الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/13
الوجه الرابع والستون: إنهم لم يذكروا في الجواب عما أخبر الله به عن نفسه من أن له كلمات ما له حقيقة فإنهم يقولون ليس لله كلام إلا معنى واحد لا يجوز عليه التعدد والله سبحانه قد أخبر أن له كلمات وأن البحار لو كانت مدادها والأشجار أقلامها لما نفدت تلك الكلمات وهذا صريح بأن لها من التعداد ما لا يأتي عليه إحصاء العباد فكيف يقال ليس له كلمتان فصاعدا
وأما قولهم التكثير للتفخيم كقوله { إنا نحن نزلنا الذكر } فيقال لهم إنما يستعمل في المواضع التي تصرح بأن المعنى بذلك اللفظ هو واحد والله سبحانه قد بين في غير موضع أنه واحد فإذا قال: { إنا نحن نزلنا الذكر } { إنا فتحنا } وقد علم المخاطبون أنه واحد علم أن ذلك لم يقتض أن ثم آلهة متعددة لكن قال بعض الناس صيغة الجمع في مثل هذا دلت على كثرة معاني أسمائه وهذا مناسب وأما الكلام فلم يذكر الله قط ولا قال أحد من المسلمين قبل ابن كلاب أن كلام الله ليس إلا معنى واحدا ولا خطر هذا بقلب أحد فكيف يقال إنه أراد بصيغة الجمع الواحد ولهذا لا يكاد يوجد هذا في صيغة التكلم في حق الله أو صيغة المخاطبة له كما قد قيل في قوله: { رب ارجعون } وأما تمثيلهم ذلك بقوله: { إن إبراهيم كان أمة } أي مثل أمة فليس كذلك بل الأمة كما فسره عبد الله بن مسعود وغيره هو معلم الخير وهو القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى به فأمة من الائتمام كقدوة من الاقتداء وليس هو مستعارا من الأمة الذين هم جيل وكذلك قوله: { ونضع الموازين القسط } وإنما هو ميزان واحد ليس كذلك بل الجمع مراد من هذا اللفظ إما لتعدد الآلات التي توزن بها أو لتعدد الأوزان وأما ما ذكروه من كثرته لكثرة المعاني التي دلت عليها العبارات عنه فهذا حق لكن إذا كانت العبارات دلت على معان كثيرة علم أن معاني العبارات لكلام الله كثيرة ليس هو معنى واحدا وهو المطلوب
الوجه الخامس والستون: إن القرآن صرح بإرادة العدد من لفظ الكلمات وبإرادة الواحد من لفظ كلمة كما في قوله تعالى: { ولولا كلمة سبقت من ربك } وقال: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } وقال: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } فبين أنها إذا كتبت بمياه البحر وأقلام الأشجار لا تنفي والنفاد الفراغ فعلم أنه يكتب بعضها ويبقى منها ما لم يكتب وهذا صريح في أنها من الكثرة إلى أن يكتب منها ما يكتب ويبقى ما يبقى فكيف يكون إنما أراد بلفظ الكلمات كلمة واحدة لا سيما ولفظ الشجر يعم كل ما قام على ساق صلب أو غير صلب كما قال النبي ﷺ: [ في الضالة ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها ]
الوجه السادس والستون: إنه قد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن أبي عروبة وأبان العطار عن قتادة عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن ]
فهذه التجزئة إما أن تعود إلى لفظ القرآن وإما أن تعود إلى معناه والأول باطل لأن حروف قل هو الله أحد ليست بقدر حروف ثلث القرآن بل هي أقل من عشر عشر العشر بكثير فعلم أنه أراد بالتجزئة المعنى وذلك يقتضي أن معنى حروف القرآن متجزئة وهم قد قالوا أن كلام الله واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير ولا يختلف ولو قيل إن التجزئة للحروف لكن لا يشترط فيها تماثل قدر الحروف بل يكون بالنظر إلى المعنى لكان ذلك حجة أيضا فإنه إذا كان التجزئة باعتبار المعنى علم أن المعنى الذي دلت عليه هذه الحروف ليس هو معاني بقية القرآن
وروى الترمذي وغيره عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة أبي أيوب عن أبي أيوب قال قال رسول الله ﷺ: [ أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن من قرأ قل هو الله أحد الله الصمد فقد قرأ ثلث القرآن ] قال الترمذي هذا حديث حسن فقد أخبر أنها ثلث القرآن
فإن قيل: الحديث المتقدم قد رواه مسلم أيضا بلفظ آخر أنه قال: [ أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن قالوا وكيف نقرأ ثلث القرآن قال: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ] فقوله تعدل ثلث القرآن يبين أنها في نفسها ليست ثلثه ولكن تعدل ثلثه أي في الثواب
قلنا: لا منافاة بين اللفظين فإنها ثلثه باعتبار المعنى وهي تعدل ثلثه باعتبار الحروف أو هي بلفظها ومعناها ثلثه فتعدل ثلثه لأن ذلك اللفظ صريح في معناه وحيث قال [ جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا من تلك الأجزاء ] فأخبر أن القرآن تجزأ ثلاثة أجزاء وإنما هي جزء من تلك الأجزاء وهذا لا يصلح أن يراد به مجرد الثواب دون السورة ولهذا كان النبي ﷺ يجمع بين اللفظين كما في الحديث الذي رواه أبو حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: [ احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد ثم خرج نبي الله ﷺ فقرأ قل هو الله أحد ثم دخل فقال بعضنا لبعض قال رسول الله ﷺ سأقرأ عليكم وإني لأرى هذا خبرا جاءه من السماء ثم خرج نبي الله ﷺ فقال إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا وإنها تعدل ثلث القرآن ]
قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه والذي يبين أن قوله تعدل يدخل فيه حروفها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن قتادة بن النعمان أن رجلا قام في زمن النبي ﷺ يقرأ من السحر قل هو الله أحد لا يزيد عليها فلما أصبح أتى النبي ﷺ فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال النبي: [ والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ] وهذه أيضا من حديث أبي سعيد رواه البخاري من حديث أبي سعيد نفسه وكذلك رواه أبو داود والنسائي
