الفتاوى الكبرى/كتاب الطهارة/4
13 - 29 - مسألة: فيمن وقع على ثيابه ماء من طاقة ما يدري ما هو فهل يجب غسله أم لا؟
الجواب: لا يجب غسله بل ولا يستحب على الصحيح وكذلك لا يستحب السؤال عنه على الصحيح فقد مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع رفيق له فقطر على رفيقه ماء من ميزاب فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أم نجس؟
فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه والله أعلم
14 - 30 - مسألة: في كلب طلع من ماء فانتفض على شيء فهل يجب تسبيعه؟
الجواب: مذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما: يجب تسبيعه ومذهب أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما: لا يجب تسبيعه والله أعلم
15 - 31 - مسألة: في الفخار فإنه يشوى بالنجاسة فما حكمه والأفران التي تسخن بالزبل فما حكمها؟
الجواب: الحمد لله هذه المسائل مبنية على أصلين:
أحدهما: السرقين النجس ونحوه في الوقود ليسخن الماء أو الطعام ونحو ذلك فقال بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره: إن ذلك لا يجوز لأنه يتضمن ملابسة النجاسة ومباشرتها وقال بعضهم: إن ذلك مكروه غير محرم لأن إتلاف النجاسة لا يحرم وإنما ذلك مظنة التلوث بها ومما يشبه ذلك الاستصباح بالدهن النجس فإنه استعمال له بالإتلاف والمشهور عن أحمد وغيره من العلماء أن ذلك يجوز وهو المأثور عن الصحابة
والقول الآخر عنه وعن غيره: المنع لأنه مظنة التلوث به ولكراهة دخان النجاسة
والصحيح أنه لا يحرم شيء من ذلك فإن الله تعالى حرم الخبائث من الدم والميتة ولحم الخنزير وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ: أنه قال: [ إنما حرم من الميتة أكلها ]
ثم إنه حرم لبسها قبل الدباغ وهذا وجه قوله في حديث عبد الله بن عكيم:
كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب
فإن الرخصة متقدمة كانت في الانتفاع بالجلود بلا دباغ كما ذهب إليه طائفة من السلف فرفع النبي عما أرخص فأما الانتفاع بها بعد الدباغ فلم ينه عنه قط ولهذا كان آخر الروايتين عن أحمد: إن الدباغ مطهر لجلود الميتة لكن هل يقوم مقام الذكاة أو مقام الحياة فيطهر جلد المأكول أو جلد ما كان طاهرا في الحياة دون ما سوى ذلك؟ على وجهين:
أصحهما الأول فيطهر بالدباغ ما تطهره الذكاة لنهيه ﷺ في حديث عن جلود السباع
وأيضا فإن استعمال الخمر في إطفاء الحريق ونحو ذلك سلمه المنازعون مع أن الأمر بمجانبة الخمر أعظم فإذا جاز إتلاف الخمر بما فيه منفعة فإتلاف النجاسات بما فيه منفعة أولى ولأنهم سلموا جواز طعام الميتة للبزاة والصقور فاستعمالها في النار أولى
وأما قول القائل: هذا مظنة ملابستها فيقال: ملابسة النجاسة للحاجة جائز إذا طهر بدنه وثيابه عند الصلاة ونحوها كما يجوز الاستنجاء بالماء مع مباشرة النجاسة ولا يكره ذلك على أصح الروايتين عن أحمد وهو قول أكثر الفقهاء
والرواية الثانية يكره ذلك بل يستعمل الحجر أو يجمع بينهما والمشهور أن الاقتصار على الماء أفضل وإن كان فيه مباشرتها
وفي استعمال جلود الميتة إذا لم يقل بطهارتها في اليابسات روايتان: أصحهما جواز ذاك وإن قيل إنه يكره فالكراهة تزول بالحاجة
وأما قوله: هذا يفضي إلى التلوث بدخان النجاسة فهذا مبني على الأصل الثاني وهو أن النجاسة في الملاحة إذا صارى ملحا ونحو ذلك فهل هي نجسة أم لا؟ على قولين مشهورين للعلماء هما روايتان عن أحمد نص عليهما في الخنزير المشوي في التنور هل تطهر النار ما لصق به أم يحتاج إلى غسل ما أصابه منه؟ على روايتين منصوصتين:
إحداهما: هي نجسة وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحاب أحمد وأحد قولي أصحاب مالك وهؤلاء يقولون: لا يطهر من النجاسة بالاستحالة إلا الخمرة المنتقلة بنفسها والجلد المدبوغ إذا قيل إن الدبغ إحالة لا إزالة
والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي المالكية وغيرهم: إنها لا تبقى نجسة وهذا هو الصواب فإن هذه الأعيان لم يتناولها نص التحريم لا لفظا ولا معنى وليست في معنى النصوص بل هي أعيان طيبة فيتناولها نص التحليل وهي أولى بذلك من الخمر المنقلبة بنفسها
وما ذكروه من الفرق بأن الخمر نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة باطل فإن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة كالدم فإنه مستحيل عن الغذاء الطاهر وكذلك البول والعذرة حتى الحيوان النجس مستحيل عن الماء والتراب ونحوهما من الطاهرات
ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة فإن نفس النجس لم يطهر لكن استحال وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس وإن كان مستحيلا منه والمادة واحدة كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب وتراب المقبرة هو الميت والإنسان ليس هو المني
والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض ويحيل بعضها إلى بعض وهي تبدل من الحقائق ليس هذا هذا فكيف يكون الرماد هو العظم الميت واللحم والدم نفسه بمعنى أنه يتناوله اسم العظم وأما كونه هو هو باعتبار الأصل والمادة فهذا لا يضر فإن التحريم يتبع الاسم والمعنى الذي هو الخبث وكلاهما منتف
وعلى هذا فدخان النار الموقدة بالنجاسة طاهر وبخار الماء النجس الذي يجتمع في السقف طاهر وأمثال ذلك من المسائل
وإذا كان كذلك فهذا الفخار طاهر إذ ليس فيه من النجاسة شيء وإن قيل: إنه خالطه من دخانها خرج على القولين والصحيح أنه طاهر
وأما نفس استعمال النجاسة فقد أقدم الكلام فيه والنزاع في الماء المسخن بالنجاسة فإنه طاهر
لكن هل يكره؟ على قولين هما روايتان عن أحمد: إحداهما لا يكره وهو قول أبي حنيفة والشافعي والثاني: يكره وهو مذهب مالك
وللكراهة مأخذان:
أحدهما: خشية أن يكون قد وصل إلى الماء شيء من النجاسة فيكره لاحتمال تنجسه فعلى هذا إذا كان بين الموقد وبين النار حاجز حصين لم يكره وهذه طريقة الشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهما
والثانية: أن سبب الكراهة كون استعمال النجاسة مكروها وإن السخونة حصلت بفعل مكروه وهذه طريقة القاضي أبي يعلى
ومثل هذا طبخ الطعام بالوقود النجس فإن نضج الطعام كسخونة الماء والكراهة في طبخ الفخار بالوقود النجس تشبه تسخين الماء الذي ليس بينه وبين النار حاجز والله أعلم
16 - 32 - مسألة: في الكلب هل هو طاهر أم نجس؟ وما قول العلماء فيه؟
الجواب: أما الكلب فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة:
أحدهما: إنه نجس كله حتى شعره كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه
والثاني: إنه طاهر حتى ريقه كقول مالك في المشهور عنه
والثالث: إن ريقه نجس وإن شعره طاهر وهذا مذهب أبي حنيفة المشهور عنه وهو الرواية الأخرى عن أحمد وله في الشعور النابتة على محل نجس ثلاث روايات: إحداها: إن جميعها طاهر حتى شعر الكلب والخنزير وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز والثانية إن جميعها نجس كقول الشافعي والثالثة: أن شعر الميتة إن كانت طاهرة في الحياة طاهرة كالشاة والفأرة وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس كالكلب والخنزير وهي المنصورة عند أكثر أصحابه
والقول الراجح هو: طهارة الشعور كلها: الكلب والخنزير وغيرهما بخلاف الريق
وعلى هذا فإذا كان شعر الكلب رطبا وأصاب ثوب الإنسان فلا شيء عليه كما هو مذهب جمهور الفقهاء أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل كما قال تعالى: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه }
وقال تعالى: { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون }
وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: [ إن من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ]
وفي السنن: عن سلمان الفارسي مرفوعا ومنهم من يجعله موقوفا أنه قال: الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه
وإذا كان كذلك فالنبي ﷺ قال: [ طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا أولاهن بالتراب ]
وفي الحديث الآخر [ إذا ولغ الكلب ]
فأحاديثه كلها ليس فيها إلا ذكر الولوغ لم يذكر سائر الأجزاء فتنجيسها إنما هو بالقياس
فإذا قيل: إن البول أعظم من الريق كان هذا متوجها وأما إلحاق الشعر بالريق فلا يمكن لأن الريق متحلل من باطن الكلب بخلاف الشعر فإنه نابت على ظهره والفقهاء كلهم يفرقون بين هذا وهذا فإن جمهورهم يقولون: إن شعر الميتة ظاهر بخلاف ريقها والشافعي وأكثرهم يقولون: إن الزرع النابت في الأرض النجسة طاهر فغاية شعر الكلب أن يكون نابتا في منبت نجس: كالزرع النابت في الأرض النجسة فإذا كان الزرع طاهرا فالشعر أولى بالطهارة لأن الزرع فيه أثر النجاسة بخلاف الشعر فإن فيه من اليبوسة والجمود ما يمنع ظهور ذلك
فمن قال من أصحاب أحمد: كابن عقيل وغيره: إن الزرع طاهر فالشعر أولى ومن قال: إن الزرع نجس فإن الفرق بينهما ما ذكره
فإن الزرع يلحق بالجلالة التي تأكل النجاسة فنهى النبي ﷺ عنها فإذا حبست حتى تطيب كانت حلالا: باتفاق المسلمين لأنها قبل ذلك يظهر أثر النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها فيظهر نتن النجاسة وخبثها فإذا زال ذلك عادت طاهرة فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها والشعر لا يظهر فيه شيء من آثار النجاسة أصلا فلم يكن لتنجيسه معنى وهذا يتبين بالكلام في شعور الميتة كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وكل حيوان قيل بنجاسته فالكلام في شعره وريشه كالكلام في شعر الكلب فإذا قيل بنجاسة كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير إلا الهر وما دونها في الخلقة كما هو مذهب كثير من العلماء: علماء أهل العراق وهو أشهر الروايتين عن أحمد فإن الكلام في ريش ذلك وشعره فيه هذا النزاع هل هو نجس؟ على روايتين عن أحمد:
إحداهما: إنه طاهر وهو مذهب الجمهور: كأبي حنيفة والشافعي ومالك
والرواية الثانية: إنه نجس كما هو اختيار كثير من متأخري أصحاب أحمد والقول بطهارة ذلك هو الصواب كما تقدم
وأيضا فإن النبي ﷺ رخص في اقتناء كلب الصيد والماشية والحرث ولا بد لمن اقتناها أن يصيبه رطوبة شعورها كما يصيبهم رطولة البغل والحمار وغير ذلك فالقول بنجاسة شعورها والحال هذه من الحرث المرفوع عن الأمة
وأيضا فإن لعاب الكلب إذا أصاب الصيد لم يجب غسله في أظهر قولي العلماء وهو أحد الروايتين عن أحمد لأن النبي ﷺ لم يأمر أحد بغسل ذلك فقد عفا عن الكلب في موضع الحاجة وأمر بغسله في غير موضع الحاجة فدل على أن الشارع راعى مصلحة الخلق وحاجتهم والله أعلم
17 - 33 - مسألة: في عظم الميتة وقرنها وظفرها وريشها: هل هو طاهر أم نجس؟ أفتونا مأجورين:
الجواب: أما عظم الميتة وقرنها وظفرها وما هو من جنس ذلك: كالحافر ونحوه وشعرها وريشها ووبرها: ففي هذين النوعين للعلماء ثلاثة أقوال:
أحدها: نجاسة الجميع كقول الشافعي في المشهور وذلك رواية عن أحمد
والثاني: إن العظام ونحوها نجسة والشعور ونحوها طاهرة وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأحمد
والثالث: إن الجميع طاهر: كقول أبي حنيفة وهو قول في مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصواب لأن الأصل فيها الطهارة ولا دليل على النجاسة
وأيضا فإن هذه الأعيان هي من الطيبات ليست من الخبائث فتدخل في آية التحليل وذلك لأنها لم تدخل فيما حرمه الله من الخبائث لا لفظا ولا معنى أما اللفظ فكقوله تعالى: { حرمت عليكم الميتة }
لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها وذلك لأن الميت ضد الحي والحياة نوعان: حياة الحيوان وحياة النبات فحياة الحيوان خاصتها الحمس والحركة الإرادية وحياة النبات النمو والاغتذاء
وقوله: { حرمت عليكم الميتة } إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية فإن الزرع والشجر إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين وقد تموت الأرض ولا يوجب ذلك نجاستها باتفاق المسلمين وإنما الميتة المحرمة ما كان فيها الحس والحركة الإرادية وأما الشعر فإنه ينمو ويغتذي ويطول كالزرع والزرع ليس فيه حس ولا يتحرك بإرادة ولا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها ولا وجه لتنجيسه
وأيضا: فلو كان الشعر جزءا من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة فإن النبي ﷺ سئل عن قوم يجبون أسنمة الإبل وإليات الغنم فقال: [ ما أبين من البهيمة وهي حية فهو ميت ] رواه أبو داود وغيره
وهذا متفق عليه بين العلماء فلو كان حكم الشعر حكم السنام والألية لما جاز قطعه في حال الحياة فلما اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان حلالا طاهرا علم أنه ليس مثل اللحم
وأيضا: [ فقد ثبت أن النبي ﷺ أعطى شعره لما حلق رأسه للمسلمين وكان النبي ﷺ يستنجي ويستجمر فمن سوى بين الشعر والبول والعذرة فقد أخطأ خطأ مبينا ]
وأما العظام ونحوها: فإذا قيل: إنها داخلة في الميتة لأنها تنجس قيل لمن قال ذلك: أنتم لم تأخذوا بعموم اللفظ فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب والخنفساء لا ينجس عندكم وعند جمهور العلماء مع أنها ميتة موتا حيوانيا
وقد ثبت في الصحيح: أن النبي ﷺ قال: [ إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ]
ومن نجس هذا قال في أحد القولين: إنه لا ينجس المائعات الواقعة فيه لهذا الحديث وإذا كان كذلك علم أن علة نجاسة الميتة إنما هو احتباس الدم فيها فما لا نفس له سائلة ليس فيه دم سائل فإذا مات لم يحتبس فيه الدم فلا ينجس فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجيس من هذا فإن العظم ليس فيه دم سائل ولا كان متحركا بالإرادة إلا على وجه التبع
فإذا كان الحيوان الكامل الحساس المتحرك بالإرادة لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل
ومما يبين صحة قول الجمهور: إن الله سبحانه إنما حرم علينا الدم المسفوح كما قال تعالى: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا }
فإذا عفى عن الدم غير المسفوح مع أنه من جنس الدم حيث علم أن الله سبحانه فرق بين الدم الذي يسيل وبين غيره فلهذا كان المسلمون يصنعون اللحم في المرق وخيوط الدم في القدر تبين ويأكلون ذلك على عهد رسول الله ﷺ كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها ولولا هذا لاستخرجوا الدم من العروق كما يفعل اليهود
والله تعالى حرم ما مات حتف أنفه أو لسبب غير جارح محدد: كالموقوذة والمتردية والنطيحة وحرم ﷺ ما صيد بغيره من المعراض وقال: [ إنه وقيذ ]
والفرق بينهما إنما هو سفح الدم فدل على أن سبب التنجيس هو: احتقان الدم واحتباسه وإذا سفح بوجه خبيث: بأن يذكر عليه غير اسم الله كان الخبث هنا من وجه آخر فإن التحريم تارة لوجود الدم وتارة لفساد التذكية: كذكاة المجوسي والمرتد والذكاة في غير المحل
فإذا كان كذلك فالعظم والظفر والقرن والظلف وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح فلا وجه لتنجيسه وهذا قول جمهور السلف
قال الزهري: كان خيار هذه الأمة يتمشطون بأمشاط من عظام الفيل وقد روي في العاج حديث معروف لكن فيه نظر ليس هذا موضعه فإنا لا نحتاج إلى الاستدلال بذلك
وأيضا فقد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال في شاة ميمونة: [ هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها ]
وليس في البخاري ذكر الدباغ ولم يذكر عامة أصحاب الزهري عنه ولكن ذكره ابن عيينة ورواه مسلم في صحيحه وقد طعن الإمام أحمد في ذلك وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث
وحينئذ فهذا النص يقتضي جواز الانتفاع بها بعد الدبغ لطريق الأولى لكن إذا قيل: إن الله حرم بعد ذلك الانتفاع بالجلود حتى تدبغ أو قيل: إنها لا تطهر بالدباغ لم يلزم تحريم العظام ونحوها لأن الجلد جزء من الميتة فيه الدم كما في سائر أجزائه والنبي ﷺ جعل ذكاته دباغه لأن الدبغ ينشف رطوباته فدل على أن سبب التنجيس هو الرطوبات والعظم ليس فيه نفس سائلة وما كان فيه منها فإنه يجف وييبس وهي تبقى وتحفظ أكثر من الجلد فهي أولى بالطهارة من الجلد
والعلماء تنازعوا في الدباغ هل يطهر؟
فذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما أنه لا يطهر ومذهب الشافعي وأبي حنيفة والجمهور: أنه يطهر وإلى هذا القول رجع الإمام أحمد كما ذكر ذلك عند الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه
وحديث ابن عكيم يدل على أن النبي ﷺ نهاهم أن ينتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب بعد أن كان أذن لهم في ذلك لكن هذا قد يكون قبل الدباغ فيكون قد رخص فإن حديث الزهري بين أنه قد رخص في جلود الميتة قبل الدباغ فيكون قد رخص لهم في ذلك ثم لما نهاهم عن الانتفاع بها قبل الدباغ نهاهم ﷺ عن ذلك ولهذا قال طائفة من أهل اللغة إن الإهاب اسم كما لا يدبغ ولهذا قرن معه العصب والعصب لا يدبغ
فصل
وأما لبن الميتة وأنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء:
أحدهما: إن ذلك طاهر: كقول أبي حنيفة وغيره وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد
والثاني: إنه نجس كقول الشافعي والرواية الأخرى عن أحمد
وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس فإن ذبائح المجوس حرام عند جمهور السلف والخلف وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه بين الصحابة فإذا صنعوا جبنا والجبن يصنع بالأنفحة كان فيه هذان القولان
والأظهر: أن أنفحه الميتة ولبنها طاهر لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس وكان هذا ظاهرا سائغا بينهم وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر وأهل العراق كانوا أعلم بهذا فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرص الحجاز
ويدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان نائب عمر بن الخطاب على المدائن وكان يدعو الفرس إلى الإسلام
وقد ثبت عنه أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء فقال: [ الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ]
وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي ﷺ ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب فإن هذا أمر بين وإنما كان السؤال عن جبن المجوس فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحلها وإذا كان ذلك روي عن النبي ﷺ انقطع النزاع بقول النبي ﷺ
وأيضا فاللبن والأنفحة لم يموتا وإنما نجسها من نجسها لكونها في وعاء نجس فتكون مائعا في وعاء نجس فالنجس مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجسا وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا فيقال أولا: لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته لا على نجاسته ويقال ثانيا: الملاقاة في الباطن لا حكم لها كما قال تعالى: { من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين }
ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في باطنه والله أعلم