الفتاوى الكبرى/كتاب الطهارة/14
63 - 78 - مسألة: في لمس النساء هل ينقض الوضوء أم لا؟
الجواب: الحمد لله أما نقض الوضوء بلمس النساء فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال طرفان ووسط:
أضعفها: أنه ينقض باللمس وإن لم يكن لشهوة إذا كان الملموس مظنة للشهوة وهو قول الشافعي تمسكا بقوله تعالى: { أو لامستم النساء } وفي القراءة الأخرى { أو لامستم }
القول الثاني: إن اللمس لا ينقض بحال وإن كان لشهوة كقول أبي حنيفة وغيره وكلا القولين يذكر رواية عن أحمد لكن ظاهر مذهبه كمذهب مالك والفقهاء السبعة: أن اللمس إن كان لشهوة نقض وإلا فلا وليس في المسألة قول متوجه إلا هذا القول أو الذي قبله
فأما تعليق النقض بمجرد اللمس فهذا خلاف الأصول وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار وليس مع قائله نصر ولا قياس فإن كان اللمس في قوله تعالى { أو لامستم النساء } إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قاله ابن عمر وغيره فقد علم أنه حيث ذكر ذلك في الكتاب والسنة فإنما يراد به ما كان لشهوة مثل قوله في آية الاعتكاف:
{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }
ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه بخلاف المباشرة لشهوة وكذلك المحرم الذي هو أشد ولو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه ولم يجب عليه به دم وكذلك قوله:
{ ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }
وقوله: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن }
فإنه لو مسها مسيسا خاليا من غير شهوة لم يجب به عدة ولا يستقر به مهر ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء بخلاف ما لو مس المرأة لشهوة ولم يخل بها ولم يطأها ففي استقرار المهر بذلك نزاع معروف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره
فمن زعم أن قوله: { أو لامستم النساء } يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن بل وعن لغة الناس في عرفهم فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجال والمرأة علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم
وأيضا فإنه لا يقول أن الحكم معلق بلمس النساء مطلقا بل بصنف من النساء وهو ما كان مظنة الشهوة فأما مس من لا يكون مظنة كذوات المحارم والصغيرة فلا ينقض بها فقد ترك ما ادعاه من الظاهر واشترط شوطا لا أصل له بنص ولا قياس فإن الأصول المنصوصة تفرق بين اللمس لشهوة واللمس لغير شهوة لا تفرق بين أن يكون الملموس مظنة الشهوة أو لا يكون
وهذا هو المس المؤثر في العبادات كلها كالإحرام والاعتكاف والصيام وغير ذلك وإذا كان هذا القول لا يدل عليه ظاهر اللفظ ولا القياس لم يكن له أصل في الشرع
وأما من علق النقض بالشهوة فالظاهر المعروف في مثل ذلك دليل له وقياس أصول الشريعة دليل
ومن لم يجعل اللمس ناقضا بحال فإنه يجعل اللمس إنما أريد به الجماع كما في قوله تعالى:
{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } ونظائره كثيرة
وفي السنن: [ أن النبي ﷺ قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ لكن تكلم فيه ]
وأيضا فمن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى ولا يزال الرجل يمس امرأته فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي ﷺ بينه لأمته ولكان مشهورا بين الصحابة ولم ينقل أحد أن أحدا من الصحابة كان يتوضا بمجرد ملاقاة يده لامرأته أو غيرها ولا نقل أحد في ذلك حديثا عن النبي ﷺ فعلم أن ذلك قول باطل والله أعلم
79 - 64 - مسألة: سئل شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله تعالى روحه ونور ضريحه: عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي وقعت فيه فأرة في بئر واحدة فهل بنجس بذلك أم لا؟
وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا؟ أفتونا مأجورين
الجواب: الحمد لله لا ينجس بذلك بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير لكن تلقى النجاسة وما حولها وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة من العلماء: كالزهري والبخاري صاحب الصحيح
وقد ذكر ذلك رواية عن مالك وهو أيضا مذهب أبي حنيفة فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة وفي إزالة النجاسة وهو رواية عن أحمد في الإزالة لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسا وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسا مع الكثرة وتنازعوا في القليل من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبيث إذا وقع في الطيب أفسده
ومنهم من قال: إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده كما لو انقلبت الخمرة خلا بغير قصد آدمي فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة لكن مذهبه في الماء معروف وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع ولا دليل على نجاسته في كتاب الله ولا سنة رسوله
وعمدة الذين نجسوه احتجاجهم بحديث رواه أبو داود وغيره: [ عن النبي ﷺ أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وإن كان مائعا فلا تقربوه ]
وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة فكيف والحديث ضعيف بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطا معروفا عند النقاد الجهابذة كما ذكره الترمذي عن البخاري
ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح فلم يحلم للعلة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال:
( باب: إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب )
فقال حدثنا عبدان قال: حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك - على يونس عن الزهري أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد الفأرة أو غيرها قال: [ بلغنا أن رسول الله ﷺ أمر بفأرة ماتت في سمن بما قرب منها فطرح ثم أكل ]
وفي حديث عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قال: [ سئل النبي ﷺ عن فأرة وقعث في سمن فقال: ألقوها وما حولها وكلوه ]
فذكر البخاري عن ابن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: ألقوها وما حولها وكلوه
ولم يقل النبي ﷺ إن كان مائعا فلا تقربوه بل هذا باطل فذكر البخاري رضى الله عنه هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روى في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه فإنه أجاب العموم في الجامد والذائب مستدلا بهذا الحديث بعينه لا سيما والسمن بالحجاز يكون ذائبا أكثر مما يكون جامدا
بل قيل إنه لا يكون بالحجاز جامدا بحال فإطلاق النبي ﷺ الجواب من غير تفصيل يوجب العموم إذ السؤال كالمعاد في الجواب فكأنه قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامدا ويكون ذائبا فأما إن كان وجود الجامد نادرا أو معدوما كان الحديث نصا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة فإنها تلقى وما حولها ويؤكل
وبذلك أجاب الزهري فإن مذهبه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره إلا بالتغير وقد ذكر البخاري في أوائل الصحيح التسوية بين الماء والمائعات وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة ودلائلها وكلام العلماء فيها في غير هذا الموضع كيف وفي نجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة وإتلاف الأموال العظيمة القدر ما لا تأتي بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها والله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث تنزيها لنا عن المضار وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شيئا من الطيبات كما حرم على أهل الكتاب بظلمهم طيبات أحلت لهم
ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور والله سبحانه أعلم
والحمد لله وحده وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا