الفتاوى الكبرى/كتاب الطهارة/11
الوجه الثاني: أخرج مسلم في صحيحه: أن رسول الله ﷺ سئل عن الخمر أيتداوى بها؟ فقال: [ إنها داء وليست بدواء ]
فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر ردا على من أباحه وسائر المحرمات مثلها قياسا خلافا لمن فرق بينهما فإن قياس المحرم من الطعام أشبه من الغراب بالغراب بل الخمر قد كانت مباحة في بعض أيام الإسلام وقد أباح بعض المسلمين من نوعها الشرب دون الاسكار والميتة والدم بخلاف ذلك
فإن قيل: الخمر قد أخبر النبي ﷺ أنها داء وليست بدواء فلا يجوز أن يقال: هي دواء بخلاف غيرها وأيضا ففي إباحة التداوي بها اجازة اصطناعها واعتصارها وذلك داع إلى شربها ولذلك اختصت بالحد فيها دون غيرها من المطاعم الخبيثة لقوة محبة الأنفس لها
فأقول: أما قولك: لا يجوز أن يقال هي دواء فهو حق وكذلك القول في سائر المحرمات على ما دل عليه الحديث الصحيح: [ إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام ]
ثم ماذا تريد بهذا أتريد أن الله لم يخلق فيها قوة طبيعية من السخونة وغيرها؟
جرت العادة في الكفار والفساق أنه يندفع فيها بعض الأدواء الباردة
كسائر القوى والطبائع التي أودعها جميع الأدوبة من الأجسام
أم تريد شيئا آخر فإن أردت الأول فهو باطل بالقضايا المجربة التي تواطأت عليها الأمم وجرت عند كثير من الناس مجرى الضروريات بل هو رد لما يشاهد ويعاين بل قد قيل أنه رد القرآن لقوله تعالى:
{ فيهما إثم كبير ومنافع للناس }
ولعل هذا في الخمر أظهر من جميع المقالات المعلومة من طيب الأبدان
وإن أردت أن النبي ﷺ أخبر أنها داء النفوس والقلوب والعقول وهي أم الخبائث والنفس والقلب هو الملك المطلوب صلاحه وكماله وإنما البدن آلة له وهو تابع له مطيع له طاعة الملائكة ربها فإذا صلح القلب صلح البدن كله وإذا فسد [ القلب فسد ] البدن كله
فالخمر هي داء ومرض للقلب مفسد له مضعضع لأفضل خواصه الذي هو العقل والعلم وإذا فسد القلب فسد البدن كله كما جاءت به السنة فتصير داء للبدن من هذا الوجه بواسطة كونها داء للقلب وكذلك جميع الأموال المغصوبة والمسروقة فإنه ربما صلح عليها البدن ونبت وسمن لكن يفسد عليها القلب فيفسد البدن بفساده
وأما المصلحة التي فيها فإنها منفعة للبدن فقط ونفعها متاع قليل فهي وإن أصلحت شيئا يسيرا فهي في جنب ما تفسده كلا إصلاح وهذا بعينه معنى قوله تعالى:
{ فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }
فهذا لعمري شأن جميع المحرمات فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة ما يربى على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة
على أنا وإن لم نعلم جهة المفسدة في المحرمات فإنا نقطع أن فيها من المفاسد ما يربى على ما نظنه من المصالح فافهم هذا فإن به يظهر فقه المسألة وسرها
وأما اقضاؤه إلى اعتصارها فليس بشيء لأنه يمكن أخذها من أهل الكتاب على أنه يحرم اعتصارها وإنما القول إذا كانت موجدة أن هذا منتقض بإطفاء الحرق بها ودفع الغصة إذا لم يوجد غيرها
وأما اختصاصها بالحد فإن الحسن البصري يوجب الحد في الميتة أيضا والدم ولحم الخنزير لكن الفرق أن في النفوس داعيا طبيعيا وباعثا إراديا إلى الخمر فنصب رادع شرعي وزاجر دنيوي أيضا ليتقابلا ويكون مدعاة إلى قلة شربها وليس كذلك غيرها مما ليس في النفوس إليه كثير ميل ولا عظيم طلب
الوجه الثالث: ما روى حسان بن مخارق قال: [ قالت أم سلمة: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز فدخل النبي ﷺ وهو يغلي فقال: ما هذا؟ فقلت إن بنتي اشتكت فنبذنا لها هذا فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام ]
رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وفي رواية: [ أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ] وصححه بعض الحفاظ وهذا الحديث نص في المسألة
الوجه الرابع: ما رواه أبو داود في السنن: أن رجلا وصف له ضفدع يجعلها في دواء [ فنهى النبي ﷺ عن قتل الضفدع وقال: إن نقنقتها تسبيح ]
فهذا حيوان محرم ولم يبح للتداوي وهو نص في المسألة ولعل تحريم الضفدع أخف من تحريم الخبائث غيرها فإنه أكثر ما قبل فيها أن نقنقتها تسبيح فما ظنك بالخنزير والميتة وغير ذلك
وهذا كله بين لك استخفافه بطلب الطب واقتضائه واجرائه مجرى الرفق بالمريض وتطييب قلبه [ ولهذا قال الصادق المصدوق لرجل قال له: أنا طبيب قال: أنت رفيق والله الطبيب ]
الوجه الخامس: ما روي أيضا في سننه: [ أن النبي ﷺ نهى عن الدواء الخبيث ] وهو نص جامع مانع وهو صورة الفتوى في المسألة
الوجه السادس: الحديث المرفوع: ما أبالي ما أتيت أو ما ركبت - إذا شربت ترياقا أو نطقت تميمة أو قلت الشعر من نفسي
مع ما روي من كراهة من كره الترياق من السلف إلى أنه لم يقابل ذلك نص عام ولا خاص يبلغ ذروة المطلب وسنام المقصد في هذا الموضع ولولا أني كتبت هذا من حفظي لاستقصيت القول على وجه يحيط بما دق وجل والله الهادي إلى سواء السبيل
الدليل الثالث: وهو في الحقيقة رابع: الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم وغيره من حديث جابر بن سمرة وغيره: [ أن رسول الله ﷺ سئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين ]
ووجه الحجة من وجهين:
أحدهما أنه أطلق الإذن بالصلاة ولم يشترط حائلا يقي من ملامستها والموضع موضع حاجة إلى البيان فلو احتاج لبينه وقد مضى تقرير هذا وهذا شبيه بقول الشافعي: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال فإنه ترك استفصال السائل أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها؟ مع ظهور الإحتمال ليس مع قيامه فقط وأطلق الأذن بل هذا أوكد من ذلك لأن الحاجة هنا إلى البيان أمس وأوكد
والوجه الثاني: أنها لو كانت نجسة كأرواث الأدميين لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف أو مكروهة كراهية شديدة لأنها مظنة الأخباث والأنجاس فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبا من ذلك فهو جمع بين المتنافيين المتضادين وحاشا الرسول ﷺ من ذلك
ويؤيد هذا ما روي: أن أبا موسى صلى في مبارك الغنم وأشار إلى البرية وقال: ههنا وثم سواء وهو الصاحب الفقيه العالم بالتنزيل الفاهم للتأويل سوى بين محل الأبعار وبين ما خلا عنها فكيف بجامع هذا القول بنجاستها؟
وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل فليست اختصت به دون البقر والغنم والظباء والخيل إذ لو كان السبب نجاسة البول لكان تفريقا بين المتماثلين وهو ممتنع يقينا
الدليل الرابع: وهو في الحقيقة سابع: ما ثبت واستفاض من [ أن رسول الله ﷺ طاف على راحلته وأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع بقاع الأرض وبركها حتى طاف بها أسبوعا وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة ]
ومعلوم أنه ليس مع الدواب من العقل ما تمتنع من تلويث المسجد المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود فلو كانت أبوالها نجسة لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك وإنما الحاجة دعت إليه ولهذا استنكر بعض من يرى تنجيسها إدخال الدواب المسجد الحرام وحسبك بقول بطلانا رده في وجه السنة التي لا ريب فيها
الدليل الخامس: وهو الثامن: [ ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: فأما ما أكل لحمه فلا باس ببوله ]
وهذا ترجمة المسألة إلا أن الحديث قد اختلف فيه قبولا وردا
فقال أبو بكر عبد العزيز: ثبت عن النبي ﷺ وقال غيره: هو موقوف على جابر فإن كان الأول فلا ريب فيه وإن كان الثاني فهو قول صاحب وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة أبي موسى الأشعري وغيره فينبني على أن قول الصحابة أولى من قول من بعدهم وأحق أن يتبع وأن علم أنه انتشر في سائرهم ولم ينكروه فصار إجماعا سكونيا
الدليل السادس: وهو التاسع: الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود: [ أن رسول الله ﷺ كان ساجدا عند الكعبة فأرسلت قريش عقبة بن أبي معيط إلى قوم قد نحروا جزورا لهم فجاء بفرثها وسلاها فوضعهما على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد ولم ينصرف حتى قضى صلاته ]
فهذا أيضا بين في أن ذلك الفرث والسلى لم يقطع الصلاة ولا يمكن حمله فيما أرى إلا على أحد وجوه ثلاثة
إما أن يقال هو منسوخ وأعني بالنسخ أن هذا الحكم مرتفع وإن لم يكن قد ثبت بخطاب لأنه كان بمكة وهذا ضعيف جدا لأن النسخ لا يصار إليه إلا بيقين وأما بالظن فلا يثبت النسخ وأيضا فأنا ماعلمنا أن اجتناب النجاسة كان غير واجب ثم صار واجبا لا سيما من يحتج على النجاسة بقوله تعالى: { وثيابك فطهر } وسورة المدثر في أول المنزل فيكون فرض التطهير من النجاسات على قول هؤلاء من أول الفرائض فهذا هذا
وإما أن يقال: هذا دليل على جواز حمل النجاسة في الصلاة وعامه من يخالف في هذه المسألة لا يقول بهذا القول فيلزمهم ترك الحديث ثم هذا قول ضعيف لخلافه الأحاديث الصحاح في دم الحيض وغيره من الأحاديث ثم أنهم لا أعلمهم يختلفون أنه مكروه وأن إعادة الصلاة منه أولى فهذا هذا
لم يبق إلا أن يقال: الفرث والسلى ليس بنجس وإنما هو طاهر لأنه فرث ما يؤكل لحمه وهذا هو الواجب إن شاء الله تعالى لكثرة القائلين به وظهور الدلائل عليه وبطول الوجهين الأولين يوجب تعين هذا
فإن قيل: ففيه السلى وقد يكون فيه دم
قلنا: يجوز أن يكون دما يسيرا بل الظاهر أنه يسير والدم اليسير معفو عن حمله في الصلاة
فإن قيل: فالسلى لحم من ذبيحة المشركين وذلك نجس وذلك باتفاق
قلنا: لا نسلم أنه قد كان حرم حينئذ ذبائح المشركين بل من البين أو المقطوع به أنها لم تكن حرمت حينئذ فإن الصحابة الذين أسلموا لم ينقل أنهم كانوا ينجسون ذبائح قومهم وكذلك النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه كان يجتنب إلا ما ذبح للأصنام أما ما ذبحه قومه في دورهم لم يكن يتجنبه ولو كان تحريم ذبائح المشركين قد وقع في صدر الإسلام لكان في ذلك من المشقة على النفر القليل الذين أسلموا مالا قبل لهم به فإن عامة أهل البلد مشركون وهم لا يمكنهم أن يأكلوا ويشربوا إلا من طعامهم وخبزهم وفي أوانيهم لقلته وضعفهم وفقرهم ثم الأصل عدم التحريم حينئذ فمن ادعاه احتاج إلى دليل
الدليل السابع: وهو العاشر: ما صح عن النبي ﷺ: [ أنه نهى عن الاستجمار بالعظم والبعر وقال: إنه زاد إخوانكم من الجن ]
وفي لفظ: قال: [ فسألوني الطعام لهم ولدوابهم فقلت: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي ﷺ: فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد أخوانكم من الجن ]
فوجه الدلالة أن النبي ﷺ نهى أن يستنجى بالعظم والبعر الذي هو زاد إخواننا من الجن وعلف دوابهم ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا ننجسه عليهم ولهذا استنبط الفقهاء من هذا أنه لا يجوز الاستنجاء بزاد الإنس
ثم أنه قد استفاض النهي في ذلك والتغليظ حتى قال: من تقلد وترا أو استنجي بعظم أو رجيع فإن محمدا منه بريء
ومعلوم أنه لو كان البعر في نفسه نجسا لم يكن الاستنجاء به ينجسه ولم يكن فرق بين البعر المستنجى به والبعر الذي لا يستنجى به وهذا جمع بين ما فرقت السنة بينه
ثم أن البعر لو كان نجسا لم يصلح أن يكون علفا لقوم مؤمنين فإنها تصير بذلك جلالة ولو جاز أن تصير جلالة لجاز أن تعلف رجيع الأنس ورجيع الدواب فلا فرق حينئذ ولأنه جعل الزاد لهم ما فضل عن الأنس ولدوابهم ما فضل عن دواب الأنس من البعر شرط في طعامهم كل عظم ذكر اسم الله عليه فلا بد أن يشرط في علف دوابهم نحو ذلك وهو الطهارة
وهذا يبين لك أن قوله في حديث ابن مسعود لما أتاه بحجرين وروثه فقال: إنها ركس
إنما كان لكونها روثة آدمي ونحوه على أنها قضية عين فيحتمل أن تكون روثة ما يؤكل لحمه وروثة ما لا يؤكل لحمه فلا يعم الصنفين ولا يجوز القطع بأنها مما يؤكل لحمه مع أن لفظ الركس لا يدل على النجاسة لأن الركس: هو المركوس أي المردود وهو معنى الرجيع ومعلوم أن الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال: إما لنجاسته وإما لكونه علف دواب إخواننا من الجن
الوجه الثامن: وهو الحادي عشر: أن هذه الأعيان لو كانت نجسة لبينه النبي ﷺ ولم يبينه فليست نجسة وذلك لأن هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها ومباشرتهم لكثير منها خصوصا الأمة التي بعث فيها رسول الله ﷺ فإن الإبل والغنم غالب أموالهم ولا يزالون يباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم مع كثرة الاحتفاء فيهم حتى أن عمر رضي الله عنه كان يأمر بذلك: تمعددوا واخشوشنوا وأمشوا حفاة وانتعلوا
ومحالب الألبان كثيرا ما يقع فيها من أبوالها وليس ابتلاؤهم بها بأقل من ولوغ الكلب في أوانيهم فلو كانت نجسة يجب غسل الثياب والأبدان والأواني منها وعدم مخالطته ويمنع من الصلاة مع ذلك ويجب تطهير الأرض مما فيه ذلك إذا صلى فيها والصلاة فيها تكثر في أسفارهم وفي مراح أغنامهم ويحرم شرب اللبن الذي يقع فيه بعرها وتغسل اليد إذا أصابها البول أو رطوبة البعر إلى غير ذلك من أحكام النجاسة لوجب أن يبين النبي ﷺ ذلك بيانا تحصل به معرفة الحكم ولو بين ذلك لنقل جميعه أو بعضه فإن الشريعة وعادة القوم توجب مثل ذلك فلما لم ينقل ذلك علم أنه لم يبين لهم نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها وعدم النهي عنه والتقرير دليل الإباحة
ومن وجه أن مثل هذا يجب بيانه بالخطاب ولا تحال الأمة فيه على الرأي لأنه من الأصول لا من الفروع ومن جهة أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه لا سيما إذا وصل بهذا الوجه
الوجه التاسع: وهو الثاني عشر: وهو أن الصحابة والتابعين وعامة السلف قد ابتلى الناس في أزمانهم بأضعاف ما ابتلوا في زمن النبي ﷺ ولا يشك عاقل في كثره وقوع الحوادث المتعلقة بهذه المسألة ثم المنقول عنهم أحد شيئين: إما القول بالطهارة أو عدم الحكم بالنجاسة مثل: ما ذكرناه عن أبي موسى وأنس وعبد الله ابن مغفل: أنه كان يصلي وعلى رجليه أثر السرقين
وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالعراق
وعن عبيد بن عمير قال: إن لي غنما تبعر في مسجدي وهذا قد عاين أكابر الصحابة بالحجاز
وعن إبراهيم النخعي: فيمن يصلي وقد أصابه السرقين قال: لا بأس
وعن أبي جعفر الباقر ونافع مولى ابن عمر: أصابت عمامته بول بعير فقالا جميعا: لا بأس
وسألهما جعفر الصادق وهو أشبه الدليل على أن ما روي عن ابن عمر في ذلك من الغسل أما ضعيف أو على سبيل الاستحباب والتنظيف فإن نافعا لا يكاد يخفي عليه طريقة ابن عمر في ذلك ولا يكاد يخالفه والمأثور عن السلف في ذلك كثير
وقد نقل عن بعضهم ألفاظ إن ثبتت فليست صريحة بنجاسة محل النزاع مثل ما روي عن الحسن أنه قال: البول كله يغسل
وقد روي عنه أنه قال: لا بأس بأبوال الغنم فعلم أنه أراد بول الإنسان الذكر والأنثى والكبير والصغير
وكذلك ما روي عن أبي الشعثاء أنه قال: الأبوال كلها أنجاس فلعله أراد ذلك إن ثبت عنه وقد ذكرنا عن ابن المنذر وغيره: أنه لم يعرف عن أحد من السلف القول بنجاستها
ومن المعلوم الذي لا شك فيه: أن هذا إجماع على عدم النجاسة بل مقتضاه أن التنجيس من الأقوال الحدثة فيكون مردودا بالأدلة الدالة على إبطال الحوادث لا سيما مقالة محدثة مخالفة لما عليه الصدر الأول
ومن المعلوم أن الأعيان الموجودة في زمانهم ومكانهم إذا أمسكوا عن تحريمها وتنجيسها مع الحاجة إلى بيان ذلك كان تحريمها وتنجيسها ممن بعدهم بمنزلة أن يمسكوا عن بيان أفعال يحتاج إلى بيان وجوبها لو كان ثابتا فيجيء من بعدهم فيوجبها ومتى قام المقتضى للتحريم أو الوجوب ولم يذكروا وجوبا ولا تحريما كان إجماعا منهم على عدم اعتقاد الوجوب والتحريم وهو المطلوب
وهذه الطريقة معتمدة في كثير من الأحكام وهي أصل عظيم ينبغي للفقيه أن يتأملها ولم يغفل عن غورها لكن لا يسلم إلا بعدم ظهور الخلاف في الصدر الأول فإن كان فيه خلاف محقق بطلت هذه الطريقة والحق أحق أن يتبع
الوجه العاشر: وهو الثالت عشر في الحقيقة: أنا نعلم يقينا أن الحبوب من الشعير والبيضاء والذرة ونحوها كانت تزرع في مزارع المدينة على عهد النبي ﷺ وأهل بيته ويعلم أن الدواب إذا داست فلا بد أن تروث وتبول ولو كان ذلك ينجس الحبوب لحرمت مطلقا أو لوجب تنجيسها
وقد أسلمت الحجاز واليمن ونجد وسائر جزائر العرب على عهد رسول الله ﷺ وبعث إليهم سعاته وعماله يأخذون عشور حبوبهم من الحنطة وغيرها وكانت سمراء الشام تجلب إلى المدينة فيأكل منها رسول الله ﷺ والمؤمنون على عهده وعامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر وزرع وكان يعطي المرأة من نسائه ثمانين وسق شعير من غلة خيبر وكل هذه تداس بالدواب التي تروث وتبول عليها فلو كانت تنجس بذلك لكان الواجب على أقل الأحوال تطهير الحب وغسله ومعلوم أنه ﷺ لم يفعل ذلك ولا فعل على عهده فعلم أنه ﷺ لم يحكم بنجاستها
ولا يقال: هو لم يتيقن أن ذلك الحب الذي أكله مما أصابه البول والأصل الطهارة لأنا نقول فصاحب الحب قد تيقن نجاسة بعض حبه واشتبه عليه الطاهر بالنجس فلا يحل له استعمال الجميع بل الواجب تطهير الجميع كما إذا علم نجاسة بعض البدن أو الثوب أو الأرض وخفي عليه مكان النجاسة غسل ما يتيقن به غسلها وهو لم يأمر بذلك
ثم اشتباه الطاهر بالنجس نوع من اشتباه الطعام الحلال بالحرام فكيف يباح أحدهما من غير تحر !؟ فإن القائل إما أن يقول: يحرم الجميع وإما أن يقول بالتحري فأما الأكل من أحدهما بلا تحر فلا أعرف أحدا جوزه وإنما يستمسك بالأصل مع تيقن النجاسة
ولا محيص عن هذا الدليل إلا إلى أحد الأمرين إما أن يقال بطهارة هذه الأبوال والأرواث أو أن يقال: عفى عنها في هذا الموضع للحاجة كا يعفى عن ريق الكلب في بدن الصيد على أحد الوجهين وكما يطهر محل الاستنجاء بالحجر في أحد الوجهين إلى غير ذلك من مواضع الحاجات
فيقال: الأصل فيما استحل جريانه على وفاق الأصل فمن ادعى أن استحلال هذا مخالف للدليل لأجل الحاجة فقد ادعى ما يخالف الأصل فلا يقبل منه إلا بحجة قوية وليس معه من الحجة ما يوجب أن يجعل هذا مخالفا للأصل ولا شك أنه لو قام دليل يوجب الحظر لأمكن أن يستثنى هذا الموضع
فأما ما ذكر من العموم الضعيف والقياس الضعيف فدلالة هذا الموضع على الطهارة المطلقة أقوى من دلالة تلك على النجاسة المطلقة على ما تبين عند التأمل على أن ثبوت طهارتها والعفو عنها في هذا الموضع أحد موارد الخلاف فيبقى إلحاق الباقي به بعدم القائل بالفرق
ومن جنس هذا: الوجه الحادي عشر: وهو الرابع عشر وهو إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم في كل عصر ومصر على دياس الحبوب من الحنطة وغيرها بالبقر ونحوها مع القطع ببولها وروثها على الحنطة ولم ينكر ذلك منكر ولم يغسل الحنطة لأجل هذا أحد ولا احترز عن شيء مما في البيادر لوصول البول إليه والعلم بهذا كله علم اضطراري ما أعلم عليه سؤالا ولا أعلم لمن يخالف هذا شبهة
وهذا العمل إلى زماننا متصل في جميع البلاد لكن لم نحتج بإجماع الأعصار التي ظهر فيها هذا الخلاف لئلا يقول المخالف: أنا أخالف في هذا وإنما احتججنا بالإجماع قبل ظهور الخلاف وهذا الإجماع من جنس الإجماع على كونهم كانوا يأكلون الحنطة ويلبسون الثياب ويسكنون البناء فإنا نتيقن أن الأرض كانت تزرع ونتيقن أنهم كانوا يأكلون ذلك الحب ويقرون على أكله وتيقن أن الحب لا يداس إلا بالدواب ونتيقن أن لا بد أن تبول على البيدر الذي يبقى أياما ويطول دياساها له وهذه كلها مقدمات يقينية
الوجه الثاني عشر: وهو الخامس عشر: أن الله تعالى قال: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود }
فأمر بتطهير بيته الذي هو المسجد الحرام وصح عنه ﷺ أنه أمر بتنظيف المساجد وقال:
[ جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا ]
وقال: [ الطواف بالبيت صلاة ]
ومعلوم قطعا أن الحمام لم يزل ملازما للمسجد الحرام لأمنه وعبادة بيت الله وأنه لايزال ذرقه ينزل في المسجد وفي المطاف والمصلى فلو كان نجسا لتنجس المسجد بذلك ولوجب تطهير المسجد منه إما بإبعاد الحمام أو بتطهير المسجد أو بتسقيف المسجد ولم تصح الصلاة في أفضل المساجد وأمها وسيدها لنجاسة أرضه وهذا كله مما يعلم فساده يقينا ولا بد من أحد قولين: إما طهارته مطلقا أو العفو عنه كما في الدليل قبله وقد بينا رجحان القول بالطهارة المطلقة
الدليل الثالث عشر: وهو في الحقيقة السادس عشر: مسلك التشبيه والتوجيه فنقول والله الهادي:
اعلم أن الفرق بين الحيوان المأكول وغير المأكول إنما فرق بينهما لافتراق حقيقتهما وقد سمى الله هذا طيبا وهذا خبيثا وأسباب التحريم: إما لقوة السبعية التي تكون في نفس البهيمة فأكلها يورث نبات أبداننا منها فتصير أخلاق الناس أخلاق السباع أو لما الله أعلم به وإما خبث مطعمها كما يأكل الجيف من الطير أو لأنها في نفسها مستخبثة كالحشرات فقد رأينا طيب المطعم يؤثر في الحل وخبثه يؤثر في الحرمة كما جاءت به السنة في لحوم الجلالة ولبنها وبيضها فإنه حرم الطيب لاغتدائه بالخبيث وكذلك النبات المسقى بالماء النجس والمسمد بالسرقين عند من يقول به وقد رأينا عدم الطعام يؤثر في طهارة البول أو خفة نجاسته مثل الصبي الذي لم يأكل الطعام
فهذا كله يبين أشياء: منها أن الأبوال قد يخفف شأنها بحسب المطعم كالصبي وقد ثبت أن المباحات لا تكون مطاعمها إلا طيبة فغير مستنكر أن تكون أبوالها طاهرة لذلك
ومنها أن المطعم إذا خبث وفسد حرم ما نبت منه من لحم ولبن وبيض: كالجلالة والزرع المسمد وكالطير الذي يأكل الجيف فإذا كان فساده يؤثر في تنجيس ما توجبه الطهارة والحل فغير مستنكر أن يكون طيبه وحله يؤثر في تطهير ما يكون في محل آخر نجسا محرما فإن الأرواث والأبوال مستحيلة مخلوقة في باطن البهيمة كغيرها من اللبن وغيره
يبين هذا ما يوجد في هذه الأرواث من مخالفتها غيرها من الأرواث في الخلق والريح واللون وغير ذلك من الصفات فيكون فرق ما بينها فرق ما بين اللبنين والمنبتين وبهذا يظهر خلافها للإنسان
يؤكد ذلك ما قد بيناه: من أن المسلمين من الزمن المتقدم وإلى اليوم في كل عصر ومصر ما زالوا يدوسون الزروع المأكولة بالبقر ويصيب الحب من أرواث البقر وأبوالها وما سمعنا أحدا من المسلمين غسل حبا ولو كان ذلك منجسا أو مستقذرا لأوشك أن ينهوا عنها وأن تنفر عنه نفوسهم نفورها عن بول الإنسان
ولو قيل: هذا إجماع عملي لكان حقا وكذلك ما زال يسقط في المحالب من أبعار الأنعام ولا يكاد أحد يحترز من ذلك ولذلك عفا عن ذلك بعض من يقول بالتنجيس على أن ضبط قانون كلي في الطاهر والنجس مطرد منعكس لم يتيسر وليس ذلك بالواجب علينا بعد علمنا بالأنواع الطاهرة والأنواع النجسة
فهذه إشارة لطيفة إلى مسالك الرأي في هذه المسألة وتمامه ما حضر في كتابة في هذا المجلس والله يقول الحق والله يهدي السبيل