الوجه السابع والستون: إنه قد احتج بعض متأخريهم على إمكان أن يكون كلامه واحدا بما ذكره الملقب عندهم بالإمام فخر الدين أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي فقال: لما كان الباري سبحانه عالما بالعلم الواحد بجملة المعلومات غير المتناهية فلم لا يجوز أن يكون مخبرا بالخبر الواحد عن المخبرات غير المتناهية ولنضرب لذلك مثالا لهذا الكلام وهو أن رجلا إذا قال لأحد غلمانه إذا قلت اضرب فاضرب فلانا ويقول للثاني إذا قلت أضرب فلا تتكلم مع فلان ويقول للثالث إذا اضرب فاستخبر عن فلان ويقول للرابع إذا قلت اضرب فأخبرني عن الأمر الفلاني ثم إذا حضر الغلمان بين يديه ثم يقول لهم اضرب فهذا الكلام الواحد في حق أحدهم أمر وفي حق الثاني نهي وفي حق الثالث خبر وفي حق الرابع استخبار وإذا كان اللفظ الواحد بالنسبة إلى أربعة أشخاص أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا فأي استعباد في أن يكون كلام الحق سبحانه كذلك فثبت أنه سبحانه متكلم بكلام واحد
فيقال لهؤلاء هذه الحجة بعينها التي اعتمدها إمام أتباعه أبو عبد الله الرازي هو أيضا قد رجع عن ذلك في أجل كتبه عنده وبين فسادها فقال في نهاية العقول من جهة أصحابه لا نسلم أن الشيء يستحيل أن يكون خبرا وظلبا وبيانه أن إنسانا لو قال لبعض عبيده متى قلت لك افعل فاعلم أني أطلب منك الفعل وقال للآخر متى قلت لك هذه الصيغة فاعلم أني أطلب منك الترك وقال للآخر متى قلت لك هذه الصيغة فأعلم أني أخبر عن كون العالم حادثا فإذا حضروا بأسرهم وخاطبهم دفعة واحدة بهذه الصيغة كانت تلك الصيغة الواحدة أمرا ونهيا وخبرا معا فإذا عقل ذلك في الشاهد فليعقل مثله في الغائب ثم قال وهذا ضعيف لأن قوله أفعل ليس في نفسه طلبا ولا خبرا بل هو صيغة موضوعة لإفادة معنى الطلب ومعنى الخبر ولا استحالة في جعل الشيء الواحد دليلا على حقائق مختلفة إنما الاستحالة في أن يكون الشيء حقائق مختلفة وكلامنا إنما هو في نفس حقيقة الخبر وحقيقة الطلب
واستقصاء القول في ذلك مذكور في باب الأمر من كتاب المحصول في علم الأصول فهذا كلام المستدل بهذه الحجة في بيان فسادها وبطلانها وذلك كاف
الوجه الثامن والستون: أن يقال هذه الحجة من أفسد الحجج عند التأمل وذلك أن هذا المثل المضروب أكثر ما فيه جواز أن يكون اللفظ الواحد مشركا بين معاني أمر ونهي وخبر كما قد قيل في قول القائل ويل له أنه دعاء وخبر ولا ريب أن الصيغة الواحدة يراد بها الأمر تارة والخبر أخرى كقول القائل غفر الله لفلان ورحمه وأحسن إليه وأدخله الجنة وأجاره من النار ونعم عليه نعما عظيمة فإن هذا في الأصل خبر وهو كثير مستعمل في الدعاء الذي هو طلب وكذلك صيغة أفعل هي أمر في الأصل وقد تضمن معنى النهي والتهديد كما قد قيل في قوله: { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير }
ولكن هل يجوز أن يراد باللفظ الواحد المشترك بين معنيين إما الأمر والخبر أو الأمر والنهي أو غير ذلك كلا المعنيين على سبيل الجمع هذا فيه نزاع مشهور بين أهل الفقه والأصول وغيرهم والنزاع مشهور في مذهب أحمد والشافعي ومالك وغيرهم وبين المعتزلة بعضهم مع بعض وبين الأشعرية أيضا والرازي يختار أن ذلك لا يجوز موافقة لأبي الحسن البصري ولم يجعل المانع من ذلك أمرا يرجع إلى القصد فإن قصد المعنيين جائز ولكن المانع أمر يرجع إلى الوضع وهو أن أهل اللغة إنما وضعوه لهذا وهذه ولهذا وهذه فاستعماله فيها جميعا استعمال في غير ما وضع له
ولهذا كان المرجح قول المسوغين لأن استعماله فيهما غايته أن يكون استعمالا له في غير ما وضع له وذلك يسوغ بطريق المجاز ولا مانع لأهل اللغة من أن يستعملوا اللفظ في غير موضوعه بطريق المجاز على أن إطلاق القول بأن هذا استعمال له في غير موضوعه فيه نزاع كالطلاق القول في اللفظ العام المخصوص أنه استعمال له في غير موضوعه ومنه استعمال صيغة الأمر في الندب ونحو ذلك فإن طوائف من الناس يقولون بعض المعنى ليس هو غيره فلا يكون ذلك استعمالا له في غير موضعه ولا يجعلون اللفظ بذلك مجازا وهذا قول أئمة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الطيب وغيرهما واستعمال اللفظ المشترك في معنييه ضد استعمال العام في بعض معناه فإنه موضوع لهذا مفردا ولهذا مفردا فجمع بين معنييه ومثل هذا لا يقر مثل هؤلاء بأنه عين معناه إذ هو معناه مفردا ومعه غيره
وكما أن بعض الشيء ليس بغير له عندهم فلا يصير الشيء غيرا لنفسه بالزيادة عليه لا سيما إذا كان المزيد نظيره وليس المقصود هنا تكميل القول في هذه المسألة ولكن نبين حقيقة ما يحتج به هؤلاء فإن هذا المثل الذي ضربوه مضمونه أن يجعل اللفظ موضوعا لأمر ونهي وخبر ويقصد بالخطاب به إفهام كل معنى لمخاطب غير المخاطب الأول وهذا جائز في المعقول لكن ليس هذا مما ادعوه في الكلام بشيء وذلك أن النزاع ليس هو في أن اللفظ الواحد يدل على حقائق مختلفة فإن هذا لا ينازع فيه أحد ولا حاجة فيه إلى ضرب المثل بل دلالة الألفاظ الموضوعة على حقائق مختلفة كثير جدا وإن كان اللفظ خبرا أو أمرا لكن ويدل على حقائق مختلفة وإنما النزاع في المعاني المختلفة التي هي مدلول جميع الألفاظ التي أنزلها الله هل هو معنى واحد فالنزاع في المعاني المعقولة من الألفاظ وهي أمر الله بكذا وأمره بكذا أو نهيه عن كذا ونهيه عن كذا أو خبره بكذا وخبره بكذا هل هو شيء واحد والمعاني لا تتبع وضع واضع ومن العجب أن هؤلاء إذا احتجوا على أن الكلام هو معنى في النفس قالوا إن مدلول العبارات والإشارات لا يختلف باختلاف اللغات ولا بقصد الواضعين المتكلمين ثم يحتجون على أنه واحد بجواز أن يجعل الواضع اللفظ الواحد موضوعا لمعان متعددة وأين هذا من هذا فإن دلالة اللفظ على المعنى يتبع قصد المتكلم والإرادة فإنه بالقصد والإرادة كان هذا المعنى وهذا اللفظ يدل على هذا المعني لأن اللفظ صار كذلك بذاته أو بطبعه لكن تنازع الناس هل بين اللفظ والمعنى مناسبة لأجلها خصص الواضعون هذا اللفظ بهذا المعنى على قولين:
أصحهما أنه لا بد من المناسبة وليست موجبة بالطبع حتى يقال فذلك يختلف باختلاف الأمم بل هي مناسبة داعية والمناسبة تتنوع بتنوع الأمم كتنوع الأفعال الإرادية ولو قيل إنه بالطبع فطباع الأمم تختلف سواء في ذلك طبعهم الاختياري فتبين أن هذا المثل الذي ضربوه في غاية البعد عما قصدوه إذ ما ذكروه هو اللفظ الدال على معان وهذا لا نزاع فيه ومقصودهم أن المعاني التي هي في نفسها لكل معنى حقيقة هل هي في نفسها شيء واحد وذلك لا يكون بقصد واضع ولا إرادته ولا وضعه والإمكان هنا ليس هو إمكان أن يجعل هذا هذا بل المسؤول عنه الإمكان الذهني وهو أنه هل يمكن في العقل أن يكون المعنى المعقول من صيغ الأمر هو المعنى المعقول من صيغ الخبر وأن يكون نفس ما يقوم بالنفس من الأمر بهذا الخبر عنه هو بعينه ما يقوم بالنفس من الأمر بغيره والخبر عنه
الوجه التاسع والستون: أن يقال هو قال إذا كان الباري عالما بالعلم الواحد بجملة المعلومات غير المتناهية فلم لا يجوز أن يكون مخبرا بالخبر الواحد عن المخبرات غير المتناهيات
فيقال له: هب أن هذا ثبت في كون الخبر واحدا فلم قلت أنه يجب أن يكون خبره عن المخبرات غير المتناهية هو بعينه الأمر بالمأمورات والتكوين للمكونات غير المتناهية فهب أن الخبر يقاس بالعلم فهل يمكن أن يكون الخبر هو نفس الأمر؟
الوجه السبعون: إن الأصل الذي يقاس عليه وشبه به من الإمكان وهو العلم أصل غير مدلول عليه فمن أين لهم أن الباري ليس له إلا علم واحد لا يتبعض ولا يتعدد وهذا لم ينطق به كتاب ولا سنة ولا قاله إمام من أئمة المسلمين فضلا عن أن يكون ثابتا بإجماع ولا قام عليه دليل عقلي وقد قال الله في كتابه: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } فأخبر أنه يحاط ببعض علمه لا بكله وقال في كتابه: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم }
وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذه الآية وغيرها على أن القرآن من علم الله فجعلوه بعض علم الله فمن الذي يقول أن علم الله ليس له بعض ولا جزء
واعلم أنه ليس لهم في المسألة عمدة إلا ما اعتمد عليه إمام القوم القاضي أبو بكر بن الباقلاني فإنه اعتمد فيها إجماعا ادعاه وهو في غير موضع يدعى إجماعات لا حقيقة لها كدعواه إجماع السلف على صحة الصلاة في الدار المغضوبة بكونهم لم يأمروا الظلمة بالإعادة ولعله لا يقدر أن ينقل عن أربعة من السلف أنهم استفتوا في إعادة الظلمة ما صلوه في مكان مغصوب فأفتوهم بأجزاء الصلاة لكن أهل الكلام كثيروا الاحتجاج من المعقول والمنقول بالحجج الداحضة ولهذا كثر ذم السلف لهم قال أبو عبد الله الرازي لما تكلم على وحدة علم الله وقدرته
فقال: الفصل الأول: في وحدة علم الله وقدرته نقل إمام الحرمين في الشامل عن أبي سهل الصعلوكي منا أنه تعالى عالم بعلوم غير متناهية وذهب جمهور الأصحاب إلى أنه تعالى عالم بعلم واحد قادر بقدرة واحدة مريد بإرادة واحدة
قال: واعلم أن القاضي أبا بكر عول في هذه المس ألة على الإجماع فقال القائل قائلان قائل يقول الله تعالى عالم بالعلم قادر بالقدرة وقائل يقول ليس الله عالما بالعلم ولا قادرا بالقدرة وكل من قال بالقول الأول قال أنه عالم بعلم واحد قادر بقدرة واحدة فلو قلنا أنه سبحانه عالم بعلمين أو أكثر كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وأنه باطل
قال وأما الصعلوكي فهو مسبوق بهذا الإجماع فيكون حجة عليه قلت هذا الإجماع مركب من جنس الإجماع الذي احتج به الرازي على قدم المعنى الذي ادعوه أنه هو الكلام وليس في ذلك إجماع أصلا وإنما هو إجماع المعتزلة والأشعرية لو صح فكيف وقد حكى أبو خاتم التوحيدي عن الأشعري نفسه أنه كان يثبت علوما لا نهاية لها والسلف الذين أثبتوا علم الله وقدرته ليس مقصودهم بذلك ما يقصده هؤلاء من أنه لا بعض له بل قد صرحوا بأنه يعلم بعض علم الله ولا يعلم بعضه وكل من لم يوافقهم على ما ادعوه من نفي التبعيض الذي اختصوا بنفيه كالذين خالفوهم من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فإنهم يخالفوهم في ذلك وكذلك جماعة أهل الحديث والفقهاء والصوفية وهذا الذي اعتمده إمام الطائفة ولسانها القاضي أبو بكر من أنه لا يمكن إثبات وحدة العلم إلا بالإجماع الذي ادعاه يبين لك أنه ليس في العقل ما يمنع تعدد علمه وقدرته وكلامه وسائر صفاته وكذلك أقر بذلك أبو المعالي والرازي وغيرهم من حذاق القوم فإن كلام ابن فورك قد يشعر بأن العقل يوجب اتحاد ذلك وقد بينا فساد ذلك
الوجه الحادي والسبعون: إن إمامهم المتأخر وهو أبو عبد الله الرازي اعترف في أجل كتبه أن القول بكون الطلب هو الخبر باطل على القول بنفي الحال ونفي الحال هو مذهب الأشعري نفسه وتحقيقهم وإليه رجع أبو المعالي في آخر عمره
وأما على القول بثبوت الحال فتوقف في ذلك ولم يجزم بإمكانه ولا امتناعه وقد تقدم حكاية لفظه في ذلك وهذا اعتراف منه بأن هذا القول الذي قالوه ممتنع العقل عند محققيهم وهم نفاة الحال
وأما عند مثبتي الحال عندهم فلا نعلم أنه ممكن أو ممتنع وعلى التقديرين فلا نعلم أن ذلك ممكن فتبين أن لا حجة لهم على إمكان صحة ما ادعوه من أن كلام الله معنى واحد فضلا عن أن يكون ذلك هو الواقع إذ ليس كل ما أمكن في الدهن كان هو الواقع فإنه إذا جاز في العقل أن يكون الكلام صفة واحدة وجاز أن يكون صفات متعددة فلا بد من دليل يبين ثبوت أحدهما دون الآخر فكيف إذا قال الناس لهم أنه ممتنع لم يذكروا دليلا على إمكانه
