الرجوغ إليها والله سبحانه وتعالى أعلم
202 - 286 - سئل: إذا سافر إنسان سفرا مقدار ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ هل يباح له الجمع والقصر أم لا؟
أجاب: وأما الجمع والقصر في السفر القصير ففيه ثلاثة أقوال بل أربعة بل خمسة في مذهب أحمد
أحدها: أنه لا يباح لا الجمع ولا القصر
والثاني: يباح الجمع دون القصر
والثالث: يباح الجمع بعرفة ومزدلفة خاصة للمكي وإن كان سفره قصيرا
والرابع: يباح الجمع والقصر بعرفة ومزدلفة
والخامس: يياح ذلك مطلقا والذي يجمع للسفر هل يباح له الجمع مطلقا أو لا يباح إلا إذا كان مسافرا؟ فيه روايتان عن أحمد مقيما أو مسافرا ولهذا نص أحمد على أنه يجمع إذا كان له شغل قال القاضي أبو يعلى كل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة يبيح الجمع ولهذا يجمع للمطر والوحل وللريح الشديدة الباردة في ظاهر مذهب الإمام أحمد ويجمع المريض والمستحاضة والمرضع فإذا جد السير بالمسافر جمع سواء كان سفره طويلا أو قصيرا كما مضت سنة رسول الله ﷺ يجمع الناس بعرفة ومزدلفة المكي وغير المكي مع أن أهل مكة سفرهم قصير
وكذلك جمع ﷺ وخلفاؤه الراشدون بعرفة ومزدلفة ومتى قصروا يقصر خلفهم أهل مكة وغير أهل مكة وعرفة من مكة بريد: أربعة فراسخ ولهذا قال مالك وبعض أصحاب أحمد كأبي الخطاب في العبادات الخمس: إن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة وهذا القول هو الصواب وإن كان المنصوص عن الأئمة الثلاثة بخلافه: أحمد والشافعي وأبي حنيفة
ولهذا قال طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم إنه يقصر في السفر الطويل والقصير لأن النبي ﷺ لم يوقت للقصر مسافة ولا وقتا وقد قصر خلفه أهل مكة بعرفة ومزدلفة وهذا قول كثير من السلف والخلف وهو أصح الأقوال في الدليل ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يعد في العرف سفرا مثل أن يتزود له ويبرز للصحراء فأما إذا كان في مثل دمشق وهو ينتقل من قراها الشجرية من قرية إلى قرية كما ينتقل من الصالحية إلى دمشق فهذا ليس بمسافر كما أن مدينة النبي ﷺ كانت بمنزلة القرى المتقاربة عند كل قوم نخيلهم ومقابرهم ومساجدهم قباء وغير قباء ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفرا ولهذا لم يكن النبي ﷺ وأصحابه يقصرون في مثل ذلك فإن الله تعالى قال: { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة } فجميع الأبنية تدخل في مسمى المدينة وما خرج عن أهلها فهو من الأعراب أهل العمود والمنتقل من المدينة من ناحية إلى ناحية ليس بمسافر ولا يقصر الصلاة ولكن هذه مسائل اجتهاد فمن فعل منها بقول بعض العلماء لم ينكرعليه ولم يهجر
وهكذا اختلفوا في الجمع والقصر هل يشترط له نية؟ فالجمهور لا يشترطون النية كمالك وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو مقتضى نصوصه
والثاني: تشترط كقول الشافعي وكثير من أصحاب أحمد كالخرقي وغيره والأول أظهر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه
287 - / 203 - سئل: عن سفر يوم من رمضان هل يجوز أن يقصر فيه ويفطر أم لا؟
الجواب: هذا فيه نزاع بين العلماء والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في يوم من رمضان كما قصر أهل مكة خلف النبي ﷺ بعرفة ومزدلفة وعرفة عن المسجد الحرام مسيرة بريد ولأن السفر مطلق في الكتاب والسنة
288 - / 204 - مسألة: في رجل مسافر إلى بلد ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهل يتم الصلاة أم لا؟
الجواب: إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة كما فعل النبي ﷺ لما دخل مكة فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة وإن كان أكثر ففيه نزاع والأحوط أن يتم الصلاة
وأما إن قال غدا أسافر أو بعد غد أسافر ولم ينو المقام فإنه يقصر أبدا فإن النبي ﷺ أقام بمكة بضعة عشر يوما يقصر الصلاة وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة والله أعلم
205 - 289 - سئل: عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر فالإتمام أفضل أم القصر؟
أجاب: الحمد لله هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء منهم من يوجب الإتمام ومنهم من يوجب القصر والصحيح أن كلاهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه ومن أتم لا ينكرعليه
