الفتاوى الكبرى/كتاب السنة والبدعة/3
فصل
فلما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل وحرمه من الظلم على نفسه وعلى عباده ذكر بعد ذلك إحسانه إلى عباده مع غناه عنهم وفقرهم إليه وإنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم ولا دفع مضرة إلا أن يكون هو الميسر لذلك وأمر العباد أن يسألوه ذلك وأخبر أنهم لايقدرون على نفعه ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء ويدفع عنهم البلاء وجلب المنفعة ودفع المضرة
أما أن يكون في الدين أو في الدنيا فصارت أربعة أقسام: الهداية والمغفرة وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدين والطعام والكسوة وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا وإن شئت قلت: الهداية والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن وهو الأصل في الأعمال الإرادية والطعام والكسوة يتعلقان بالبدن الطعام لجلب منفعته واللباس لدفع مضرته وفتح الأمر بالهداية فإنها وإن كانت الهداية النافعة هي المتعلقة بالدين فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم كما قال سبحانه: { سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } وقال موسى: { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وقال تعالى: { وهديناه النجدين }: وقال: { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }
ولهذا قيل: الهدى أربعة أقسام:
أحدها: الهداية إلى مصالح الدنيا فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم وبين المؤمن والكافر
والثاني: الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ماينفعهم وأمرهم بذلك وهم نصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب فهذا أيضا يشترك فيه جميع المكلفين سواء آمنوا أو كفروا كما قال تعالى: { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } وقال تعالى: { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } وقال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فهذا مع قوله: { إنك لا تهدي من أحببت } يبين أن الهدي الذي أثبته هو البيان والدعاء والأمر والنهي والتعليم وما يتبع ذلك ليس هو الهدى الذي نفاه وهو القسم الثالث الذي لايقدر عليه إلا الله
والقسم الثالث: الهدى الذي هو جعل الهدى في القلوب وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام والإرشاد وبعضهم يقول: هو خلق القدرة على الإيمان كالتوفيق عندهم ونحو ذلك وهو بناء على أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فمن قال ذلك من أهل الإثبات جعل التوفيق والهدى ونحو ذلك خلق القدرة على الطاعة
أما من قال أنهما استطاعتان:
إحداهما: قبل الفعل وهي الاستطاعة المشروطة في التعكيف كما قال تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقال النبي ﷺ لعمران بن حصين: [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] وهذه الإستطاعة يقترن بها الفعل تارة والترك أخرى وهي الإستطاعة التي لم تعرف القدرية غيرها كما أن أولئك المخالفين لهم من أهل الإثبات لم يعرفوا إلا المقارنة وأما الذي عليه المحققون من أئمة الفقه والحديث والكلام وغيرهم فإثبات النوعين جميعا كما قد بسطناه في غير هذا الموضع فإن الأدلة الشرعية والعقلية تثبت النوعين جميعا
والثانية: المقارنة للفعل وهي الموجبة له وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله: { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } وفي قوله: { لا يستطيعون سمعا }
وهذا الهدى الذي يكثر ذكره في القرآن في مثل قوله: { اهدنا الصراط المستقيم } وقوله: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } وفي قوله: { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وأمثال ذلك وهذا هو الذي تنكر القدرية أن الله هو الفاعل له ويزعمون أن العبد هو الذي يهدي نفسه
وهذا الحديث وأمثاله حجة عليهم حيث قال: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم فأمر العباد بأن يسألوه الهداية كما أمرهم بذلك في أم الكتاب في قوله: { اهدنا الصراط المستقيم }
وعن القدرية أن الله لايقدر من الهدى إلى على مافعله من إرسال الرسل ونصب الأدلة وإراحة العلة ولامزية عندهم للمؤمن على الكافر في هداية الله تعالى ولانعمة له على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر في باب الهدى
وقد بين الأختصاص في هذه بعد عموم الدعوة في قوله: { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } فقد جمع الحديث تنزيهه عن الظلم الذي يجوزه عليه بعض المثبتة وبيان أنه هو الذي يهدي عباده ردا على القدرية فأخبر هناك بعدله الذي يذكره بعض المثبتة وأخبر هنا بإحسانه وقدرته الذي تنكره القدرية وإن كان كل منهما قصده تعظيما لا يعرف ما اشتمل عليه قوله
والقسم الرابع: الهدى في الآخرة كما قال تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد } وقال: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم } فقوله: { يهديهم ربهم بإيمانهم } كقوله: { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } على أحد القولين في الآية
وهذا الهدى ثواب الاهتداء في الدنيا كما أن ضلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا وكما أن قصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار كما قال تعالى: { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وقال: { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } وقال: { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وقال: { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما }
فأخبر أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عميا وبكما وصما فإن الجزاء أبدا من جنس العمل كما قال ﷺ: [ الراحمون يرحمهم الرحمن إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ] وقال: [ من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل له الله به طريقا إلى الجنة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه ] وقال: [ من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ] وقد قال تعالى: { وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } وقال: { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } وأمثال هذا كثير في الكتاب والسنة
ولهذا أيضا يجزى الرجل في الدنيا على ما فعله من خير الهدى بما يفتح عليه من هدى آخر ولهذا قيل: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم وقد قال تعالى: { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } إلى قوله: { مستقيما } وقال: { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وقال: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم } وقال: { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } فسروه بالنصر والنجاة كقوله: { يوم الفرقان } وقد قيل نور يفرق به بين الحق والباطل ومثله قوله: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } وعد المتقين بالمخارج من الضيق وبرزق المنافع
ومن هذا الباب قوله: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقوله: { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } ومنه قوله: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا } وبإزاء ذلك أن الضلال والمعاصي تكون بسبب الذنوب المتقدمة كما قال الله: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وقال: { وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم } وقال: { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } وقال: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } إلى قوله: { لا يؤمنون } إلى قوله: { يعمهون } وهذا باب واسع
ولهذا قال من قال من السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وأن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وقد شاع في لسان العامة أن قوله: { اتقوا الله ويعلمكم الله } من الباب الأول حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة لأنه لم يرابط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط فلم يقل: واتقوا الله ويعلمكم ولا قال: فيعلمكم وإنما أتى بواو العطف وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني
وقد يقال: العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم كما يقال زرني وأزورك وسلم علينا ونسلم عليك ونحو ذلك مما يقتضى إقتران الفعلين والتعاوض من الطرفين كما لو قال: لسيده أعتقني ولك علي ألف أو قالت المرأة لزوجها: طلقني ولك ألف أو: اخلعني ولك ألف فإن ذلك بمنزلة قولها: بألف أو على ألف
وكذلك أيضا لو قال: أنت حر وعليك ألف أو: أنت طالق وعليك ألف فإنه كقوله: علي ألف أو: بألف عند جمهور الفقهاء والفرق بينهما قول شاذ ويقول أحد المتعاوضين للآخر: أعطيك هذا وآخذ هذا ونحو ذلك من العبارات فيقول الآخر: نعم وإن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر دون العكس
فقوله: { واتقوا الله ويعلمكم الله } قد يكون من هذا الباب فكل من تعليم الرب وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك ومتى اتقاه زاده من العلم وهلم جرا
فصل
وأما قوله: يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم وكلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم فيقتضي أصلين عظيمين:
أحدهما: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة كالطعام ودفع المضرة كاللباس وأنه لا يقضي غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة وأنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك ولهذا قال: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقال: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم } فالمأمور به هو المقدور للعباد
وكذلك قوله: { أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة } وقوله: { وأطعموا القانع والمعتر } وقوله: { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } وقال: { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر
ومن هنا يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب
ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببا إلا بمشيئة الله تعالى فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل وأخل بواجب التوحيد ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا أعتمدوا على الأسباب فمن رجا نصرا أو رزقا من غير الله خذله الله كما قال علي رضي الله عنه: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن [ إلا ذنبه ] وقد قال تعالى: { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } وقال تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده } وقال: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون }
وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركا لما أمر به من الأسباب فهو أيضا جاهل ظالم عاص لله يترك ما أمره فإن فعل المأمور به عبادة لله وقد قال تعالى: { فاعبده وتوكل عليه } وقال: { إياك نعبد وإياك نستعين } وقال: { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } وقال شعيب عليه السلام: { عليه توكلت وإليه أنيب } وقال: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } وقال: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير }
فليس من فعل شيئا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبا ممن فعل توكلا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه وهما مع اشتراكهما في جنس الذنب فقد يكون هذا ألوم وقد يكون الآخر مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب
وقد روى أبو داود في سننه [ أن النبي ﷺ قضى بين رجلين فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي ﷺ: إن الله يلوم على العجز لكن عليك بالكيس فإن غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: [ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو إني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ]
ففي قوله ﷺ: [ إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ] أمر بالتسبب المأمور به وهو الحرص على المنافع وأمر مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله فمن اكتفى بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين ونهى عن العجز الذي هو ضد الكيس كما قال في الحديث الآخر: [ إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس ] وكما في الحديث الشامي: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله فالعاجز في الحديث مقابل الكيس ومن قال: العاجز الذي هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه ومنه الحديث: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس
ومن ذلك ما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون يقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجا كان مطيعا لله في هذين الأمرين بخلاف من ترك ذلك ملفتا إلى أزواد الحجيج كلا على الناس وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين فهو ملتفت إلى الجملة لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به
وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف: فطائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصا وقدحا في التوحيد والتوكل وأن تركة من كمال التوكل والتوحيد وهم في ذلك ملبوس عليهم وقد يقترن بالغلط اتباع الهوى في إخلاد النفس إلى البطالة ولهذا تجد عامة هذا الضرب التاركين لما أمروا به من الأسباب يتعلقون بأسباب دون ذلك فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات انفع لهم من ذلك كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك لكن كان مباشرة الدواء الخفيف والسعي اليسير وصرف تلك الهمة والتوجه في علم صالح أنفع له بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم أونحوه وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء أيضا نقصا وانقطاعا عن الخاصة ظنا أن ملاحظة ما فرع منه في القدر هو حال الخاصة
وقد قال في الحديث: كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم وقال: فاستكسوني أكسكم وفي الطبراني أوغيره عن النبي ﷺ قال: [ ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ] وهذا قد يلزمه أن يجعل أيضا استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك
وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقا بل دفع المخلوق والمأمور وإنما غلطوا من حيث ظنوا سيق التقدير يمنع أن يعون بالسبب المأمور به كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة بناء على أن القدر قد سيق بأهل السعادة وأهل الشقاوة ولم يعلم: أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله يتيسر لعمل أهل السعادة ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء كما قد أجاب النبي ﷺ عن هذا السؤال في حديث علي بن أبي طالب وعمران بن حصين وسراقة بن جعشم وغيرهم
ومنه حديث الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه قال: سألت النبي ﷺ فقلت: [ يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: هي من قدر الله ]
وطائفة تظن أن التوكل انما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل كذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها كالحب والرجاء والخوف والشكر ونحو ذلك وهذا ضلال مبين بل جميع هذه الأمور فروض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان ومن تركها بالكلية فهو إما كافر وإما منافق لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة فمعنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ونصوص الكتاب والسنة طافحة بذلك وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور علما وعملا بأقل لوما من التاركين لما أمروا به من أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة إن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها والأمور الظاهرة كما لها وفروعها التي لا تتم إلا بها
فصل
وأما قوله: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا وفي رواية: وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم فالمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان:
أحدهما: المغفرة لمن تاب كما في قوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } إلى قوله: { ثم لا تنصرون } فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين أن المعنى لا ييأس مذنب من مغفرة الله ولو كانت ذنوبه ما كانت فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه قال تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } إلى قوله: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } وقال في الآية الأخرى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } وقال: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } إلى قوله { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم }
وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنا للحديث الإسرائيلي الذي فيه: فكيف من أضللت وهذا غلط فإن الله قد بين في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع وقد قال تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم عذبوا أولياءه وفتنوهم ثم وهو يدعوهم إلى التوبة وكذلك توبة القائل ونحوه وحديث أبي سعيد المتفق عليه في الذي قتل تسعة وتسعين نفسا يدل على قبول توبته وليس في الكتاب والسنة ما ينافي ذلك ولا نصوص الوعيد فيه وفي غيره من الكبائر بمنافية لنصوص قول التوبة فليست آية الفرقان بمنسوخة بآية النساء إذ لا منافاة بينهما فإنه قد علم يقينا أن كل ذنب فيه وعيد فإن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة إذ نصوص التوبة مبنية لتلك النصوص كالوعيد في الشرك وأكل الربا وأكل مال اليتيم والسحر وغير ذلك من الذنوب
ومن قال من العلماء توبته غير مقبولة فحقيقة قوله التي تلائم أصول الشريعة أن يراد بذلك أن التوبة المجردة تسقط حق الله من العقاب وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة وهذا حق ولافرق في ذلك بين القائل وسائر الظالمين
فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بد له من العوض في الآخرة فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسا ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فالا راد لفضله كما إذا شاء أن يغفر مادون الشرك لمن يشاء
ولهذا في حديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس شهرا حتى شافهه به وقد رواه الإمام أحمد وغيره واستشهد به البخاري في صحيحه وهو من جنس حديث الترمذي صحاحه أو حسانه قال فيه: إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار قبله مظلمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة حتى أقصه منه فبين في الحديث العدل والقصاص بين أهل الجنة وأهل النار
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد: أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة
وقد قال سبحانه لما قال: { ولا يغتب بعضكم بعضا } والإغتياب من ظلم الأعراض قال: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } فقد نبههم على التوبة من الاغتياب وهو من الظلم
وفي الحديث الصحيح: [ من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات فإن كان له حسنات وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم يلقى في النار ] أو كما قال
وهذا فيما علمه المظلوم من العوض فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك فقد قيل: من شرط توبته إعلامه وقيل: لا يشترط ذلك وهذا قول الأكثرين وهما روايتان عن أحمد لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات كالدعاء له والاستغفار وعمل صالح يهدى إليه يقوم مقام اغتيابه وقذفه قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن نستغفر لمن اغتبته
وأما الذنوب التي يطلق الفقهاء فيها نفي قبول التوبة مثل قول أكثرهم: لا تقبل توبة الزنديق وهو المنافق وقولهم: إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حدود الله وكذلك قول الكثير منهم أو أكثرهم في سائر الجرائم كما هو أحد قولي الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد
وقولهم في هؤلاء إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تقبل توبتهم فهذا إنما يريدون به رفع العقوبة المشروعة عنهم أى لا تقبل توبتهم بحيث يخلى بلا عقوبة بل يعاقب إما لأن توبته غير معلومة الصحة بل يظن به الكذب فيها وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى انتهاك المحارم وسد باب العقوبة على الجرائم ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة فإن الله لا يقبل توبته في الباطن إذ ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء
بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة كما قال تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار } الآية قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد ﷺ عن ذلك فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب
وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله فلما أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين قال الله: { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } وهذا استفهام إنكار بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها فإن استفهام الإنكار إما بمعنى النفي إذا قابل الأخبار وإما بمعنى الذم والنهي إذا قابل الإنشاء وهذا من هذا ومثله قوله تعالى: { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } الآية بين أن التوبة بعد رؤية البأس لاتنفع وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره وفي الحديث: [ إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر ] وروي: ما لم يعاين
وقد ثبت في الصحيحين أنه ﷺ عرض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه وقد عاد يهوديا كان يخدمه فعرض عليه الإسلام فأسلم فقال: [ الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ] ثم قال لأصحابه: [ آووا أخاكم ]
ومما يبين أن المغفرة العامة في الزمر هي للتائبين أنه قال في سورة النساء: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فقيد المغفرة بما دون الشرك وعلقها على المشيئة وهناك أطلق وعمم فدل هذا التقييد والتعليق على أن هذا في حق غير التائب ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على جواز المغفرة لأهل الكبائر في الجملة خلافا لمن أوجب نفوذ الوعيد بهم من الخوارج والمعتزلة وإن كان المخالفون لهم قد أسرف فريق منهم من المرجئة حتى توقفوا في لحوق الوعيد بأحد من أهل القبلة كما يذكر عن غلاتهم أنهم نفوه مطلقا ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه ونصوص الكتاب والسنة مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذب وأنه لايبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان
النوع الثاني: من المغفرة العامة التي تدل عليها قوله: ياعبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا المغفرة بمعنى تخفيف العذاب أو بمعنى تأخيره إلى أجل مسمى وهذا عام مطلقا ولهذا شفع النبي ﷺ في أبي طالب مع موته على الشرك فنقل من غمرة من نار حتى جعل ضحضاح من نار في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه قال: [ ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ]
وعلى هذا المعنى دل قوله سبحانه: { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }
فصل
وأما قوله عز وجل: [ يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ] فإنه هو بين بذلك أنه ليس هو فيما يحسن به إليهم من إجابة الدعوات وغفران الزلات بالمستعيض بذلك منهم جلب منفعة أو دفع مضرة كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعا ليكافئه عليه بنفع أو يدفع عنه ضرا لينفي بذلك ضرره فقال: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني فلست إذا أجسكم بهداية المستهدي وكفاية المستكفي المستطعم والمستكسي بالذي أطلب أن تنفعوني ولا أنا إذا غفرت خطاياكم بالليل والنهار أتقي بذلك أن تضروني فإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني إذ هم عاجزون عن ذلك بل ما يقدرون عليه من الفعل لا يقدرون عليه إلا بتقديره وتدبيره فكيف بما لا يقدرون عليه فكيف بالغني الصمد الذي يمتنع عليه أن يستحق من غيره نفعا أو ضرا
وهذا الكلام كما بين أن ما يفعله بهم من جلب المنافع ودفع المضار فإنهم لن يبلغوا أن يفعلوا به مثل ذلك فكذلك يتضمن أن ما يأمرهم به من الطاعات وما ينهاهم عنه من السيئات فإنه لا يتضمن استجلاب نفعهم كما أمر السيد لعبده أو الوالد لولده والأمير لرعيته ونحو ذلك ولا دفع مضرتهم كنهي هؤلاء أو غيرهم لبعض الناس عن مضرتهم فإن المخلوقين يبلغ بعضهم نفع بعض ومضرة بعض وكانوا في أمرهم ونهيهم قد يكونون كذلك والخالق سبحانه مقدس عن ذلك
فبين تنزيهه عن لحوق نفعهم وضرهم في إحسانه إليهم بما يكون من أفعاله بهم وأوامره لهم قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به عليهم ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم
فصل
ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا فذكر أن برهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه ولا ينقص وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدنى نسبة وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية وينقص ملكه بالمعصية وإذا أعطى الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي لرجاء المنفعة وخوف المضرة
فقال يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا با عيادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا إذ ملكه وهو قدرته على التصرف فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم وتنقص بقلة المطيعين لهم فإن ملكه متعلق بنفسه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وهو الذي يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير ويراد به نفس التدبير والتصرف ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير ويراد به ذلك كله
وبكل حال فليس بر الأبرار وفجور الفجار موجبا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه بل هو من مشيئته وقدرته يخلق ما يشاء فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك ولو شاء أن لا يخلق مع بر الأبرار شيئا مما خلقه لم يكن برهم محوجا له إلى ذلك ولا معينا له كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين
فصل
ثم ذكر حالهم في النوعين سؤال بره وطاعة أمره الذين ذكرهما في الحديث حيث ذكر الاستهداء والاستطعام والاستكساء وذكر الغفران والبر والفجور فقال: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر والخياط والمخيط ما يخاط به إذ الفعال والمفعل والفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها كالمسمار والخلاب والمنشار
فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا وهم في مكان واحد وزمان واحد فأعطى كل إنسان منهم مسألته لم ينقصه ذلك مما عنده إلا كما ينقص الخياط وهي الإبرة إذا غمس في البحر
وقوله: لم ينقص مما عندي فيه قولان:
أحدهما: أنه يدل على أن عنده أمورا موجودة يعطيهم منها ما سألوه وعلى هذا فيقال لفظ النقص على حاله لأن الإعطاء من الكثير وإن كان قليلا فلا بد أن ينقصه شيئا ما ومن رواه: لم ينقص من ملكي يحمل على ما عنده كما في هذا اللفظ فإن قوله: مما عندي فيه تخصيص ليس هو في قوله: من ملكي
وقد يقال: المعطي إما أن يكون أعيانا قائمة بنفسها أو صفات قائمة بغيرها فأما الأعيان فقد تنقل من محل إلى محل فيظهر النقص في المحل الأول وأما الصفات فلا تنقل من محلها وإن وجد نظيرها في محل آخر كما يوجد نظير علم المعلم في قلب المتعلم من غير زوال علم المعلم وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى الثاني وعلى هذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئا وهي من المسؤول كالهدى
وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات أن لا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول كاللون الذي ينقص وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول كما دعا النبي ﷺ على حمى المدينة أن تنقل إلى مهيعة وهي الجحفة وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العرض الأول أو بوجود مثله من غير انتقال عينه؟ فيه للناس قولان:
إذ منهم من يجوز انتقال الأعراض بل من يجوز أن تجعل الأعراض أعيانا كما هو قول ضرار والنجار وأصحابهما كبرغوث وحفص الفرد
لكن إن قيل: هو بوجود مثله من غير انتقال عنه فذلك يكون مع استحالة العرض الأول وفنائه فيعدم عن ذلك المحل ويوجد مثله في المحل الثاني
والقول الثاني: أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسى والخضر الذي في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ [ وفيه أن الخضر قال لموسى لما وقع عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر فقال: يا موسى مانقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لايزول منه شيء بتعلم العباد وإنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ماعلق بمنقار العصفور إلى البحر ]
ومن هذا الباب كون العلم يورث كقوله: العلماء ورثة الأنبياء ومنه قوله: { وورث سليمان داود } ومنه توريث الكتاب أيضا كقوله: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } ومثل هذه العبارة من النقص ونحوه تستعمل في هذا وإن كان العلم الأول ثابتا كما قال سعيد بن المسيب لقتادة وقد أقام عنده أسبوعا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه وقال: نزفتني يا أعمى وإنزاف القليب ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقى فيه شيء ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يزل علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب
لكن قد يقال: التعليم إنما يكون بالكلام والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم كما قال تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } ويقال: قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض مايقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته
ومضمونه أنه في تلك السبع الليالى من كثرة ما أجابه وكلمه ففارقه أمور قامت به من حركات وأصوات بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفا
ومما يقوي هذا المعنى أن الإنسان وإن كان علمه في نفسه فليس هو أمرا لازما للنفس لزوم الألوان للمتلونات بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل وقد ينساه ثم يذكره فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخرى وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تكل النفس وتعيى حتى لا يقوى على استحضاره إلا بعد مدة فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالما بالفعل وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع ومن قال هذا يقول كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه
وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتاد في مثل ذلك وإن كان هو سبحانه منزها عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه أو على زوال علمه عنه لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم
وتحقيق الأمر أن المراد ما أخذ علمي وعلمك من علم الله وما نال علمي وعلمك من علم الله وما أحاط علمي وعلمك من علم الله كما قال: { لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر أي نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا وإن كان المشبه به جسما ينتقل من محل إلى محل ويزول عن المحل الأول وليس المشبه كذلك فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس كما قال ﷺ: [ إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ] فشبه الرؤية بالرؤية وهي وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي فكذلك هنا شبه النقص بالنقص وإن كان كل من الناقص والمنقوص منه المشبه ليس مثل الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبهه به ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث يقتبس منه كل أحد ويأخذون ما شاءوا من الشهب وهو باق بحاله
وهذا تمثيل مطابق فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارا من جنس تلك النار وإن كان قد يقال انها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم ولهذا قال علي رضي الله عنه: العلم يزكو على العمل أو قال: على التعليم والمال ينقصه النفقة
وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر: أن قوله: مما عندي وقوله: من ملكي هو من هذا الباب وحينئذ فله وجهان:
أحدهما: ان يكون ما أعطاهم خارجا عن مسمى ملكه ومسمى ما عنده كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسى والخضر
والثاني: أن يقال: بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده ولكن نسبت إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة
ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روى هذا الحديث من طريق عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر مرفوعا فيه: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغزر أبرة لو غمسها أحدكم في البحر وذلك إني جواد ماجد واجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون فذكر سبحانه أن عطاءه كلام وعذابه كلام يدل على أنه هو أراد بقوله: من ملكي ومما عندي أي من مقدوري فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم والله أعلم
ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر: لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر وهذا قد يقال فيه أنه استثناء منقطع أي لم ينقص من ملكي شيئا لكن يكون حاله حال هذه النسبة وقد يقال بل هو تام والمعنى على ما سبق
فصل
ثم ختمه بتحقيق ما بينه فيه من عدله وإحسانه فقال: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيتها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فبين أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانا يستحق به الحمد لأنه هو المنعم بالأمر بها وأشاد إليها والإعانة عليها ثم احصائها ثم توفية جزائها فكل ذلك فضل منه وإحسان إذ دل نعمة سنه فضل وكل نقمة منه عدل وهو وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة وكان حقا عليه نصر المؤمنين كما تقدم بيانه فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض الذي يكون عدلا لا فضلا لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض فاستحق المعاوضة وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه
ولهذا لم يكن المتعاوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئهما وهو قد بين في الحديث أن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق بل هو الذي أحق الحق على نفسه بكلماته فهو المحسن بالاحسان وبإحقاقه وكنايته على نفسه فهو في كتابة الرحمة على نفسه وإحقاقه نصر عباده المؤمنين ونحو ذلك محسن إحسانا مع إحسان
فليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتبين بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب فمن بين موجب على ربه بالمنع أن يكون محسنا متفضلا ومن بين مسو بين عدله وإحسانه وما تنزه عنه من الظلم والعدوان وجاعل الجميع نوعا واحدا وكل ذلك حيد عن سنن الصراط المستقيم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
وكما بين أنه محسن في الحسنات متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها بين أنه عادل في الجزاء على السيئات فقال: ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه كما تقدم بيانه في مثل قوله: { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم }
وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ أنه قال: [ سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك مااستطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] ففي قوله: أبوء لك بنعمتك علي اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها وقوله: وأبوء بذنبي إعتراف منه بأنه مذنب ظالم لنفسه وبهذا يصير العبد شكورا لربه مستغفرا لذنبه فيستوجب مزيد الخير وغفران الشر من الشكور الغفور الذي يشكر اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلل
وهنا انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر واعتذر بأن القدر سبق بذلك وأنه لا خروج له عن القدر فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه وأن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسرى وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به
وخير الأقسام وهو القسم المشروع وهو الحق الذي جاءت به الشريعة أنه إذا أحسن شكر نعمة الله عليه وحمده إذ أنعم عليه بأن جعله محسنا ولم يجعل مسيئا فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته وجميع حركاته وسكناته إلى ربه ولا حول ولا قوة إلا به فلو لم يهده لم يهتد كما قال أهل الجنة: { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق }
وإذا أساء اعترف بذنبه واستغفر ربه وتاب منه وكان كأبيه آدم الذي قال: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ولم يكن كإبليس الذي قال: { بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين } ولم يحتج بالقدر على ترك مأمور ولا فعل محظور مع إيمانه بالقدر خيره وشره وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ونحو ذلك
وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في هذا الحديث الصحيح: [ فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ] ولكن بسط ذلك وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار ليس هذا موضعها ومع هذا فقوله تعالى: { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعة والمعاصي كما يظنه كثير من الناس حتى يحرف بعضهم القرآن ويقرأ فمن نفسك
ومعلوم أن معنى هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة وحتى يضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له وهو قول الله الحق فيجعل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضى قولا للكفار يكذب به ويذم ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدعيه من غير أن يكون في السياق ما يدل عليه
ثم أن من جهل هؤلاء ظنهم أن في هذه الآية حجة للقدرية واحتجاج بعض القدرية بها وذلك أنه لا خلاف بين الناس في أن الطاعات والمعاصي سواء من جهة القدر فمن قال: ان العبد هو الموجد لفعله دون الله أو هو الخالق لفعله وأن الله لم يخلق أفعال العباد فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية ومن أثبت خلق الأفعال وأثبت الجبر أو نفاه أو أمسك عن نفيه وإثباته مطلقا وفصل المعنى أو لم يفصله فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية
فتبين أن إدخال هذه الآية في القدر في غاية الجهالة وذلك أن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها المسار والمضار دون الطاعات والمعاصي كما في قوله تعالى: { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } وهو الشر والخير في قوله: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } وكذلك قوله: { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وقوله تعالى: { ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني } وقوله تعالى: { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } وقوله تعالى: { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه }
فهذه حال فرعون وملئه مع موسى ومن معه كحال الكفار والمنافقين والظالمين مع محمد وأصحابه إذا أصابهم نعمة وخير قالوا: لنا هذه أو قالوا: هذه من عند الله وإن أصابهم عذاب وشر تطيروا بالنبي والمؤمنين وقالوا: هذه بذنوبهم وإنما هي بذنوب أنفسهم لا بذنوب المؤمنين
وهو سبحانه ذكر هذا في بيان حال الناكلين عن الجهاد الذين يلومون المؤمنين على الجهاد فإذا أصابهم نصر ونحوه قالوا هذا من عند الله وإن أصابتهم محنة قالوا هذه من عند الذي جاءنا بالأمر والنهي والجهاد قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } إلى قوله: { وإن منكم لمن ليبطئن } إلى قوله: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } إلى قوله: { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة } أي: هؤلاء المذمومين: { يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } أي سبب أمرك ونهيك قال الله تعالى: { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة } أي: من نعمة { فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } أي: فبذنبك كما قال: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } وقال: { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم }
وأما القسم الثالث في هذا الباب: فهم قوم لبسوا الحق بالباطل وهم بين أهل الإيمان أهل الخير وبين شرار الناس وهم الخائضون في القدر بالباطل فقوم يرون أنهم هم الذين يهدون أنفسهم ويضلونها ويوجبون لها فعل الطاعة وفعل المعصية بغير إعانة منه وتوفيق للطاعة ولا خذلان منه في المعصية وقوم لا يثبتون لأنفسهم فعلا ولا قدرة ولا أمرا
ثم من هؤلاء من ينحل عن الأمر والنهي فيكون أكفر الخلق وهم في احتجاجهم بالقدر متناقضون إذ لا بد من فعل يحبونه وفعل يبغضونه ولا بد لهم ولكل أحد من دفع الضرر الحاصل بأفعال المعتدين فإذا جعلوا الحسنات والسيئات سواسية لم يمكنهم أن يذموا أحدا ولا يدفعوا ظالما ولا يقابلوا مسيئا وأن ببيحوا للناس من أنفسهم كل ما يشتهيهه مشته ونحو ذلك من الأمور التي لا يعيش عليها بنو آدم إذ هم مضطرون إلى شرع فيه أمر ونهي أعضم من اضطرارهم إلى الأكل واللباس
وهذا باب واسع لشرحه موضع غير هذا وإنما نبهنا على ما في الحديث من الكلمات الجامعة والقواعد النافعة بنكت مختصرة تنبه الفاضل على ما في الحقائق من الجوامع والفوارق التي تفصل بين الحق والباضل في هذه المضايق بحسب ما احتملته أوراق السائل
والله ينفعنا وسائر إخواننا المؤمنين بما علمناه ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علما ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ منه إلا إليه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن واستغفر الله العظيم لي ولجميع إخواننا المؤمنين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
9 - 9 - مسألة: إن قال قائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين لم ينقل عن سيدنا محمد ﷺ فيها كلام أم لا؟
فإن قيل: بالجواز فما وجهه؟ وقد فهمنا منه عليه السلام النهي عن الكلام في بعض المسائل
وإذا قيل: بالجواز فهل يجب ذلك؟ وهل نقل عنه عليه السلام ما يقتضي وجوبه؟ وهل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد من الوصول إلى القطع؟ وإذا تعذر عليه الوصول إلى القطع فهل يعذر في ذلك أو يكون مكلفا به؟ وهل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحالة هذه أم لا؟ وإذا قيل بالوجب فما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان عليه السلام حريصا على هدي أمته؟ والله أعلم
الجواب: الحمد لله رب العالمين
أما المسألة الأولى فقول السائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين لم ينقل عن سيدنا محمد ﷺ فيها كلام أم لا؟
سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة فإن المسائل التي هي من أصول الدين التي تستحق أن تسمى أصول الدين أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه لايجوز أن يقال: لم ينقل عن النبي ﷺ فيها كلام بل هذا كلام متناقض في نفسه إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم الدين وأنها مما يحتاج إليه
ثم نفى نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج الدين إليها فلم يبينها أو أنه بينها فلم ينقلها الأمة وكلا هذين باطل قطعا وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ماجاء به الرسول أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم أو جاهل بهما جميعا فإن جهله بالأول يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه وجهله بالثاني يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات وإنما هي جهليات
وجهله بالأمرين يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة وأن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد من ذلك كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس حذاقهم فضلا عن عامتهم