الوجه الثاني والسبعون: إنا نبين أن هذا القول ممتنع على القول بثبوت الحال وعلى القول بنفيه أما على القول بنفيه فقد تقدم كلامه في ذلك وأما على القول بثبوته فإن الرازي إنما توقف لأنه قال وأما إن تكلمنا على القول بالحال فيجب أن ينظر في الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف بوجود واحد أم لا فإن قلنا بجواز ذلك فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة وإلا بطل القول بذلك قال وأنا إلى الآن لم يتضح لي فيه دليل لا نفيا ولا إثباتا فيقال لهذا هذه أغلوطة وذلك أنه هب أن وجود كل شيء زائد على حقيقته في الخارج وهب أنا سلمنا له ما شك فيه وهو اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد فهذا لا يثبت محل النزاع وذلك لأن هذا إنما يفيد أن تكون الحقائق المختلفة لها صفة واحدة فتكون الحقائق المختلفة موصوفة بصفة واحدة هي الحال التي هي الوجود وذلك لا يستلزم أن تكون الحقائق المختلفة شيئا واحدا وأن تكون الصفة الواحدة في نفسها حقائق مختلفة
وبهذا يتبين لك ضعف قوله فإن قلنا بجواز اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة وإلا بطل القول بذلك وإنما قلنا أن هذا ضعيف لأن اتصاف الحقائق المختلفة بوجود واحد غير كون الصفة الواحدة هي في نفسها حقائق مختلفة فإن الفرق بين كونها صفة لحقائق مختلفة وبين كونها في نفسها حقائق مختلفة أمر واضح بين وإنما يصح له ما قال لو ثبت أن الحقائق المختلفة تتصف بوجود واحد وأن ذلك الوجود الواحد الثابت في الخارج هو في نفسه حقائق مختلفة وهذا لا يقوله عاقل وهؤلاء يقولون أن نفس الطلب هو نفس الخبر فيجعلون الحقيقتين المختلفتين شيئا واحدا وذلك ممتنع
وإن قيل أن لهما وجودا واحدا زائدا على حقيقتهما فإن فساد كون الحقيقتين شيئا واحدا معلوم بالبديهة ومما يوضح هذا أن الحقائق المختلفة كالأعراض المختلفة وإن قيل أن وجودها زائد على حقيقتها وأنه يجوز أن يكون وجودها واحدا فلا يقول عاقل أنها في نفسها واحدة
الوجه الثالث والسبعون: أن يقال ما شك فيه يقطع فيه بالامتناع فيقال من الممتنع أن تكون الحقيقتان المختلفتان لهما وجود واحد قائم بهما كما يمتنع أن يكون لهما عرض واحد يقوم بهما وذلك لأن الحال الذي هو الوجود الذي يقال إنه قائم بالحقائق وأنه زائد على حقائقها تابع لتلك الحقائق فوجود كل حقيقة تابع لها لا يجوز أو يوجد بغيرها كما لا يوجد بغيرها سائر ما يقوم به من الأعراض وكما لا يجوز أن يكون العرض القائم بهذه الحقيقة هو بعينه العرض القائم بالحقيقة الأخرى المخالفة لها فالوجود الذي لهذه الحقيقة أولى أن لا يكون الوجود القائم بالحقيقة الأخرى بعينه وهذا ظاهر
الوجه الرابع والسبعون: إن هذا الذي شك فيه لو صح وجزم به لكان غايته أن يكون الكلام متعددا متحدا فيكون حقيقتين وهو واحد أما رفع التعدد عنه من كل وجه فلا يمكن لأن الوجود الواحد إذا كان صفة لحقيقتين وقيل إن الصفة تكون حقائق مختلفة فلا ريب أن ذلك يوجب كونها حقائق مختلفة وكونها شيئا واحدا وهؤلاء يمنعون أن يكون المعنى الواحد القائم بالنفس حقائق مختلفة فعلم أن قولهم معلوم الفساد على كل تقدير وهذا كله تنزل معهم على تقدير ثبوت الحال وأن وجود الشيء في الخارج زائد على حقائقها الموجودة وإلا فهذا القول من أفسد الأقوال وإنما ابتدعه بعض المعتزلة الذين يقولون المعدوم شيء في الخارج فالبناء عليه فاسد
الوجه الخامس والسبعون: إنه يقال هب أنه أمكن أن يكون الكلام معنى واحدا كما قلتم إنه يمكن أن يكون العلم واحدا فما الدليل على أنه ليس لله كلام إلا معنى واحدا وما الدليل على أنه يمتنع أن يكوم كلامه إلا معنى واحدا وقد اعترفوا بأنه لا دليل على ذلك كما قال الرازي بعد أن بين أنه إما ممتنع أو متوقف في إمكانه فقال وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن يعول فيه على الإجماع للحكاية التي ذكرها أبو إسحاق الاسفرائيني ولم نجد لهم نصا ولا يمكن أن يقال فيه دلالة عقلية فبقيت المسألة بلا دليل
الوجه السادس والسبعون: إن الجهمية كثيرا ما يزعمون أن أهل الإثبات يضاهون النصارى وهذا يقولونه تارة لإثباتهم الصفات وتارة لقولهم إن كلام الله أنزله وهو في القلوب والمصاحف والجهمية هم المضاهئون للنصارى فيما كفرهم الله به لا أهل الإثبات الذين ثبتهم الله بالقول الثابت
فأما الوجه الأول في إثبات الصفات فليس هذا موضعه وإنما الغرض الوجه الثاني الذي يختص بالكلام فإنهم تارة يقولون إذا قلتم أن كلام الله غير مخلوق فهو نظير قول النصارى أن المسيح كلمة الله وهو غير مخلوق وتارة يقولون إذا قلتم كلام الله في الصدور والمصاحف فقد قلتم بقول النصارى الذين يقولون أن الكلمة حلت في المسيح وتدرعته وهذا الوجه الذي يقوله من يزعم أن كلام الله ليس إلا معنى في النفس ومن يزعم أن الله لم ينزل إلى الأرض كلاما له في الحقيقة والغرض هنا الكلام على هؤلاء فيقال لهم: أما أنتم فضاهيتم النصارى في نفس ما هو ضلال مما خالفوه في صريح العقل وكفرهم الله بذلك بخلاف أهل الإثبات وذلك يتبين بما ذمه الله تعالى من مذهب النصارى فإنه سبحانه قال: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } وهذا المعنى وهو جعلهم ولدا لله وتنزيه الله نفسه عن ذلك مذكور في مواضع من القرآن كما ذكر قصة مريم ثم قال في آخرها: { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وقال: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }
وقال في موضع آخر: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } الآية فقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } الآيات
وقال تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } الآية
فقد ذكر كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة في آية ونهى أهل الكتاب عن ذلك في آية أخرى فهذان موضعان ذكر فيهما التثليث عنهم وفي موضعين ذكر كفرهم بقولهم إن الله هو المسيح بن مريم وأما ذكر الولد عنهم فكثير وأعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله عن النصارى هي قول الأصناف الثلاثة اليعقوبية وهم شرهم وهم السودان من الحبشة والقبط ثم الملكانية وهم أهل الشمال من الشام والروم ثم النسطورية وهم نشؤوا في دولة المسلمين من زمن المأمون وهم قليل فإن اليعقوبية تزعم أن اللاهوت والناسوت اتحدا وامتزجا كامتزاج الماء واللبن والخمر فهما جوهر واحد وأقنوم واحد وطبيعة واحدة فصار عين الناسوت عين اللاهوت وأن المطلوب هو عين اللاهوت والملكانية تزعم أنهما صارا جوهرا واحدا له أقنومان وقيل أقنوم واحد له جوهران والنسطورية يقولون هما جوهران أقنومان وإنما اتحدا في المشيئة وهذان قول من يقول بالاتحاد وأما القول بالحلول فمن المتكلمين كأبي المعالي من يذكر الخلاف في فرقهم الثلاث منهم من يقول بالاتحاد بالمسيح ومنهم من يقول بالحلول فيه فيقول هؤلاء من الطوائف الثلاثة ومنهم من يقول بالحلول وأن اللاهوت حل في الناسوت وقالوا هذا قول الأكثر منهم فهما جوهران وطبيعتان وأقنومان كالجسد والروح وأما من فسر ذلك بظهور اللاهوت في الناسوت فهذا ليس من هؤلاء
وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعا يقولون بالاتحاد والحلول لكن الاتحاد في المسيح والحلول في مريم فقالوا: اتفقت الطوائف النصارى على أن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام وذكروا اختلافا بينهم ثم قالوا وزعموا أن الجوهر هو الأب والأقانيم الحياة وهي روح القدس والعلم والقدرة وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى بن مريم وكان مسيحا عند الاتحاد لاهوتيا وناسوتيا حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن ثم ذكروا اليعقوبية والنسطورية والملكية قال الناقلون عنهم واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم عليها السلام فقالت طائفة منهم أن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه وقالت طائفة منهم أنها حلت في مريم من غير ممازجة وزعمت طائفة من النصارى أن اللاهوت مع الناسوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش ثم لا يبقى منه شيء إلا أثر فيه ثم ذكر هؤلاء عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون فقالوا قد اختلف قولهم في الاتحاد اتحادا متباينا فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت قبل جسد المسيح وهذا قول الأكثرين منهم وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج وقال قوم من اليعقوبية هو أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا فامتزجا كاختلاط الماء بالخمر والخمر باللبن وقال قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا ومحلا وقال قوم منهم الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة والطابع في المطبوع مثل الخاتم في الشمع وقال قوم منهم الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة كما نقول أن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة
وقال الملكية الاتحاد هو أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة فزعم بعض الناس أن الذين قالوا هو المسيح بن مريم الذين قالوا اتحدا حتى صارا شيئا واحدا والذين قالوا هما جوهر واحد له طبيعتان فيقولون هو ولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس والذين قالوا بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب قالوا ثالث ثلاثة وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء فإن الله أخبر أن النصارى يقولون أنه ثالث ثلاثة وأنهم يقولون إنه ابن الله وقال لهم لا تقولوا ثلاثة مع إخباره أن النصارى افترقوا وألقى بينهم العداوة والبغضاء بقوله: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة }
وقد ذكر المفسرون أن هذا إخبار بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك وقد أخبر سبحانه عقب قوله ثالث ثلاثة بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوه ولدا بقوله تعالى: { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } وذكر أيضا ما يقتضي أن قولهم إن الله هو المسيح بن مريم من الشرك فقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك وذلك لأنهم مع قولهم إن الله هو المسيح بن مريم فلا يخصونه بالمسيح بل يثبتون أن له وجودا وهو الأب ليس هو الكلمة التي في المسيح فإن عبادتهم إياه معه إشراك وذلك مضموم إلى قوله إنه هو وقولهم إنه ولده وقد نزه الله نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن نزه نفسه عن الشريك والولد كما في قوله تعالى: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } وقال تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا }
وقال تعالى: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } وأيضا فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر فإن الذين يقولون أنهما اتحدا وصارا شيئا واحدا يقولون أيضا إنما اتحد الكلمة التي هي الابن والذين يقولون هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون إن المسيح إله وإنه الله والذين يقولون إنه حل فيه يقولون حلت فيه الكلمة التي هي الابن وهي الله أيضا بوجه آخر كما سنذكره
وأيضا فقوله ثالث ثلاثة ليس المراد به الله واللاهوت الذي في المسيح وجسد المسيح فإن أحدا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين ويفصل الناسوت عن اللاهوت بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت وأيضا فقوله عن النصارى { ولا تقولوا ثلاثة } { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة }
قد قيل إن المراد به قول النصارى باسم الأب والابن والروح القدس إله واحد وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له الأقانيم الثلاثة التي يجعلونها ثلاثة جواهر وثلاثة أقانيم أي ثلاث صفات وخواص وقولهم إنه الله وابن الله هو الاتحاد والحلول فيكون على هذا تلك الآية على قولهم تثليث الأقانيم وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد فالقرآن على هذا القول رد في كل آية على صنف منهم والقول الثاني وهو الذي عليه أن المراد بذلك جعلهم للمسيح إلها ولأمة إلها مع الله كما ذكر ذلك في قوله: { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } إلى قوله: { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } الآية
ويدل على ذلك قوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فقوله تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } عقب قوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ابن مريم وأمه إلهين وهذا واضح على قول من حكى من النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم
وعلى هذا فتكون كل آية مما ذكره الله من الأقوال تعم جميع طوائفهم وتعم أيضا بتثليث الأقانيم وبالاتحاد والحلول فنعم أصنافهم وأصناف كفرهم ليس يختص كل آية بصنف كما قال من يزعم ذلك ولا تختص آية بتثليث الأقانيم وآية بالحلول والاتحاد بل هو سبحانه ذكر في كل آية كفرهم المشترك ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات وكل صفة تستلزم الأخرى: أنهم يقولون المسيح هو الله ويقولون هو ابن الله ويقولون إن الله ثالث ثلاثة حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله هذا بالاتحاد وهذه بالحلول وتبين بذلك إثبات ثلاث آلهة منفصلة غير الأقانيم
وهذا يتضمن جميع كفر النصارى وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاث أقانيم وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصا وتارة صفات وخواصا فيقولون: الوجود الذي هو الأب والابن الذي هو العلم وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم والقدرة عند متأخريهم فيقولون موجود حي عالم ناطق أو موجود عالم قادر لكن يقولون أيضا إن الكلمة التي هي الابن جوهر وروح القدس أيضا جوهر وأن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس وهذا مما لا نزاع فيه ومن هنا قالوا كلهم المسيح هو الله وقالوا كلهم هو ابن الله لأنه من حيث أن الأب والابن وروح القدس إله واحد وجوهر واحد وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله ومن حيث أن الأب جوهر والابن جوهر وروح القدس جوهر والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي هو الكلمة كان المسيح هو ابن الله عندهم
ولا ريب أن هذين القولين - وإن كان كل منهما متضمنا لكفرهم كما ذكره الله - فإنهما متناقضان إذ كونه هو يناقض كونه ابنه لكن النصارى يقولون هذا كلهم ويقولون هذا كلهم كما ذكر الله عنهم ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول عند كل من تصوره فإن هذه الأقانيم إذا كانت صفات أو خواصا وقدر أن الموصوف له بكل صفة اسم كما مثلوه بقولهم زيد الطبيب و زيد الحاسب و زيد الكاتب لكن لا يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر ولا أن بعض هذه الصفات يفارق بعضا فلا يتصور مفارقة بعضها بعضا ولا مفارقة شيء منها للموصوف حتى يقال المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات وهم لا يقولون ذلك أيضا بل هم متفقون على أن المتحد به جوهر قائم بنفسه فإن لم يكن جوهر إلا جوهر الأب كان جوهر الأب هو المتحد وإن كان جوهر الابن غيره فهما جوهران منفصلان وهم لا يقولون بذلك
والموصوف أيضا لا يفارق صفاته كما لا تفارقه فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة إذ العلم والحياة لا زمان للذات لا يتصور أن تفارقهما الذات ولا يفارقهما واحد منهما ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد ! ! وهو قولهم الواحد ثلاثة
وأما قول بعضهم: أحدي الذات ثلاثي الصفات فهم لا يكتفون بذلك كما تقدم - بل يقولون الثلاثة جواهر والمتحد بالمسيح واحد منها دون الآخر وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على قول يعقل فقد قال الباطل كقول المتكايسين منهم على هذا كما تقول: زيد طبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات وهم رجل واحد باعتبار الذات فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول بأن زيدا الطبيب فعل كذا أو اتحد بكذا أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب بل أي شيء فعله أو وصف به زيد الطبيب في هذا المثال فهو الموصوف به زيد الكاتب الحاسب
والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم إن المتحد هو الواحد فيجعلون المسيح هو الله لأنهم يقولون الموصوف اتحد به ويجعلونه هو ابن الله لأنهم يقولون إنما اتحد به هو الجوهر الذي هو الكلمة أو إنما اتحد به الكلمة دون الأب الذي هو الموجود ودون روح القدس وهما أيضا جوهران فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين وهو أفسد شيء في بداهة العقول وكل منهما كفر كما كفرهم الله
وأما قولهم: ثالث ثلاثة فإنهم مع ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم وهذا كفر آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد بالمسيح فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولا تاما والمقصود هنا التنبيه على مضاهاة الجهمية لهم دون تفصيل الكلام عليهم
والجهمية الغلاظ يضاهونهم مضاهاة عظيمة لكن المقصود هنا ذكر مضاهاة هؤلاء الذين يقولون: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب فيقال: أنتم قلتم الكلام معنى واحد لا ينقسم ولا يختلف وهذا المعنى الواحد هو بعينه أمر ونهي وخبر فجعلتم الواحد ثلاثة وجعلتم الواحد الذي لا اختلاف فيه ثلاث حقائق مختلفة وهذا مضاهاة قوية لقول النصارى: الرب إله واحد وهو مع ذلك ثلاثة جواهر فجعلوه واحدا وجعلوه ثلاثة !
ثم قلتم: هذا الكلام الذي هو واحد وهو أمر ونهي وخبر ينزل تارة فيكون أمرا وتارة فيكون خبرا وتارة فيكون نهيا وإذا نزل فكان أمرا لم يكن خبرا وإنما نزل فكان خبرا لم يكن أمرا فإنه إذا أنزله الله فكان آية الكرسي وهي خبر لم يكن آية الدين التي هي أمر وهذا لعله من أعظم المضاهاة كقول النصارى: إن الجوهر الواحد الذي هو ثلاثة جواهر ثلاثة أقانيم وإذا اتحد فإنما يكون كلمة وابنا لا يكون أبا ولا روح قدس فإن هؤلاء كما جعلوا الشيء الذي هو واحد يتحد ولا يتحد يتحد من جهة كونه كلمة ولا يتحد من جهة كونه وجودا أجعل أولئك الذي هو كلام واحد ينزل ولا ينزل ينزل من جهة كونه أمرا ولا ينزل من جهة كونه خبرا
وأيضا فإنهم ضاهوا النصارى في تحريف مسمى الكلمة والكلام فإن المسيح سمى كلة الله لأن الله خلقه بكلمته: { كن فيكون } كما يسمى متعلق الصفات بأسمائها فيسمى المقدور قدرة والمعلوم علما وما يرحم به رحمة والمأمور به أمرا وهذا كثير قد بسطناه في غير هذا الموضع لكن هذه الكلمة نادرة يجعلونها صفة لله ويقولون هي العلم وتارة يجعلونها جوهرا قائما بنفسه وهي المتحد بالمسيح وهؤلاء حرفوا مسمى الكلمة فزعموا أنه ليس إلا مجرد المعنى وأن ذلك المعنى ليس هو العلم ولا الإرادة ولا هو من جنس ذلك ولكن هو شيء واحد وهو حقائق مختلفة لكن ليس في غير المسلمين من يقول الكلام جوهر قائم بنفسه إلا ما يذكر عن النظام أنه قال: الكلام الذي هو الصوت جسم من الأجسام
وأيضا فهم في لفظ القرآن الذي هو حروفه واشتماله على المعنى لهم مضاهاة قوية بالنصارى في جسد المسيح الذي هو متدرع للاهوت فإن هؤلاء متفقون على أن حروف القرآن ليست من كلام الله بل هي مخلوقة كما أن النصارى متفقون على أن جسد المسيح لم يكن من اللاهوت بل هو مخلوق ثم يقولون: المعنى القديم لما أنزل بهذه الحروف المخلوقة فمنهم من يسمى الحروف كلام الله حقيقة كما يسمي المعنى كلام الله حقيقة ومنهم من يقول بل هي كلام الله مجازا كما أن النصارى منهم من يجعل جسد المسيح لاهوتا حقيقة لاتحاده باللاهوت واختلاطه به ومنهم من يقول: هو محل اللاهوت ووعاؤه
ثم النصارى تقول: هذا الجسد إنما عبد لكونه مظهر اللاهوت وإن لم يكن هو إياه ولكن صار هو إياه بطريق الاتحاد وهو محله بطريق الحلول فعظم كذلك
وهؤلاء يقولون: هذه الحروف ليست من كلام الله ولا يجوز أن يتكلم الله بها ولكن خلقها وأظهر بها المعنى القديم ودل بها عليه فاستحقت الإكرام والتحريم لذلك حيث يدخل في حكمه بحيث لا يفصل بينهما أو يفصل بأن يقال: هذا مظهر هذا دليله وجعلوا ما ليس هو كلام الله ولا تكلم الله به قط كلاما لله معظما تعظيم كلام الله كما جعلت النصارى الناسوت الذي ليس هو بإله قط ولا هو الكلمة إلها وكلمة وعظموه تعظيم الإله الذي هو كلمة الله عندهم
ومنها: أن النصارى على ما حكى عنهم المتكلمون كابن الباقلاني أو غيره ينفون الصفات ويقولون: إن الأقانيم التي هي الوجود والحياة والعلم هي خواص هي صفات نفسية للجوهر ليست صفات زائدة على الذات يقولون: إن الكلمة هي العلم ليست هي كلام الله فإن كلامه صفة فعل وهو مخلوق فقولهم في هذا كقول نفاة الصفات من الجهمية المعتزلة وغيرهم وهذا يكون قول بعضهم ممن خاطبهم متكلموا الجهمية من النسطوريين وغيرهم وممن تفلسف منهم على مذهب نفاة الصفات من المتفلسفة ونحو هؤلاء وإلا فلا ريب أن في النصارى مثبتة للصفات بل غالية في ذلك كما أن اليهود أيضا فيهم المثبتة والنفاة
والمقصود هنا أن تسميهم للعلم كلمة دون الكلام الذي هو الكلام ثم ذلك العلم ليس هو أمرا معقولا كما تعقل الصفات القائمة بالموصوف ضاهاهم في ذلك هؤلاء الذين يقولون: الكلام هو ذلك المعنى القائم بالنفس دون الكلام الذي هو الكلام ثم ذلك المعنى ليس هو المعقول من معاني الكلام فحرفوا اسم الكلام ومعناه كما حرفت النصارى اسم الكلمة ومعناها وهذا الذي ذكرته من مضاهاة هؤلاء النصارى من بعض الوجوه
[ وقد ] رأيت بعد ذلك الناس قد نبهوا على ذلك قال أبو الحسن بن الزاغوني: في مسألة وحدة الكلام دليل آخر يقال لهم: ما الفرق بينكم في قولكم إن الأمر والنهي إثنان وهما واحد والقول بذلك قول صحيح غير مناف للصحة والإمكان وبين من قال: إن الكلمة والناسوت واللاهوت ثلاثة واحد فإن هذا مما اتفقنا على قبحه شرعا وعقلا من جهة أن الكلمة غير الناسوت واللاهوت وكذلك الآخران صفة ومعنى كما أن الأمر يخالف النهي صفة ومعنى؟ قال: وهذا مما لا محيد لهم عنه ولا انفصال لهم منه إلا بزخارف عاطلة عن صحة لا يصلح مثلها أن يكون شبهة توقف معها
وقد قال ابن الزاغوني قبل ذلك: لو جاز أن يقال: إن عين الأمر هو النهي مع كون الأمر يخالف النهي في وصفه ومعناه فإن الأمر استدعاء الفعل والنهي استدعاء الترك وموضوع الأمر إنما يراد منه تحصيل ما يراد بطريق الوجوب أو الندب وموضوع النهي يراد منه مجانبة ما يكره إما بطريق التحريم أو الكراهة والتنزيه وما يدخل تحت الأمر يقتضي الصحة وما يدخل تحت النهي يقتضي الفساد إما بنفسه أو بدليل يتصل به أو ينفصل عنه وكذلك من المحال أن يقتضي النهي الصحة إما بنفسه أو بدليل يتصل به
ولو قال قائل: إن المنهى عنه نهى عنه لكونه محبوبا عند الناهي عنه والمأمور به أمر به لكونه مبغوضا عند الآمر به لكان هذا قولا باطلا يشهد العقل بفساده ويعرف جري العادة على خلافه وهذا يوجب أن يكون الأمر في نفسه وعينه غير النهي بنفسه وعينه ولو ادعى مدع أن ذلك مقطوع به غير مسوغ حصوله لكان ذلك جائزا ممكنا
قلت: ما ذكره من فساد هذا القول هو كما ذكره لكن يقال له ولمن وافقه: وأنتم أيضا قد قلتم في مقابلة هؤلاء ما هو في الفساد ظاهر كذلك قال ابن الزاغوني في مسألة الحروف والصوت قالوا: إذا قلتم إن القرآن صوت ندركه بأسماعنا والذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي إنما هو صوته الذي يحدث عنه وهو عرض وجد بعد عدمه وعدم بعد وجوده وهو مما يقوم به ويتقدر بقدر حركاته
فإن قلتم: هذا هو القديم فنقول لكم: هذا هو صوت الله فإن قلتم: نعم فهذا محال لأنا نعلمه ونتحققه صوت القارئ وإن قلتم: إنه صوت القارئ فقد أقررتم بأنه محدث وهو خلاف قولكم
قال: قلنا: قولكم إن الصوت الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي للقرآن إنما هو صوته الذي يحدث عنه على ما ذكرتم هو دعوى مسألة الخلاف بل نقول: إن هذا الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي هو الكلام القديم فلا نسلم لكم ما قلتم وما ذكرتموه من العدم والوجود بعد العدم والفناء بعد الوجود ليس الأمر كذلك بل نقول: إنه ظهر عند حركات التالي بالآية في محل قدرته فأما عدمه قبل وبعد فلا
أما قولكم: إنه يتعذر بحركاته فقد أسلفنا الجواب عنه
وأما سؤالكم لنا: هل هذا الذي نسمعه صوت الله تعالى؟ أم صوت الآدمي؟ فقد ذكر أصحابنا في هذا جوابين:
أحدهما: ما قلنا إنه ظهر عند حركات آلات الآدمي في محل قدرته من الأصوات فإنما هو القرآن الذي هو كلام الله وليس هو بالعبد ولا منه ولا هو مضاف إليه على طريق التولد والانفعال ونتائج العقل وإنما يضاف إلى الله تعالى بقدر ما توجبه الإضافة والذي توجبه الإضافة أن يكون قرآنا وكلاما لله
وقد اتفقنا أن القرآن الذي هو كلام الله قديم غير مخلوق فوجب لذلك أن نقول: إن ما يصل إلى السمع هو صوت الله تعالى لأنه لا فعل للعبد فيه وهو جواب حسن مبني على هذا الأصل الذي ثبت بالأدلة الجلية القاطعة
والجواب الثاني: أنهم قالوا: لما جرت العادة أن زيادة الأصوات تكثر عند كثرة الاعتمادات وقد يختلف الناس في الأداء فمنهم من يقول: القرآن على وجه لا زيادة فيه بل هو كاف في إيصاله إلى السمع على وجه فإن نقص لم يصل وإن زاد أكثر منه وصل عما يحتاج إليه إما في واقع رفع الصوت وإما في الأداء من المد والهمز والتشديد إلى غير ذلك من حلية التلاوة وتصفية الأداء بالقوة والتحسين فما لا غناء عنه في تحصيل الاستماع وتكملة الفهم فذلك هو القديم وما قارنه مما اقتضى الزيادة في ذلك مما لو أسقط لما أثر في شيء مما يحتاج إليه من الاستماع والفهم فذلك مضاف إلى العبد
فهذا يبين أنه اقترن القديم بالمحدث على وجه يعسر تمييزه إلا بعد التلفظ والتأني في التدبر ليصل بذلك إلى مقام الفهم والتبيين لما ذكرناه وهو عند الوصول إليه يمضي العقل بتحصبل مطلوبه
قلت: دعوى أن هذا الصوت المسموع من العبد أو بعضه هو صوت الله أو هو قديم بدعة منكرة مخالفة لضرورة العقل لم يقلها أحد من أئمة الدين بل أنكرها أئمة المسلمين من أصحاب الإمام أحمد وغيره وإنما قال ذلك شرذمة قليلة من الطوائف
وهي أقبح وأنكر من قول الذين قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق فإن أولئك لم يقولوا صوتنا ولا قالوا قديم ومع هذا فقد اشتد نكير الإمام أحمد عليهم وتبديعه لهم وقد صنف الإمام أبو بكر المروزي صاحبه في ذلك مصنفا جمع فيه مقالات علماء الوقت من أهل الحديث والسنة من أصحاب أحمد وغيرهم على إنكار ذلك وقد ذكر ذلك أبو بكر الخلال في كتاب السنة وهذا الذي ذكره ابن الزاغوني عن أصحابه إنما هم أتباع القاضي أبي يعلى في ذلك فإن هذا تصرف القاضي والله يغفر له
وقد كان ابن حامد يقول: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق على ما ذكر عنه والقاضي أنكر هذا كما ثبت إنكاره عن أحمد وذهب في إنكار ذلك إلى ما ذهب إليه الأشعري وابن الباقلاني وغيرهما أنهم كرهوا أن يقال لفظت بالقرآن وأن القرآن لا يلفظ قالوا: لأن القديم لا يلفظ إذ اللفظ هو الطرح والرمي ولكن يتلى أو يقرأ فإن الأشعري لما ذكر في مقالة أهل السنة أنهم منعوا أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق وكان هو وأئمة أصحابه منتسبين إلى الإمام أحمد خصوصا وإلى غيره من أهل الحديث عموما في السنة والإنكار على الطائفتين كما اشتهر عن الإمام أحمد وطائفة من الأئمة في زمانه وافقوه على ذلك وفسروه بكراهة لفظ القرآن ووافقهم القاضي أبو يعلى في ذلك
ثم إن القاضي وأتباعه يقولون: أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق وأولئك يقولون: أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق مع دعوى الطائفتين أتباع أحمد
وقد صنف الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر المشهور وكان في عصر أبي الحسن الزاغوني الفقيه وفي بلده مصنفا يتضمن إنكار قول من يقول: إن المسموع صوت الله وأبطل ذلك بوجود متعددة وكان ما قام به في ذلك المكان والزمان قياما لغرض رد هذه البدعة وإنكارها وهو من أعيان أصحاب أحمد وعلمائهم ومن أعلم علماء وقته بالحديث والآثار