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط فالإتمام أفضل وأما من تبينت له السنة وعلم أن النبي ﷺ لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين ولم يحد السفر بزمان أو بمكان ولا حد الإقامة أيضا بزمن محدود لا ثلاثة ولا أربعة ولا إثنا عشر ولا خمسة عشر فإن يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها فأقام سنين يقصر الصلاة
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام ولا أكثر كما أقام النبي ﷺ وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون الصلاة وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان وكان النبي ﷺ لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام وإذا كان التحديد لا أصل له فما دم المسافر مسافرا يقصر الصلاة ولو أقام في مكان شهورا والله أعلم كتبه أحمد بن تيمية
290 - / 206 - مسألة: هل الجمع بين الصلاتين في السفر أفضل أم القصر؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وما الراجح من ذلك؟
الجواب: الحمد لله بل فعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع فإن غالب صلاة النبي ﷺ التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها وإنما كان الجمع منه مرات قليلة
وفرق كثير من الناس بين الجمع والقصر وظنهم أن هذا يشرع سنة ثابتة والجمع رخصة عارضة وذلك أن النبي ﷺ في جميع أسفاره كان يصلي الرباعية ركعتين ولم ينقل أحد أنه صلى في سفره الرباعية أربعا بل وكذلك أصحابه معه
والحديث الذي يروى عن عائشة: أنها أتمت معه وأفطرت حديث ضعيف بل قد ثبت عنها في الصحيح: [ أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ] وثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: [ صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ﷺ ]
وأما قوله تعالى: { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فإن نفي الجناح لبيان الحكم وإزالة الشبهة لا يمنع أن يكون القصر هو السنة كما قال: { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } نفي الجناح لأجل الشبهة التي عرضت لهم من الطواف بينهما لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين وهو إما ركن وإما واجب وإما سنة مؤكدة
وهو سبحانه ذكر الخوف والسفر لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان فالخوف يبيح قصر الأركان والسفر يبيح قصر العدد فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعي القصر والعلماء متنازعون في المسافر: هل فرضه الركعتان؟ ولا يحتاج قصره إلى نية؟ أم لا يقصر إلا بنية؟ على قولين:
والأول: قول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد اختاره أبو بكر وغيره
والثاني: قول الشافعي وهو القول الآخر في مذهب أحمد اختاره الخرقي وغيره
والأول هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي ﷺ فإنه كان يقصر بأصحابه ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر ولا يأمرهم بنية القصر ولهذا لما سلم من ركعتين ناسيا قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر قال: بلى؟ قد نسيت وفي رواية: لو كان شيء لأخبرتكم به ولم يقل لو قصرت لأمرتكم أن تنووا القصر وكذلك لما جمع بهم لم يعلمهم أنه جمع قبل الدخول بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضي الصلاة الأولى فعلم أيضا أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوي حين الشروع في الأولى كقول الجمهور والمنصوص عن أحمد يوافق ذلك
وقد تنازع العلماء في التربيع في السفر: هل هو حرام؟ أو مكروه؟ أو ترك الأولى؟ أو هو الراجح؟ فمذهب أبي حنيفة وقول في مذهب مالك: أن القصر واجب وليس له أن يصلي أربعا ومذهب مالك في الرواية الأخرى وأحمد في أحد القولين بل أنصهما أن الإتمام مكروه ومذهبه في الرواية الأخرى ومذهب الشافعي في أظهر قوليه: أن القصر هو الأفضل والتربيع ترك الأولى وللشافعي قول أن التربيع أفضل وهذا أضعف الأقوال
وقد ذهب بعض الخوارج إلى أنه لا يجوز القصر إلا مع الخوف ويذكر هذا قولا للشافعي وما أظنه يصح عنه فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة: أن النبي ﷺ كان يصلي بأصحابه بمنى ركعتين ركعتين آمن ما كان الناس وكذلك بعده أبو بكر وكذلك بعده عمر
وإذا كان كذلك فكيف يسوي بين الجمع والقصر؟ ! وفعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن حاجة عند الأئمة كلهم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبيهما بل تنازعوا في جواز الجمع على ثلاثة أقوال
فمذهب أبي حنيفة أنه لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة ومذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلا وإنما يجمع إذا كان سائرا بل عند مالك إذا جد به السير ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أنه يجمع المسافر وإن كان نازلا
وسبب هذا النزاع ما بلغهم من أحاديث الجمع فإن أحاديث الجمع قليلة فالجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه وأبو حنيفة لم يقل بغيره لحديث ابن مسعود الذي في الصحيح أنه قال: [ ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة وصلاة المغرب ليلة جمع ] وأراد بقوله: في الفجر لغير وقتها التي كانت عادته أن يصليها فيه فإنه جاء في الصحيح عن جابر: [ أنه صلى الفجر بمزدلفة بعد أن برق الفجر ] وهذا متفق عليه بين المسلمين أن الفجر لا يصلى حتى يطلع الفجر لا بمزدلفة ولا غيرها لكن بمزدلفة غلس بها تغليسا شديدا
وأما أكثر الأئمة فبلغتهم أحاديث في الجمع صحيحة كحديث أنس وابن عباس وابن عمر ومعاذ وكلها من الصحيح ففي الصحيحين عن أنس: [ أن النبي ﷺ كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فصلاهما جميعا وإذا ارتحل بعد أن تزبغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب ] وفي لفظ في الصحيح [ كان النبي ﷺ إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما ] وفي الصحيحين عن ابن عمر [ أن النبي ﷺ كان إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء ] وفي لفظ في الصحيح [ أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ] بعد أن يغيب الشفق ويقول: [ إن رسول الله ﷺ كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ]
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس [ أن النبي ﷺ جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ] قال سعيد ابن جبير قلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته وكذلك في صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل قال: [ جمع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته ] بل قد ثبت عنه أنه جمع في المدينة كما في الصحيحين عن ابن عباس قال: [ صلى لنا رسول الله ﷺ الظهر والعصر جميعا من غير خوف ولا سفر ] وفي لفظ في الصحيحين عن ابن عباس: [ أن النبي ﷺ صلى بالمدينة سبعا وثمانيا جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ] قال أيوب لعله في ليلة مطيرة وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة بين المغرب والعشاء ويجمع معهم عبد الله بن عمر وروي ذلك مرفوعا إلى النبي ﷺ وهذا العمل من الصحابة
وقولهم: أراد أن لا يحرج أمته يبين أنه ليس المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها فإن مراعاة مثل هذا فيه حرج عظيم ثم إن هذا جائز لكل أحد في كل وقت ورفع الحرج إنما يكون عند الحاجة فلا بد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع به عنهم الحرج دون غير أرباب الأعذار
وهذا ينبني على أصل كان عليه رسول الله ﷺ وهو: أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة ولغيرهم خمسة فإن الله تعالى قال: { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } فذكر ثلاثة مواقيت والطرف الثاني يتناول الظهر والعصر والزلف يتناول المغرب والعشاء وكذلك قال: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } والدلوك هو الزوال في أصح القولين يقال: دلكت الشمس وزالت وزاغت ومالت فذكر الدلوك والغسق وبعد الدلوك يصلى الظهر والعصر وفي الغسق تصلى المغرب والعشاء ذكر أول الوقت وهو الدلوك وآخر الوقت وهو الغسق والغسق اجتماع الليل وظلمته
ولهذا قال الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وغيره: إن المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء وإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر وهذا مذهب جمهور الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد
وأيضا فجمع النبي ﷺ بعرفة ومزدلفة يدل على جواز الجمع بغيرهما للعذر فإنه قد كان من الممكن أن يصلي الظهر ويؤخر العصر إلى دخول وقتها ولكن لأجل النسك والاشتغال بالوقوف قدم العصر ولهذا كان القول المرضي عند جماهير العلماء أنه يجمع بمزدلفة وعرفة من كان أهله على مسافة القصر ومن لم يكن أهله كذلك فإن النبي ﷺ لما صلى صلى معه جميع المسلمين أهل مكة وغيرهم ولم يأمر أحدا منهم بتأخير العصر ولا بتقديم المغرب فمن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن أهل مكة لا يجمعون فقوله ضعيف في غاية الضعف مخالف للسنة البينة الواضحة التي لا ريب فيها وعذرهم في ذلك أنهم اعتقدوا أن سبب الجمع هو السفر الطويل والصواب أن الجمع لا يختص بالسفر الطويل بل يجمع للمطر ويجمع للمرض كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة فإن النبي ﷺ أمرها بالجمع في حديثين
وأيضا فكون الجمع يختص بالطويل فيه قولان للعلماء وهما وجهان في مذهب أحمد:
أحدهما: يجمع في القصير وهو المشهور ومذهب الشافعي لا
والأول أصح لما تقدم والله أعلم
207 - 291 - سئل: عن الجمع وما كان النبي ﷺ يفعله؟
أجاب: وأما الجمع فإنما كان يجمع بعض الأوقات إذا جد به السير وكان له عذر شرعي كما جمع بعرفة ومزدلفة وكان يجمع في غزوة تبوك أحيانا كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر ثم صلاهما جميعا وهذا ثابت في الصحيح
وأما إذا ارتحل بعد الزوال فقد روي أنه كان صلى الظهر والعصر جميعا كما جمع بينهما بعرفة وهذا معروف في السنن وهذا إذا كان لا ينزل إلى وقت المغرب كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس وأما إذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها في وقتها فليس القصر كالجمع بل القصر سنة راتبة وأما الجمع فإنه رخصة عارضة ومن سوى من العامة بين الجمع والقصر فهو جاهل بسنة رسول الله ﷺ وبأقوال علماء المسلمين
فإن سنة رسول الله ﷺ فرقت بينهما والعلماء اتفقوا على أن أحدهما سنة واختلفوا في وجوبه وتنازعوا في جواز الآخر فأين هذا من هذا؟
وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل بحديث روي في ذلك قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا: يعني إذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز له الجمع ويجوز عنده وعند مالك وطائفة من أصحاب الشافعي الجمع للمرض ويجوز عند الثلاثة الجمع للمطر بين المغرب والعشاء وفي صلاتي النهار نزاع بينهم ويجوز في ظاهر مذهب أحمد ومالك الجمع للوحل والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك
ويجوز للمرضع أن تجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة نص عليه أحمد وتنازع العلماء في الجمع والقصر: هل يفتقر إلى نية؟ فقال جمهورهم: لا يفتقر إلى نية وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد وعليه تدل نصوصه وأصوله
وقال الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد: إنه يفتقر إلى نية وقول الجمهور هو الذي تدل عليه سنة رسول الله ﷺ كما قد بسطت هذه المسألة في موضعها والله أعلم
208 - 292 - سئل: عن صلاة الجمع في المطر بين العشائين هل يجوز من البرد الشديد؟ أو الريح الشديدة؟ أم لا يجوز إلا من المطر خاصة؟
أجاب: الحمد لله رب العالمين يجوز الجمع بين العشائين للمطر والريح الشديدة الباردة والوحل الشديد وهذا أصح قولي العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما والله أعلم
293 - / 209 - مسألة: في رجل يؤم قوما وقد وقع المطر والثلج فأراد أن يصلي بهم المغرب فقالوا له: يجمع فقال: لا أفعل فهل للمأمومين أن يصلوا في بيوتهم؟ أم لا؟
الجواب: الحمد لله نعم يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك وإن لم يكن المطر نازلا في أصح قولي العلماء وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس فى المساجد جماعة وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين
والصلاة جمعا في المساجد أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع: كمالك والشافعي وأحمد والله تعالى أعلم
294 - / 210 - سئل: عن قوم مقيمين بقرية وهم دون أربعين ماذا يجب عليهم أجمعة؟ أم ظهر؟
الجواب: أما إذا كان في القرية أقل من أربعين رجلا فإنهم يصلون ظهرا عند أكثر العلماء: كالشافعي وأحمد في المشهورعنه
