الفتاوى الكبرى/كتاب الحدود/4
قتال أهل البغي
95 - 751 - مسألة: في طائفتين من الفلاحين اقتتلتا فكسرت إحداهما الأخرى وانهزمت المكسورة وقتل منهم بعد الهزيمة جماعة: فهل يحكم للمقتولين من المهزومين بالنار ويكونون داخلين في قول النبي ﷺ: القاتل والمقتول في النار أم لا؟
وهل يكون حكم المنهزم حكم من يقتل منهم في المعركة؟ أم لا؟
الجواب: الحمد لله إن كان المنهزم قد انهزم بنية التوبة عن المقاتلة المحرمة لم يحكم له بالنار فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات
وأما إن كان انهزامه عجزا فقط ولو قدر على خصمه لقتله فهو في النار كما قال النبي ﷺ: [ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ] قيل: يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول؟ ! قال إنه أراد قتل صاحبه فإذا كان المقتول في النار لأنه أراد قتل صاحبه فالمنهزم بطريق الأولى لأنهما اشتركا في الإرادة والفعل والمقتول أصابه من الضرر ما لم يصب المهزوم ثم إذا لم تكن هذه المصيبة مكفرة لإثم المقاتلة فلأن لا تكون مصيبة الهزيمة مكفرة أولى بل إثم المنهزم المصر على المقاتلة أعظم من إثم المقتول في المعركة واستحقاقه للنار أشد لأن ذلك انقطع عمله السيء بموته وهذا مصر على الخبث العظيم ولهذا قالت طائفة من الفقهاء: إن منهزم البغاة يقتل إذا كان له طائفة يأوي إليها فيخاف عوده بخلاف المثخن بالجرح منهم فإنه لا يقتل وسببه أن هذا انكف شره والمنهزم لم ينكف شره
وأيضا فالمقتول قد يقال: إنه بمصيبة القتل قد يخفف عنه العذاب وإن كان من أهل النار ومصيبة الهزيمة دون مصيبة القتل فظهر أن المهزوم أسوء حالا من المقتول إذا كان مصرا على قتل أخيه ومن تاب فإن الله غفور رحيم
96 - 742 - سئل: عن البغاة والخوارج: هل هي ألفاظ مترادفة بمعنى واحد؟ أم بينهما فرق؟ وهل فرقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا؟ وإذا ادعى مدع أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهم إلا في الاسم وخالفه مخالف مستدلا بأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه فرق بين أهل الشام وأهل النهروان: فهل الحق مع المدعي؟ أو مع مخالفه؟
الجواب: الحمد لله أما قول القائل: إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم - فدعوى باطلة ومدعيها مجازف فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم مثل كثير من المصنفين في قتال أهل البغي فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة وقتال علي الخوارج وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب قتال أهل البغي
ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق بل مجتهدون: إما مصيبون وإما مخطئون وذنوبهم مغفورة لهم ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقا
فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة [ سواء ] ولهذا قال طائفة بفسق البغاة ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة
وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين الخوارج المارقين وبين أهل الجمل وصفين وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين وهذا هو المعروف عن الصحابة وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة واتباعهم: من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم
وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ] وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية وقال في حق الخوارج المارقين: [ يحضر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ] وفي لفظ: [ لو يعلم الذين يقاتلونهم مالهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل ] وقد روى مسلم أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه وروى هذا البخاري من غير وجه ورواه أهل السنن والمسانيد وهي مستفيضة عن النبي ﷺ متلقاة بالقبول أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج
وأما أهل الجمل وصفين فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي ﷺ في ترك القتال في الفتنة وبينوا أن هذا قتال فتنة
وكان علي رضي الله عنه مسرورا لقتال الخوارج ويروي الحديث عن النبي ﷺ في الأمر بقتالهم وأما قتال صفين فذكر أنه ليس معه فيه نص وإنما هو رأي رآه وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في الحسن: [ إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ] فقد مدح الحسن وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين: أصحاب علي وأصحاب معاوية وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن وأنه لم يكن القتال واجبا إلا مستحبا
وقتال الخوارج قد ثبت عنه أنه أمر به وحض عليه فكيف يسوي بين ما أمر به وحض عليه وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه؟ ! ! فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين: كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين والامساك عما شجر بينهم فكيف نسبة هذا بهذا؟ ! !
وأيضا فالنبي ﷺ أمر بقتال الخوارج قبل أن يقاتلوا وأما أهل البغيفإن الله تعالى قال فيهم: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فالاقتتال ابتداء ليس مأمورا به ولكن إذا اقتتلوا أمر بالاصلاح بينهم ثم إن بغت الواحدة قوتلت ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا وأما الخوارج فقد قال النبي ﷺ فيهم: أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة وقال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد
وكذلك مانعوا الزكاة فإن الصديق والصحابة ابتدأوا قتالهم قال الصديق: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقررا بالوجوب ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟ على قولين هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه في تكفير الخوارج وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين فإن القرآن قد نص على إيمانهم واخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي والله أعلم
97 - 743 - مسألة: فيمن يلعن معاوية فماذا يجب عليه؟ وهل قال النبي ﷺ هذه الأحاديث وهي إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون؟ وأيضا أن عمارا تقتله الفئة الباغية وقتله عسكر معاوية؟ وهل سبوا أهل البيت؟ أو قتل الحجاج شريفا؟
الجواب: الحمد لله من لعن أحدا من أصحاب النبي ﷺ - معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ونحوهما ومن هو أفضل من هؤلاء: كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة ونحوهما أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان وعلي بن أبي طالب أو أبي بكر الصديق وعمار أو عائشة أم المؤمنين وغير هؤلاء من أصحاب النبي ﷺ فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين وتنازع العلماء: هل يعاقب بالقتل؟ أو ما دون القتل؟ كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: [ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده ! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ] واللعنة أعظم من السب وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ لعن المؤمن كقتله ] فقد جعل النبي ﷺ لعن المؤمن كقتله
وأصحاب رسول الله ﷺ خيار المؤمنين كما ثبت عنه أنه قال: [ خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] وكل من رأى رسول الله ﷺ مؤمنا به فله من الصحبة بقدر ذلك كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: [ يغزو جيش فيقول: هل فيكم من صحب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم ثم يغزو جيش فيقول: هل فيكم من رأى رسول الله ﷺ؟ فيقولون نعم فيفتح لهم وذكر الطبقة الثالثة ] فعلق الحكم برؤية رسول الله ﷺ كما علقه بصحبته
ولما كان لفظ الصحبة فيه عموم وخصوص: كان من اختص من الصحابة بما يتميز به عن غيره يوصف بتلك الصحبة دون من لم يشركه فيها قال النبي ﷺ في حديث أبي سعيد المتقدم لخالد بن الوليد لما اختصم هو وعبد الرحمن: [ يا خالد ! لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده ! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ] فإن عبد الرحمن بن عوف هو وأمثاله من السابقين الأولين من الذين أنفقوا قبل الفتح فتح الحديبية وخالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية وأنفقوا وقاتلوا دون أولئك قال تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } والمراد بالفتح فتح الحديبية لما بايع النبي ﷺ أصحابه تحت الشجرة وكان الذين بايعوه أكثر من ألف وأربعمائة وهم الذين فتحوا خيبر وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ]
وسورة الفتح الذي فيها ذلك أنزلها الله قبل أن تفتح مكة بل قبل أن يعتمر النبي ﷺ وكان قد بايع أصحابه تحت الشجرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور وبذلك الصلح حصل من الفتح ما لا يعلمه إلا الله مع أنه قد كان كرهه خلق من المسلمين ولم يعلموا ما فيه من حسن العاقبة حتى قال سهل بن حنيف: أيها الناس ! اتهموا الرأي فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله ﷺ أمره لرددت رواه البخاري وغيره فلما كان من العام القابل اعتمر النبي ﷺ ودخل هو ومن اعتمر معه مكة معتمرين وأهل مكة يومئذ مع المشركين ولما كان في العام الثامن فتح مكة في شهر رمضان وقد أنزل الله فى سورة الفتح: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } فوعدهم في سورة الفتح أن يدخلوا مكة آمنين وأنجز موعده من العام الثاني وأنزل في ذلك: { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } وذلك كله قبل فتح مكة فمن توهم أن سورة الفتح نزلت بعد فتح مكة فقد غلط غلطا بينا
والمقصود أن أولئك الذين صحبوه قبل الفتح اختصوا من الصحبة بما استحقوا به التفضيل على من بعدهم حتى قال لخالد: لا تسبوا أصحابي فإنهم صحبوه قبل أن يصحبه خالد وأمثاله
ولما كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه من مزية الصحبة ما تميز به على جميع الصحابة خصه بذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي الدرداء أنه كان بين أبي بكر وعمر كلام فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فامتنع عمر وجاء أبا بكر إلى النبي ﷺ فذكر له ما جرى ثم إن عمر ندم فخرج يطلب أبا بكر في بيته فذكر له أنه كان عند النبي ﷺ فلما جاء عمر أخذ النبي ﷺ يغضب لأبي بكر وقال: أيها الناس ! إني جئت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ ! فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ ! فما أوذي بعدها فهنا خصه باسم الصحبة كما خصه به القرآن في قوله تعالى { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال: [ إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله فبكى أبو بكر فقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا
قال: فجعل الناس يعجبون أن ذكر النبي ﷺ عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فكان رسول الله ﷺ هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به وقال النبي ﷺ: إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر ] وهذا من أصح حديث يكون باتفاق العلماء العارفين بأقوال النبي ﷺ وأفعاله وأحواله
والمقصود أن الصحبة فيها خصوص وعموم وعمومها يندرج فيه كل من رآه مؤمنا به ولهذا يقال صحبته سنة وشهرا وساعة ونحو ذلك
ومعاوية وعمر بن العاص وأمثالهم من المؤمنين لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق بل قد ثبت في الصحيح أن عمرو بن العاص لما بايع النبي ﷺ قال: على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي فقال: يا عمرو ! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ومعلوم أن الإسلام الهادم هو إسلام المؤمنين لإسلام المنافقين
وأيضا فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجرا إلى النبي ﷺ بعد الحديبية هاجروا إليه من بلادهم طوعا لا كرها والمهاجرون لم يكن فيهم منافق وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة فلما أسلم أشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقا لعز الإسلام وظهوره في قومهم وأما أهل مكة فكان أشرافهم وجمهورهم كفارا فلم يكن يظهر الإيمان إلا من هو مؤمن ظاهرا وباطنا فإنه كان من أظهر الإسلام بمكة يتأذى في دنياه ثم لما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة هاجر معه أكثر المؤمنين ومنع بعضهم من الهجرة إليه كما منع رجال من بني مخزوم مثل الوليد بن المغيرة أخو خالد أخو أبي جهل لأمه ولهذا كان النبي ﷺ يقنت لهؤلاء ويقول في قنوته: اللهم نج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنينا كسني يوسف والمهاجرون من أولهم إلى آخرهم ليس فيهم من اتهمه أحد بالنفاق بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالايمان ولعن المؤمن كقتله
وأما معاوية بن أبي سفيان وأمثاله من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة: كعكرمة بن أبي جهل والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وأبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب هؤلاء وغيرهم ممن حسن إسلامهم باتفاق المسلمين ولم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق ومعاوية قد استكتبه رسول الله ﷺ وقال: اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب
وكان أخوه يزيد بن أبي سفيان خيرا منه وأفضل وهو أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فتح الشام ووصاه بوصية معروفة وأبو بكر ماش ويزيد راكب فقال له: يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل فقل: لست براكب ولست بنازل إني احتسب خطاي في سبيل الله وكان عمرو بن العاص هو الأمير الآخر والثالث شرحبيل بن حسنة والرابع خالد بن الوليد وهو أميرهم المطلق ثم عزله عمر وولى أبا عبيده عامر بن الجراح الذي ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ شهد له أنه أمين هذه الأمة فكان فتح الشام على يد أبي عبيدة وفتح العراق على يد سعد بن أبي وقاص
ثم لما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر استعمله أخاه معاوية وكان عمر ابن الخطاب من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال وأقومهم بالحق وأعلمهم به حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال النبي ﷺ: إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال: لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وقال ابن عمر: ما سمعت عمر يقول في الشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه وقد قال له النبي ﷺ: ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ولا استعمل عمر قط بل ولا أبو بكر على المسلمين: منافقا ولا استعملا من أقاربهما ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم وكان عمر يقول لسعد بن أبي وقاص وهو أمير العراق: لا تستعمل أحدا منهم ولا تشاورهم في الحرب فإنهم كانوا أمراء أكابر: مثل طليحة الأسدي والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والأشعث بن قيس الكندي وأمثالهم فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين
فلو كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين بل عمرو بن العاص قد أمره النبي ﷺ في غزوة ذات السلاسل والنبي ﷺ لم يول على المسلمين منافقا وقد استعمل على نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية ومات رسول الله ﷺ وأبو سفيان نائبه على نجران وقد اتفق المسلمون على أن إسلام معاوية خير من إسلام أبيه أبي سفيان فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبي ﷺ يأتمنهم على أحوال المسلمين في العلم والعمل؟ ! ! !
وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ولم يتهمهم أحد من أوليائهم لا محاربوهم ولا غير محاربيهم: بالكذب على النبى ﷺ بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله مأمونون عليه في الرواية عنه والمنافق غير مأمون على النبي ﷺ بل هو كاذب عليه مكذب له
وإذا كانوا مؤمنين محبين لله ورسوله: فمن لعنهم فقد عصى الله ورسوله وقد ثبت في صحيج البخاري ما معناه: أن رجلا يلقب حمارا وكان يشرب الخمر وكان كلما شرب أتي به إلى النبي ﷺ جلده فأتي به إليه مرة فقال رجل: لعنه الله ! ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي ﷺ؟ ! فقال النبي ﷺ لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله وكل مؤمن يحب الله ورسوله ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن وإن كانوا متفاضلين في الايمان وما يدخل فيه من حب وغيره هذا مع أنه ﷺ لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها وقد نهى عن لعنة هذا المعين لأن اللعنة من باب الوعيد فيحكم به عموما وأما المعين فقد يرتفع عنه الوعيد لتوبة صحيحة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو غير ذلك من الأسباب التي ضررها يرفع العقوبة عن المذنب فهذا في حق من له ذنب محقق
وكذلك حاطب بن أبي بلتعة فعل ما فعل وكان يسيء إلى مماليكه حتى ثبت في الصحيح أن غلامه قال: يا رسول الله ! والله ليدخلن حاطب بن أبي بلتعة النار قال: كذبت إنه شهد بدرا والحديبية وفي الصحيح عن علي بن أبي طالب أن النبي ﷺ أرسله والزبير بن العوام وقال لهما: إئتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب قال علي: فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى لقينا الظعينة فقلنا: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب فقلنا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب قال فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي ﷺ وإذا كتاب من حاطب إلى بعض المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: ما هذا يا حاطب؟ ! ! فقال: والله يا رسول الله ! ما فعلت هذا ارتدادا عن ديني ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام ولكن كنت أمرا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المسلمين لهم قرابات يحمون بهم أهاليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك منهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وفي لفظ: وعلمت أن ذلك لا يضرك يعني لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي ﷺ: إنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر
فدل ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة والمؤمنون يؤمنون بالوعد والوعيد لقوله ﷺ: [ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ] وأمثال ذلك: مع قوله: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } ولهذا لا يشهد لمعين بالجنة إلا بدليل خاص ولا يشهد على معين بالنار إلا بدليل خاص ولا يشهد لهم بمجرد الظن من اندراجهم في العموم لأنه قد يندرج في العمومين فيستحق الثواب والعقاب لقوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته فإن الله يثيبه على حسناته ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر وأنهم لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وأن صاحب الكبيرة لا يبقى معه من الايمان شيء وهذه أقوال فاسدة مخالفة للكتاب والسنة المتواترة وإجماع الصحابة
وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم والله تعالى يغفر لهم بالتوبة ويرفع بها درجاتهم ويغفر لهم بحسنات ماحية أو بغير ذلك من الأسباب قال تعالى: { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } وقال تعالى: { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين * أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة }
ولكن الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الاصرار على الذنوب فأما الصديقون والشهداء والصالحون: فليسوا بمعصومين وهذا في الذنوب المحقة وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون وتارة يخطئون فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم وأهل الضلال يجعلون الخطأ والاثم متلازمين: فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ وأهل العلم والايمان لا يعصمون ولا يؤثمون
ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال فطائفة سبت السلف ولعنتهم لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبا وإن من فعلها يستحق اللعنة بل قد يفسقونهم أو يكفرونهم كما فعلت الخوارج الذين كفروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن تولاهما ولعنوهم وسبوهم واستحلوا قتالهم وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: [ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ] وقال ﷺ: [ تمرق مارقة على فرقة من المسلمين فتقاتلها أولى الطائفتين لأجل الحق ] وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفروا كل من تولاه وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين: فرشة مع علي وفرقة مع معاوية فقاتل هؤلاء عليا وأصحابه فوقع الأمر كما أخبر به النبي ﷺ وكما ثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال عن الحسن ابنه: [ إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ] فأصلح الله به بين شيعة علي وشيعة معاوية
وأثنى النبي ﷺ على الحسن بهذا الصلح الذي كان على يديه وسماه سيدا بذلك لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله ويرضاه الله ورسوله ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به ورسوله لم يكن الأمر كذلك بل يكون الحسن قد ترك الواجب أو الأحب إلى الله وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود مرضي لله ورسوله وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يضعه على فخذه ويضع أسامة بن زيد ويقول: اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما وهذا أيضا مما ظهر فيه محبته ودعوته ﷺ فإنهما كانا أشد الناس رغبة في الأمر الذي مدح النبي ﷺ به الحسن وأشد الناس كراهية لما يخالفه
وهذا مما يبين أن القتلى من أهل صفين لم يكونوا عند النبي ﷺ بمنزلة الخوارج المارقين الذين أمر بقتالهم وهؤلاء مدح الصلح بينهم ولم يأمر بقتالهم ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين على قتال الخوارج المارقين وظهر من علي رضي الله عنه السرور بقتالهم ومن روايته عن النبي ﷺ الأمر بقتالهم: ما قد ظهر عنه وأما قتال الصحابة فلم يروا عن النبي ﷺ فيه أثر ولم يظهر فيه سرور بل ظهر منه الكآبة وتمني أن لا يقع وشكر بعض الصحابة وبرأ الفريقين من الكفر والنفاق وأجاز الترحم على قتلى الطائفتين وأمثال ذلك من الأمور التي يعرف بها اتفاق علي وغيره من الصحابة على أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة
وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الايمان بقوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فسماهم مؤمنين وجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي
والحديث المذكور إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون كذب مفترى لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة
ومعاوية لم يدع الخلافة ولم يبايع له بها حين قاتل عليا ولم يقاتل علي أنه خليفة ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدوا عليا وأصحابه بالقتال ولا يعلوا
بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة
وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين وقتله في عسكر علي وهم غالبون لهم شوكة فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا وعلي لا يمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الانصاف
وكان في جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونا كاذبة برأ الله منها عليا وعثمان كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان وكان علي يحلف وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله ولا رضي بقتله ولم يمالىء على قتله وهذا معلوم بلا ريب من علي رضي الله عنه فكان أناس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه: فمحبوه يقصدون بذلك الطعن على عثمان بأنه كان يستحق القتل وإن عليا أمر بقتله ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن على علي وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه فكيف في طلب طاعته؟ ! وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية والعلوية
وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفء لعلي بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه فإن فضل علي وسابقيته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة كفضل إخوانه: أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد وسعد كان قد ترك هذا الأمر وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي رضي الله عنه وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والايمان حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولى منه بالطاعة ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف ولهذا قيل: ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة
وأما الحديث الذي فيه أن عمارا تقتله الفئة الباغية فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم لكن رواه مسلم في صحيحه وهو في بعض نسخ البخاري: قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان كما قالوا: نبغي ابن عفان بأطراف الأسل وليس بشيء بل يقال ما قاله رسول الله ﷺ فهو حق كما قاله وليس في كون عمارا تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه فإنه كما قال الله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين وليس كل ما كان بغيا وظلما أو عدوانا يخرج عموم الناس عن الإيمان ولا يوجب لعنتهم فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟ !
وكل من كان باغيا أو ظالما أو معتديا أو مرتكبا ما هو ذنب فهو قسمان متأول وغير متأول فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة وأمثال ذلك فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون وقد قال الله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء
وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث وخص أحدهما بالعلم والحكم مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم والعلماء ورثة الأنبياء فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما والاصرار عليه فسقا بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا فالبغي هو من هذا الباب
أما إذا كان الباغي مجتهدا ومتأولا ولم يتبين له أنه باغ بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئا في اعتقاده: لم تكن تسميته باغيا موجبة لأثمه فضلا عن أن توجب فسقه والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم لا عقوبة لهم بل للمنع من العدوان ويقولون: إنهم باقون على العدالة لا يفسقون ويقولون هم كغير المكلف كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم بل تمنع البهائم من العدوان ويجب على من قتل مؤمنا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك وهكذا من رفع إلى الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد والتائب من الذنب كمن لا ذنب له والباغي المتأول يجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة
ثم بتقدير أن يكون البغي بغير تأويل: يكون ذنبا والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة: بالحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك
ثم إن عمارا تقتله الفئة الباغية ليس نصا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته وهي طائفة من العسكر ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار: كعبد الله بن عمرو بن العاص وغيره بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية وعمرو
ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به دون مقاتليه: وأن عليا رد هذا التأويل بقوله: فنحن إذا قتلنا حمزة ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارا فلم يعتقد أنه باغ ومن لم يعتقد أنه باغ وهو في نفس الأمر باغ: فهو متأول مخطئ
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارا لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة: منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته ومنهم من يرى الامساك عن القتال مطلقا وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين ففي القول الأول عمار وسهل بن حنيف وأبو أيوب وفي الثاني سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ونحوهم ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص وكان من القاعدين
وحديث عمار قد يحتج به من رأى القتال لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول: { فقاتلوا التي تبغي } والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ في أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها وتقول: إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك وأن النبي ﷺ لم يأمر بالقتال ولم يرض به وإنما رضي بالصلح وإنما أمر الله بقتال الباغي ولم يأمر بقتاله ابتداء بل قال: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } قالوا: والاقتتال الأول لم يأمر الله به ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغى عليه فإنه إذا قتل كل باغ كفر بل غالب المؤمنين بل غالب الناس: لا يخلو من ظلم وبغي ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الاصلاح بينهما وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت لأنها لم تترك القتال ولم تجب إلى الصلح فلم يندفع شرها إلا بالقتال فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال كما قال النبي ﷺ [ من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ] قالوا: فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء بل أمرنا بالاصلاح بينهم وأيضا فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين مع عن ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له
والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة ولا يوجب فسقه
وأما أهل البيت فلم يسبوا قط ولله الحمد
ولم يقتل الحجاج أحدا من بني هاشم وإنما قتل رجالا من أشراف العرب وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية حتى فرقوا بينه وبينها حيث لم يروه كفوءا والله أعلم
98 - 744 - مسألة: في الفتن التي تقع من أهل البر وأمثالها فيقتل بعضهم بعضا ويستبيح بعضهم حرمة بعض: فما حكم الله تعالى فيهم؟
الجواب: الحمد لله هذه الفتن وأمثالها من أعظم المحرمات وأكبر المنكرات قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا حتى صار عنهم من الكفر ما صار وقد قال النبي ﷺ: [ لا ترجعوا بعدي كفارا ويضرب بعضكم رقاب بعض ] فهذا من الكفر وإن كان المسلم لا يكفر بالذنب قال تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين: أخبر أنهم إخوة وأمر أولا بالاصلاح بينهم إن اقتتلوا: { فإن بغت إحداهما على الأخرى } ولم يقبلوا الصلاح: { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } فأمر بالاصلاح بينهم بالعدل بعد أن { تفيء إلى أمر الله } أي ترجع إلى أمر الله فمن رجع إلى أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه ويقسط بينهما فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما أمرنا بالاصلاح بينهما مطلقا لأنه لم تقهر إحدى الطائفتين بقتال
وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أمر الله به ورسوله ويقال لهذه: ما تنقم من هذه؟ ولهذه: ما تنقم من هذه؟ فإن ثبت على إحدى الطائفتين أنها اعتدت على الأخرى: باتلاف شيء من الأنفس والأموال: كان عليها ضمان ما أتلفت وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصوا بينهم كما قال الله تعالى: { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وقد ذكرت طائفة من السلف أنها نزلت في مثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمرهم الله بالمقاصة قال: { فمن عفي له من أخيه شيء } والعفو الفضل فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء على الأخرى { فاتباع بالمعروف } والذي عليه الحق يؤديه بإحسان وإن تعذر أن تضمن واحدة للأخرى فيجوز أن يتحمل الرجل حمالة يؤديها لصلاح ذات البين وله أن يأخذها بعد ذلك من زكاة المسلمين ويسأل الناس في إعانته على هذه الحالة وإن كان غنيا قال النبي ﷺ لقبيصة بن مخارق الهلالي: [ يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادا من عيش ثم يمسك ورجل أصابته فاقة فإنه يقوم ثلاثة من ذوي الحجة من قومه فيقولون: قد أصاب فلانا فاقة فيسأل حتى يجد قواما من عيش وسدادا من عيش ثم يمسك ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك ] والواجب على كل مسلم قادر أن يسعى في الاصلاح بينهم ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن
ومن كان من الطائفتين يظن أنه مظلوم مبغي عليه فإذا صبر ومن أعزه الله ونصره كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ولا نقصت صدقة من مال ] وقال تعالى: { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقال تعالى: { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } فالباغي الظالم ينتقم الله منه في الدنيا والآخرة فإن البغي مصرعه قال ابن مسعود: ولو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا ومن حكمة الشعر:
( قضى الله أن البغي يصرع أهله وأن على الباغي تدور الدوائر )
ويشهد لهذا قوله تعالى: { إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } الآية وفي الحديث: [ ما من ذنب أحرى أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا من البغي وما حسنة أحرى أن يعجل لصاحبها الثواب من صلة الرحم ] فمن كان من إحدى الطائفتين باغيا ظالما فليتق الله وليتب ومتى كان مظلوما مبغيا عليه وصبر كان له البشرى من الله قال تعالى: { وبشر الصابرين } قال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون إذا ظلموا وقد قال تعالى للمؤمنين في حق عدوهم: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } وقال يوسف عليه السلام لما فعل به إخوته ما فعلوا فصبر واتقى حتى نصره الله ودخلوا عليه وهو في عزه: { قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فمن اتقى الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل ولم يتعد حدود الله وصبر على أذى الآخر وظلمه لم يضره كيد الآخر بل ينصره الله عليه
وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا فعلى كل من الطائفتين أن يستغفر الله ويتوب إليه فإن ذلك يرفع العذاب وينزل الرحمة قال الله تعالى: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } وفي الحديث عن النبي ﷺ: [ من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ] قال الله تعالى: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله }
745 - 99 - مسألة: طائفتان يزعمان أنهما من أمة محمد ﷺ تتداعيان بدعوة الجاهلية: كأسد وهلال وثعلبة وحرام وغير ذلك وبينهم أحقاد ودماء فإذا تراءت الفئتان سعى المؤمنون بينهم لقصد التأليف وإصلاح ذات البين فيقول أولئك الباغون: إن الله قد أوجب علينا طلب الثأر بقوله: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } - إلى قوله -
{ والجروح قصاص } ثم إن المؤمنين يعرفونهم أن هذا الأمر يقضي إلى الكفر: من قتل النفوس ونهب الأموال فيقولون: نحن لنا عليهم حقوق فلا نفارق حتى نأخذ ثأرنا بسيوفهم ثم يحملون عليهم فمن انتصر منهم بغى وتعدى وقتل النفس ويفسدون في الأرض فهل يجب قتال الطائفة الباغية وقتلها بعد أمرهم بالمعروف؟ أو ماذا يجب على الإمام أن يفعل بهذه الطائفة الباغية؟
الجواب: الحمد لله: قتال هاتين الطائفتين حرام بالكتاب والسنة والاجماع حتى قال ﷺ: [ إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه ] وقال ﷺ: [ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] وقال ﷺ: [ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا إلا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع ]
والواجب في مثل هذا ما أمر الله به ورسوله حيث قال: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } فيجب الاصلاح بين هاتين الطائفتين كما أمر الله تعالى والاصلاح له طرق
منها أن تجمع أموال الزكوات وغيرها حتى يدفع في مثل ذلك فإن الغرم لاصلاح ذات البين يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقدر ما غرم كما ذكره الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما كما قال النبي ﷺ لقبيصة بن مخارق: [ إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله وسأل حتى يجد سدادا من عيش ثم يمسك ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه فيقولون: قد أصابت فلانا فاقة فيسأل حتى يجد قواما من عيش وسدادا من عيش ثم يمسك وما سوى ذلك من المسألة فإنه يأكله صاحبه سحتا ]
ومن طرق الصلح أن تعفو إحدى الطائفتين أو كلاهما عن بعض مالها عند الأخرى من الدماء والأموال { فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } ومن طرق الصلح أن يحكم بينهما بالعدل فينظر ما أتلفته كل طائفة من الأخرى من النفوس والأموال فيتقاصان { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وإذا فضل لاحداهما على الأخرى شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان فإن كان يجهل عدد القتلى أو مقدار المال: جعل المجهول كالمعدوم وإذا ادعت إحداهما على الأخرى بزيادة: فإما أن تحلفها على نفي ذلك وإما أن تقيم البينة وإما تمتنع عن اليمين فيقضي برد اليمين أو النكول
فإن كانت إحدى الطائفتين تبغي بأن تمتنع عن العدل الواجب ولا تجيب إلى أمر الله ورسوله وتقاتل على ذلك أو تطلب قتال الأخرى وإتلاف النفوس والأموال كما جرت عادتهم به فإذا لم يقدر على كفها إلا بالقتل قوتلت حتى تفيء إلى أمر الله وإن أمكن أن تلزم بالعدل بدون القتال مثل أن يعاقب بعضهم أو يحبس أو يقتل من وجب قتله منهم ونحو ذلك: عمل ذلك ولا حاجة إلى القتال
وأما قول القائل: إن الله أوجب علينا طلب الثأر فهو كذب على الله ورسوله فإن الله لم يوجب على من له عند أخيه المؤمن المسلم مظلمة من دم أو مال أو عرض أن يستوفي ذلك بل لم يذكر حقوق الآدميين في القرآن إلا ندب فيها إلى العفو فقال تعالى: { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } وقال تعالى: { فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح }
وأما قوله تعالى: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } فهذا مع أنه مكتوب على بني إسرائيل وإن كان حكمنا كحكمهم مما لم ينسخ من الشرائع: فالمراد بذلك التسوية في الدماء بين المؤمنين كما قال النبي ﷺ: [ المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ] { النفس بالنفس } وإن كان القاتل رئيسا مطاعا من قبيلة شريفة والمقتول سوقي طارف وكذلك إن كان كبيرا وهذا صغيرا أو هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا عربيا وهذا عجميا أو هذا هاشميا وهذا قرشيا وهذا رد لما كان عليه أهل الجاهلية من أنه إذا قتل كبير من القبيلة قتلوا به عددا من القبيلة الأخرى غير قبيلة القاتل وإذا قتل ضعيف من قبيلة لم يقتلوا قاتله إذا كان رئيسا مطلقا فأبطل الله ذلك بقوله: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فالمكتوب عليهم هو العدل وهو كون النفس بالنفس إذ الظلم حرام وأما استيفاء الحق فهو إلى المستحق وهذا مثل قوله: { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } أي لا يقتل غير قاتله
وأما إذا طلبت إحدى الطائفتين حكم الله ورسوله فقالت الأخرى نحن نأخذ حقنا بأيدينا في هذا الوقت فهذا من أعظم الذنوب الموجبة عقوبة هذا القاتل الظالم الفاجر وإذا امتنعوا عن حكم الله ورسوله ولهم شوكة وجب على الأمير قتالهم وإن لم يكن لهم شوكة: عرف من امتنع من حكم الله ورسوله وألزم بالعدل
وأما قولهم: لنا عليهم حقوق من سنين متقادمة فيقال لهم نحن نحكم بينكم في الحقوق القديمة والحديثة فإن حكم الله ورسوله يأتي على هذا
وأما من قتل أحدا من بعد الاصطلاح أو بعد المعاهدة والمعاقدة: فهذا يستحق القتل حتى قالت طائفة من العلماء: إنه يقتل حدا ولا يجوز العفو عنه لأولياء المقتول وقال الأكثرون: بل قتله قصاص والخيار فيه إلى أولياء المقتول
وإن كان الباغي طائفة فإنهم يستحقون العقوبة وإن لم يمكن كف صنيعهم إلا بقتالهم قوتلوا وإن أمكن بما دون ذلك عوقبوا بما يمنعهم من البغي والعدوان ونقض العهد والميثاق قال ﷺ: [ ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته فيقال: هذه غدرة فلان ] وقد قال تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قالت طائفة من العلماء المعتدي هو القاتل بعد العفو فهذا يقتل حتما وقال آخرون: بل يعذب بما يمنعه من الاعتداء والله أعلم