وكذلك أبو حنيفة لكن الشافعي وأحمد وأكثر العلماء يقولون: إذا كانوا أربعين صلوا جمعة
295 - / 211 - مسألة: في الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة هل فعله النبي ﷺ؟ أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة؟ أم لا؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم؟ وقول النبي ﷺ: [ بين كل أذانين صلاة ] هل هو مخصوص بيوم الجمعة؟ أم هو عام في جميع الأوقات؟
الجواب: رضي الله عنه - الحمد لله رب العالمين أما النبي ﷺ فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا ولا نقل هذا عنه أحد فإن النبي ﷺ كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر ويؤذن بلال ثم يخطب النبي ﷺ الخطبتين ثم يقيم بلال فيصلي النبي ﷺ بالناس فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه ﷺ ولا نقل عنه أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة ولا وقت بقوله: صلاة مقدرة قبل الجمعة بل ألفاظه ﷺ فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله: من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما كتب له
وهذا هو المأثور عن الصحابة كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة ومنهم من يصلي ثمان ركعات ومنهم من يصلي أقل من ذلك ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي ﷺ أو فعله وهو لم يسن في ذلك شيئا لا بقوله ولا فعله وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه وهو المشهور في مذهب أحمد
وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة فمنهم من جعلها ركعتين كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد ومنهم من جعلها أربعا كما نقل عن أصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد وقد نقل عن الإمام أحمد ما استدل به على ذلك
وهؤلاء منهم من يحتج بحديث ضعيف ومنهم من يقول: هي ظهر مقصورة وتكون سنة الظهر سنتها وهذا خطأ من وجهين
أحدهما: أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين وإن سميت ظهرا مقصورة فإن الجمعة يشترط لها الوقت فلا تقضى والظهر تقضى والجمعة يشترط لها العدد والاستيطان وإذن الإمام وغير ذلك والظهر لا يشترط لها شيء من ذلك فلا يجوز أن تتلقى أحكام الجمعة من أحكام الظهر مع اختصاص الجمعة بأحكام تفارق بها الظهر فإنه إذا كانت الجمعة تشارك الظهر في حكم وتفارقها في حكم لم يمكن إلحاق مورد النزاع بأحدهما إلا بدليل فليس جعل السنة من موارد الاشتراك بأولى من جعلها من موارد الافتراق
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنها ظهر مقصورة فالنبي ﷺ لم يكن يصلي في سفره سنة الظهر المقصورة لا قبلها ولا بعدها وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعا فإذا كانت سنته التي فعلها في الظهر المقصورة خلاف التامة كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم وكان السبب المقتضى لحذف بعض الفريضة أولى بحذف السنة الراتبة كما قال بعض الصحابة: لو كنت متطوعا لأتممت الفريضة فإنه لو استحب للمسافر أن يصلي أربعا لكانت صلاته للظهر أربعا أولى من أن يصلي ركعتين فرضا وركعتين سنة
وهذا لأنه قد ثبت بسنة رسول الله ﷺ المتواترة أنه كان لا يصلي في السفر إلا ركعتين: الظهر والعصر والعشاء وكذلك لما حج بالناس عام حجة الوداع لم يصل بهم بمنى وغيرها إلا ركعتين وكذلك أبو بكر بعده لم يصل إلا ركعتين وكذلك عمر بعده لم يصل إلا ركعتين
ومن نقل عن النبي ﷺ أنه صلى الظهر أوالعصر أو العشاء في السفر أربعا فقد أخطأ والحديث المروي في ذلك عن عائشة هو حديث ضعيف في الأصل مع ما وقع فيه من التحريف فإن لفظ الحديث: أنها قالت للنبي ﷺ: أفطرت وصمت؟ وقصرت وأتممت؟ فقال: أصبت يا عائشة فهذا مع ضعفه وقيام الأدلة على أنه باطل روي أن عائشة روت أن النبي ﷺ كان يفطر ويصوم ويقصر ويتم فظن بعض الأئمة أن الحديث فيه أنها روت الأمرين عن رسول الله ﷺ وهذا مبسوط في موضعه
والمقصود هنا: أن السنة للمسافر أن يصلي ركعتين والأئمة متفقون على أن هذا هو الأفضل إلا قولا مرجوحا للشافعي وأكثر الأئمة يكرهون التربيع للمسافر كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في أنص الروايتين عنه ثم هؤلاء من يقول: لا يجوز التربيع كقول أبي حنيفة ومنهم من يقول: يجوز مع الكراهة: كقول مالك وأحمد فيقال: لو كان الله يحب للمسافر أن يصلي ركعتين ثم ركعتين لكان يستحب له أن يصلي الفرض أربعا فإن التقرب إليه ببعض الظهر أفضل من التقرب إليه بالتطوع مع الظهر ولهذا أوجب على المقيم أربعا فلو أراد المقيم أن يصلي ركعتين فرضا وركعتين تطوعا لم يجز له ذلك والله تعالى لا يوجب عليه وينهاه عن شيء إلا والذي أمره به خير من الذي نهاه عنه فعلم أن صلاة الظهر أربعا خير عند الله من أن يصليها ركعتين مع ركعتين تطوعا فلما كان سبحانه لم يستحب للمسافر التربيع بخير الأمرين عنده فلأن لا يستحب التربيع بالأمر المرجوح عنده أولى
فثبت بهذا الاعتبار الصحيح أن فعل رسول الله ﷺ هو أكمل الأمور وأن هديه خير الهدى وأن المسافر إذا اقتصر على ركعتي الفرض كان أفضل له من أن يقرن بهما ركعتي السنة
وبهذا يظهر أن الجمعة إذا كانت ظهرا مقصورة لم يكن من السنة أن يقرن بها سنة ظهر المقيم بل تجعل كظهر المسافر المقصورة وكان النبي ﷺ يصلي في السفر ركعتي الفجر والوتر ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة وهذا لأن الفجر لم تقصر في السفر فبقيت سنتها على حالها بخلاف المقصورات في السفر والوتر مستقل بنفسه كسائر قيام الليل وهو أفضل الصلاة بعد المكتوبة وسنة الفجر تدخل في صلاة الليل من بعض الوجوه فلهذا كان النبي ﷺ يصليه في السفر لاستقلاله وقيام المقتضى له
والصواب أن يقال: ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة ولو كان الأذانان على عهده فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: [ بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة: لمن شاء ] كراهية أن يتخذها الناس سنة فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الصلاة مشروعة قبل العصر وقبل العشاء الآخرة وقبل المغرب وأن ذلك ليس بسنة راتبة وكذلك قد ثبت أن أصحابه كانوا يصلون بين أذاني المغرب وهو يراهم فلا ينهاهم ولا يأمرهم ولا يفعل هو ذلك فدل على أن ذلك فعل جائز
وقد احتج بعض الناس على الصلاة قبل الجمعة بقوله: [ بين كل أذانين صلاة ] وعارضه غير فقال: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله ﷺ ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس على عهده ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروجه وقعوده على المنبر ويتوجه أن يقال هذا الأذان لما سنه عثمان واتفق المسلمون عليه صار أذانا شرعيا وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة وليست سنة راتبة كالصلاة قبل صلاة المغرب وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ومن ترك ذلك لم ينكر عليه وهذا أعدل الأقوال وكلام الإمام أحمد يدل عليه
وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يظنون أن هذه سنة راتبة أو أنها واجبة فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة ولا واجبة لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانا حتى لا تشبه الفرض كما استحب أكثر العلماء أن لا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبى ﷺ فعلها فإذا كان يكره المداومة على ذلك فترك المداومة على ما لم يسنه النبي ﷺ أولى وإن صلاها الرجل بين الأذانين أحيانا لأنها تطوع مطلق أو صلاة بين الأذانين كما يصلي قبل العصر والعشاء لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز وإن كان الرجل مع قوم يصلونها فإن كان مطاعا إذا تركها - وبين لهم السنة - لم ينكروا عليه بل عرفوا السنة فتركها حسن وإن لم يكن مطاعا ورأى أن في صلاتها تأليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم وقبولهم له ونحو ذلك فهذا أيضا حسن
فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة وتركه تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته كما ترك النبي ﷺ بناء البيت على قواعد إبراهيم وقال لعائشة: [ لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ] والحديث في الصحيحين فترك النبي ﷺ هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم فكانت المفسدة راجحة على المصلحة
ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدغ الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يسلم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها وكان المأمون على خلاف رأيه ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا
وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها كان حسنا مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو البسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع في الصلاة كما ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح فكان يكبر ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك قال الأسود بن يزيد: صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة فكان يكبر ثم يقول ذلك رواه مسلم في صحيحه ولهذا شاع هذا الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس وكذلك كان ابن عمر وابن عباس يجهران بالاستعاذة وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان يعلم الناس أن قراءتها في الصلاة سنة كما ثبت في الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرا وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة وذلك أن الناس في صلاة الجنازة على قولين:
منهم من لا يرى فيها قراءة بحال كما قاله كثير من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك
ومنهم من يرى القراءة فيها سنة كقول الشافعي وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره
ثم من هؤلاء من يقول القراءة فيها واجبة كالصلاة
ومنهم من يقول: بل هي سنة مستحبة ليست واجبة وهذا أعدل الأقوال الثلاثة فإن السلف فعلوا هذا وهذا وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وغير قراءة كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة وتارة بغير جهر بها وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح وتارة برفع اليدين في المواطن الثلاثة وتارة بغير رفع اليدين وتارة يسلمون تسليمتين وتارة تسليمة واحدة وتارة يقرأون خلف الإمام بالسر وتارة لا يقرأون وتارة يكبرون على الجنازة أربعا وتارة خمسا وتارة سبعا كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من يفعل هذا كل هذا ثابت عن الصحابة
كما ثبت عنهم أن منهم من كان يرجع في الأذان ومنهم من لم يرجع فيه
ومنهم من كان يوتر الإقامة ومنهم من كان يشفعها وكلاهما ثابت عن النبي ﷺ
فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانا لمصلحة راجحة وهذا واقع في عامة الأعمال فإن العمل الذي هو في جنسه أفضل قد يكون في مواطن غيره أفضل منه كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهي عنها والقراءة والذكر والدعاء أفضل منها في تلك الأوقات وكذلك القراءة في الركوع والسجود منهى عنها والذكر هناك أفضل منها والدعاء في آخر الصلاة بعد التشهد أفضل من الذكر وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين لكونه عاجزا عن الأفضل أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر فيكون أفضل في حقه لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وارادته وانتفاعه كما أن المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه وإن كان جنس ذلك أفضل
ومن هذا الباب صار الذكر لبعض الناس في بعض الأوقات خيرا من القراءة والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيرا من الصلاة وأمثال ذلك لكمال انتفاعه به لا لأنه في جنسه أفضل
وهذا الباب باب تفضيل بعض الأعمال على بعض إن لم يعرف فيه التفضيل وأن ذلك قد يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال وإلا وقع فيها اضطراب كثير فإن في الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارا لمذهبه
ومنهم من إذا رأى ترك ذلك هو الأفضل يحافظ أيضا على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوى والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يرى الترك شعارا لمذهبه وأمثال ذلك وهذا كله خطأ
والواجب أن يعطى كل ذي حق حقه ويوسع ما وسعه الله ورسوله ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية ويعلم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد ﷺ وأن الله بعثه رحمة للعالمين بعثه بسعادة الدنيا والآخرة في كل أمر من الأمور وأن يكون مع الإنسان من التفصيل ما يحفظ به هذا الإجمال وإلا فكثير من الناس يعتقد هذا مجملا ويدعه عند التفصيل: إما جهلا وإما ظلما وإما اتباعا للهوى فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا