الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/15
ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والثوري والليث وغيرهم فلو تأمل أبو المعالي وذويه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه ما يخصمهم ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية ولعله لم يطالع الموطأ بحال حتى يعلم ما فيه فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي وأمثال هذه السنن علم أصلا فكيف بالموطأ ونحوه؟ وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني وأبو الحسن مع إتمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الباب يورث جهلا عظيما بأصول الإسلام واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد في البسملة وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره
ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه كيف يكون حالهم في غير هذا؟ وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماما في مسألة واحدة من مسائل الفروع فكيف يتخذ إماما في أصول الدين مع العلم بأنه إنما نيل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعه أو بحث تفطن له فلا يجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه؟ !
وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلام الذي نصت عليه الأئمة ولهذا روى عنه ابن طاهر أنه قال وقت الموت: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يدركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا أموت على عقيدة أمي أو عقائد عجائز نيسابور
قال أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور فأقعد فقال لنا: اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السالف الصالح عليهم السلام وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور
وعامة المتأخرين من أهل الكلام سلكوا خلفه من تلامذته وتلامذة تلامذته وتلامذة تلامذة تلامذته ومن بعدهم
ولقلة علمه بالكتاب والسنة وكلام سلف الأمة يظن أن أكثر الحوادث ليست في الكتاب والسنة والإجماع ما يدل عليها وإنما يعلم حكمها بالقياس كما يذكر ذلك في كتبه ومن كان له علم بالنصوص ودلالتها على الأحكام علم أن قول أبي محمد بن حزم وأمثاله: إن النصوص تستوعب جميع الحوادث أقرب إلى الصواب من هذا القول وإن كان في طريقة هؤلاء من الإعراض عن بعض الأدلة الشرعية ما قد يسمى قياسا جليا وقد يجعل من دلالة مثل فحوى الخطاب والقياس في معنى الأصل وغير ذلك ومثل الجمود على الاستصحاب الضعيف ومثل الإعراض عن متابعة أئمة من الصحابة ومن بعدهم ما هو معيب عليهم وكذلك القدح في أعراض الأئمة لكن الغرض أن قول هؤلاء في استيعاب النصوص للحوادث وأن الله ورسوله قد بين للناس دينهم هو أقرب إلى العلم والإيمان الذي هو الحق ممن يقول إن الله لم يبين للناس حكم أكثر ما يحدث لهم من الأعمال بل وكلهم فيها إلى الظنون المتقابلة والآراء المتعارضة
ولا ريب أن سبب هذا كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد ولكن اتبع أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس الذي ينقض صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقا لذلك وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره فليس الفضل بكثرة الاجتهاد ولكن بالهدى والسداد كما جاء في الأثر: ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا وقد قال النبي ﷺ في الخوارج: [ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ]
ويوجد لأهل البدع من أهل القبلة لكثير من الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم من الاجتهاد ما لا يوجد لأهل السنة في العلم والعمل وكذلك لكثير من أهل الكتاب والمشركين لكن إنما يراد الحسن من ذلك كما قال الفضل بن عياض في قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال: أخلصه وأصوبه فقيل له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
وأما الشافعي رضي الله عنه فقد روى الأحاديث التي تتعلق بغرض كتابه مثل حديث النزول وحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي فيه قول رسول الله ﷺ للجارية: [ أين الله؟ قالت: في السماء قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة ] وقد رواه مسلم في صحيحه بل روى في كتابه الكبير الذي اختصر منه مسنده من الحديث ما هو من أبلغ أحاديث الصفات ورواه بإسناد فيه ضعف فقال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول: أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: ما هذه؟ قال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد قال النبي ﷺ: يا جبريل وما يوم المزيد؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز وجل ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ويجلس من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله عز وجل لهم أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك فيقول: قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من خير وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة
وأما ما رواه الثوري والليث بن سعد وابن جريج والأوزاعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم من هذه الأحاديث فلا يحصيه إلا الله بل هؤلاء مدار هذه الأحاديث من جهتهم أخذت وحماد بن سلمة الذي قال إن مالكا احتذى موطأه على كتابه هو قد جمع أحاديث الصفات لما أظهرت الجهمية إنكارها حتى أن حديث خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن قد رواه هؤلاء الأئمة رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد ومن طريقه رواه مسلم في صحيحه ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي ﷺ مرسلا ولفظه: [ خلق آدم على صورة الرحمن ] مع أن الأعمش رواه مسندا
فإذا كان الأئمة يروون مثل هذا الحديث وأمثاله مرسلا فكيف يقال إنهم كانوا يمتنعون عن روايتها والحديث هو في الصحيحين من حديث معمر عن همام بن أبي هريرة وفي صحيح مسلم من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة
وقد روى عن ابن القاسم قال: سألت مالكا عن من يحدث الحديث [ إن الله خلق آدم على صورته ] والحديث [ إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة ] وأنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراده فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد
قلت: هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك فيقال: إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك أن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وقد كان مالك يترك رواية أحاديث كثيرة لكونه لا يأخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب فغاية ما يعتذر لمالك أن يقال إنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود على من قاله فقد حدث بهذه الأحاديث من هم أجل من مالك عند نفسه وعند المسلمين كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن عباس وعطاء بن أبي رباح وقد حدث بها نظراؤه كسفيان الثوري والليث بن سعد وابن عيينة والثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظه له وهو أقل غلطا فيه من مالك وإن كان مالك ينقي من يحدث عنه وأما الليث فقد قال فيه الشافعي: كان أفقه من مالك إلا أن أصحابه ضيعوه
ففي الجملة: هذا كلام في حديث مخصوص أما أن يقال إن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم
العاشر: إن هؤلاء الذين سماهم وسائر أئمة الإسلام كانوا كلهم مثبتين لموجب الآيات والأحاديث الواردة في الصفات مطبقين على ذم الكلام الذي بنى عليه أبو المعالي أصول دينه وزعم أنه أول ما أوجبه الله على العبد بعد البلوغ وهو ما استدل به على حدوث الأجسام بقيام الأعراض بها حتى أن شيخه أبا الحسن الأشعري ذكر اتفاق الأنبياء وأتباعهم وسلف هذه الأمة على تحريم هذه الطريقة التي ذكر أبو المعالي أنها أصل الإيمان وبها وبنحوها عارض هذه الأحاديث وقد كتبنا كلام الأشعري وغيره في ذلك في كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية
لما استدل الرازي بالحركة على حدوث ما قامت به إثبات حجته الدالة على نفي التحيز عندهم ولكن علمه بحالهم كعلمه بمذهبه في آيات الصفات وأحاديث الصفات حيث اعتقد أن مذهبهم إمرار حروفها مع نفي دلالتها على ما دلت عليه من الصفات فهذا الضلال في معرفة رأيهم كذلك الضلال في معرفة روايتهم وقولهم في شيئين: في الكلام الذي كان ينتحله وفي النصوص الواردة عن الرسول فقد حرفوا مذهب الأئمة في هذه الأصول الثلاثة كما حرفوا نصوص الكتاب والسنة
الحادي عشر: إن الذي أوجب لهم جمع هذه الأحاديث وتبويبها ما أحدثت الجهمية من التكذيب بموجبها وتعطيل صفات الرب المستلزمة لتعطيل ذاته وتكذيب رسوله والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان وما صنفوه في ذلك من الكتب وبوبوه أبوابا مبتدعة يردون بها ما أنزله الله على رسوله ويخالفون بها صرائح المعقول وصحائح المنقول وقد أوجب الله تعالى تبليغ ما بعث به رسله وأمر ببيان العلم وذلك يكون بالمخاطبة تارة وبالمكاتبة أخرى فإذا كان المبتدعون قد وضعوا الإلحاد في كتب فإن لم يكتب العلم الذي بعث الله به رسوله في كتب لم يظهر إلحاد ذلك ولم يحصل تمام البيان والتبليغ ولم يعلم كثير من الناس ما بعث الله به رسوله من العلم والإيمان المخالف لأقوال الملحدين المحرفين وكان جمع ما ذكره النبي ﷺ وأخبر به عن ربه أهم من جمع غيره
الثاني عشر: إن أبا المعالي وأمثاله يضعون كتب الكلام الذي تلقوا أصوله عن المعتزلة والمتفلسفة ويبوبون أبوابا ما أنزل الله بها من سلطان ويتكلمون فيها بما يخالف الشرع والعقل فكيف ينكرون على من يصنف ويؤلف ما قاله رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعون لهم بإحسان؟
والأصول التي يقررها هي أصول جهم بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء وقد ظهر ذلك في أتباعه كالمدعي المغربي في مرشدته وغيره فإن هؤلاء في القدر يقولون بقول جهم أي يميلون إلى الجبر وفي الإرجاء بقول جهم أيضا لأن الإيمان هو المعرفة وأما في الصفات فهم يخالفون جهما والمعتزلة فهم يثبتون الصفات في الجملة لكن جهم والمعتزلة حقيقة قولهم نفي الذات والصفات وإن لم يقصدوا ذلك ولم يعتقدوه وهؤلاء حقيقة قولهم إثبات صفات بلا ذات وإن لم يعتقدوا ذلك ويقصدوه ولهذا هم متناقضون لكن هم خير من المعتزلة ولهذا إذا حقق قولهم لأهل الفطر السليمة يقول أحدهم فيكون الله شبحا وشبحه خيال الجسم مثل ما يكون من ظله على الأرض وذلك هو عرض فيعلمون أن من وصف الرب بهذه الأسلوب مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه ونحوه فلا يكون الله على قوله شيئا قائما بنفسه موجودا بل يكون كالخيال الذي يشبحه الذهن من غير أن يكون ذلك الخيال قائما بنفسه
ولا ريب أن هذا حقيقة قول هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينزهون الرب بنفي الجسم وما يتبع ذلك ثم أنهم مع هذا النفي إذا نفوا الجسم وملازيمه وقالوا لا داخل العالم ولا خارجه فيعلم أهل العقول أنهم لم يثبتوا شيئا قائما بنفسه موجودا بل يقال هذا الذي أثبتموه شبح أي خيال كالخيال الذي هو ظل الأشخاص وكالخيال الذي في المرآة والماء
ثم من المعلوم أن هذا الخيال والمثال والشبح يستلزم حقيقة موجودة قائمة بالنفس فإن خيال الشخص يستلزم وجوده وكذلك قول هؤلاء فإنهم يقرون بوجود مدبر خالق للعالم موصوف بأنه عليم قدير ويصفونه من السلب بما يوجب أن يكون خيالا فيكون قولهم مستلزما لوجوده ولعدمه معا فإذا تكلموا بالسلب لم يبق إلا الخيال ويصفون ذلك الخيال بالثبوت فيكون الخيال يستلزم ثبوت الموجود القائم بنفسه
الثالث عشر: إن معرفة أبي المعالي وذويه بحال هؤلاء الأئمة الذين اتفقت الأمة على إمامتهم لا يكون أعظم عن معرفتهم بالصحابة والتابعين بنصوص رسول الله ﷺ
وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه يذكر ما ظاهره الاعتذار عن الصحابة وباطنه جهل بحالهم مستلزم إذا أطرد الزندقة والنفاق فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين ولم يقرروا قواعده فقال لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك
هذا مما في كلامه وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين قد علموا أن الصحابة لم يقولوها وهم يظنون أنها أصول صحيحة وأن الدين لا يتم إلا بها وللصحابة رضي الله عنهم أيضا من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة ولكن أخذوا من الرفض شعبة كما أخذوا من التجهم شعبة وذلك دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم حين غلب على الرافضة التجهم وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام
ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا ابن التومرت المتبع لأبي المعالي أمثل وأقرب إلى الإسلام من المغاربة الذين اتبعوا القرامطة وغلوا في الرفض والتجهم حتى انسلخوا من الإسلام فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين الذي لا يتم الدين إلا بها وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد وهم في ذلك بمنزلة الكثير من جندهم ومقاتليهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسة للملك والقتال فيها الحق والباطل ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة ولم يمكنهم القدح فيهم فأخذوا يقولون كانوا مشتغلين بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه
وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة وعلمهم ودينهم وقتالهم وإن كان لا يعرف حقيقة أحوالهم فلينظر إلى آثارهم فإن الأثر يدل على المؤثر
هل انتشر عن أحد من المنتسبين إلى القبلة أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم؟ أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقا باطنا وظاهرا وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله وفعلهم لأمر الله فمن حاد عن سبيلهم لم ير ما فعلوه فيزين له سوء عمله حتى يراه حسنا ويظن أنه حصل له من العلوم النافقة والأعمال الصالحة ما قصروا عنه وهذه حال أهل البدع
ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته التي رواها عبدوس بن مالك العطار: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ وقد ثبت عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال: [ خير القرون الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول ثم الثاني أكثر من أن تذكر ومعلوم أن أم الفضائل العلم والدين والجهاد فمن ادعى أنه حقق العلم بأصول الدين أو من الجهاد ما لم يحققوه كان من أجهل الناس وأضلهم وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد والعبادة والنسك أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة وقد يبلغ الغلو بهذه الطوائف إلى أن يفضلوا نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم ونجدهم عند التحقيق من أجهل الناس وأضلهم وأفسقهم وأعجزهم
الوجه الرابع عشر: أن يقال له هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة هم متناقضون في الشرعيات والعقليات أما الشرعيات فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة وتارة يبطلون التأويل فإذا ناظروا القلاسفة والمعتزلة الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقا ردوا عليهم وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات
وإذا نظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة كالمحبة والرضاء والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول
بل منهم ما يحيل على العقل ومنه ما يحيل على الكشف فأكثر متكلميهم يقولون ما علم ثبوته بالعقل لا يتأول وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول
ومنهم من يقول: ما علم ثبوته بالكشف والنور الإلهي لا يتأول وما لم يعلم ثبوته بذلك يتأول وكلا الطريقين ضلال وخطأ من وجوه:
أحدها: أن يقال عدم الدليل ليس دليل العدم فإن عدم العلم بالشيء يعقل أو كشف يقتضي أن يكون معدوما فمن أين لكم ما دلت عليه النصوص أو الظواهر ولم تعلموا انتفاءه أنه منتف في نفس الأمر؟
الوجه الثاني: إن هذا في الحقيقة عزل للرسول واستغناء عنه وجعله بمنزلة شيخ من شيوخ المتكلمين أو الصوفية فإن المتكلم مع المتكلم والمتصوف مع المتصوف يوافقه فيما علمه بنظره أو كشفه دون ما لم يعلمه بنظره أو كشفه بل ما ذكروه فيه تنقيص للرسول عن درجة المتكلم والمتصوف فإن المتكلم والمتصوف إذا قال نظيره شيئا ولم يعلم ثبوته ولا انتفاءه لا نثبته ولا ننفيه وهؤلاء ينفون معاني النصوص ويتأولونها وإن لم يعلموا انتفاء مقتضاها ومعلوم أن من جعل الرسول بمنزلة واحد من هؤلاء كان في قوله من الإلحاد والزندقة ما الله به عليم فكيف بمن جعله في الحقيقة دون هؤلاء؟ وإن كانوا هم لا يعلمون أن هذا لازم قولهم فنحن ذكرنا أنه لازم لهم لتبين فساد الأصول التي لهم وإلا فنحن نعلم أن من كان منهم ومن غيرهم مؤمنا بالله وبرسوله لا ينزل الرسول هذه المنزلة
الوجه الثالث: أن يقال ما نفيتموه من الصفات وتأولتموه من يقال في ثبوته من العقل والكشف نظير ما قلتموه فيما أثبتموه وزيادة وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع وبينت أن الأدلة سمعا وعقلا على ثبوت رحمته ومحبته ورضاه وغضبه ليست بأضعف من الأدلة على إرادته بل لعلها أقوى منها فمن تأول نصوص المحبة والرضا والرحمة وأقر نصوص الإرادة كان متناقضا
الوجه الرابع: إن ما ذكرتموه هو نظير قول المتفلسفة والمعتزلة فإنهم يقولون تأولنا ما تأولناه لدلالة أدلة العقول على نفي مقتضاه وكل ما يجيبونهم به يجيبونهم به يجيبكم أهل الإثبات من أهل الحديث والسنة به
الوجه الخامس: إن أهل الإثبات لهم من العقل الصريح والكشف الصحيح ما يوافق ما جاءت به النصوص فهم مع موافقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة يعارضون بعقلهم عقل النفاة وبكشفهم كشف النفاة لكن عقلهم وكشفهم هو الصحيح ولهذا تجدهم ثابتين فيه وهم في مزيد علم وهدى كما قال تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وأولئك تجدهم في مزيد حيرة وضلال وآخر أمرهم ينتهي إلى الحيرة ويعظمون الحيرة فإن آخر معقولهم الذي جعلوه ميزانا يزنون به الكتاب والسنة يوجب الحيرة حتى يجعلوا الرب موجودا معدوما ثابتا منفيا فيصفونه بصفة الإثبات وبصفة العدم والتحقيق عندهم جانب النفي بأنهم يصفونه بصفات المعدوم والموات وآخر كشفهم وذوقهم وشهودهم الحيرة وهؤلاء لا بد لهم من إثبات فيجعلونه حالا في المخلوقات أو يجعلون وجوده وجود المخلوقات فآخر نظر الجهمية وعقلهم أنهم لا يعبدون شيئا وآخر كشفهم وعقلهم أنهم يعبدون كل شيء وأضل البشر من جعل مثل هذا الكشف ميزانا يزن به الكتاب والسنة
أما أهل العقل الصريح والكشف الصحيح فهم أئمة العلم والدين من مشايخ الفقه والعبادة الذين لهم في الأمة لسان صدق وكل من له في الأمة لسان صدق عام من أئمة العلم والدين المنسوبين إلى الفقه والتصوف فإنهم على الإثبات لا على النفي وكلامهم في ذلك كثير قد ذكرناه في غير هذا الموضع
وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى مثل قولهم: إن الباري لا تقوم به الأغراض ولكن تقوم به الصفات والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق وهو عندهم عرض
ثم قالوا في الحياة ونحوها: هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين والصفة القديمة باقية ومعلوم أن قوله العرض ما لا يبقى زمانين والصفة القديمة باقية ومعلوم أن قوله العرض ما لا يبقى زمانين هو فرق بدعوى وتحكم فإن الصفات في المخلوق لا تبقى أيضا زمانين عندهم فتسمية الشيء صفة أو عرضا لا يوجب الفرق لكنهم ادعوا أن صفة المخلوق لا تبقى زمانين وصفة الخالق تبقى فيمكنهم أن يقولوا العرض القائم بالمخلوق لا يبقى والقائم بالخالق باق هذا إن صح فقولهم إن الصفات التي هي الأعراض لا تبقى فأكثر العقلاء يخالفونهم في ذلك وذلك قولهم: إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة وأن كل موجود يرى حتى الطعم واللون وأن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرا بكل ما أمر به ونهيا عن كل ما نهى عنه وخبرا بكل ما أخبر به وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة وإن عبر بالسريانية فهو الإنجيل وأن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له وأن هذا المعنى يسمع بالأذن على قول بعضهم أن السمع عنده متعلق بكل موجود
وعلى قول بعضهم إنه لا يسمع بالأذن لكن بلطيفة جعلت في قلبه فجعلوا السمع من جنس الإلهام ولم يفرقوا بين الإيحاء إلى غير موسى وبين تكليم موسى ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ذلك لأن هذه لا تقوم إلا بتحيز
وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز وجمهور العقلاء يقولون إن هذا فرق بين المتماثلين وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي الصفات بالمحل الذي تقوم به يدل على حدوثها
ثم قالوا: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه وكذلك في احتجاجهم على المعتزلة في مسألة القرآن فإن عمدتهم فيها أنه لو كان مخلوقا لم يخل إما أن يخلقه في نفسه أو في غيره أو لا في نفسه ولا في غيره وهذا باطل لأنه يستلزم قيام الصفة بنفسها والأول باطل لأنه ليس بمحل الحوادث والثاني باطل لأنه لو خلقه في محل لعاد حكمه على ذلك المحل فكان يكون هو المتكلم به فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره كالعلم والقدرة والحياة
وهذا من أحسن ما يذكرونه من الكلام لكنهم نقضوه حيث منعوا أن تقوم به الأفعال مع اتصافه بها فيوصف بأنه خالق وعادل ولم يقم به خلق ولا عدل
ثم كان من قولهم الذي أنكره الناس إخراج الحروف عن مسمى الكلام وجعل دلالة لفظ الكلام عليها مجاز فأحب أبو المعالي ومن اتبعه كالرازي أن يخلصوا من هذه الشناعة فقالوا: اسم الكلام يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الحروف الدالة عليه وهذا الذي قالوه أفسدوا به أصل دليلهم على المعتزلة فإنه إذا صح أن ما قام بغير الله يكون كلاما له حقيقة بطلت حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الكلام إذا قام بمحل عاد حكمه عليه وجاز حينئذ أن يقال إن الكلام مخلوق خلقه في غيره وهو كلامه حقيقة ولزمهم من الشناعة ما لزم المعتزلة حيث ألزمهم السلف والأئمة أن تكون الشجرة هي القائلة لموسى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } مع أن أدلتهم في مسألة امتناع حلول الحوادث لما تبين للرازي ونحوه ضعفها لم يمكنه أن يعتمد في مسألة الكلام على هذا الأصل بل احتج بحجة سمعية هي من أضعف الحجج حيث أثبت الكلام النفساني بالطريقة المشهورة ثم قال: وإذا ثبت ذلك ثبت أنه واحد وأنه قديم لأن كل من قال ذلك قال هذا ولم يفرق أحد هكذا قرره في نهاية العقول
ومعلوم أن الدليل لا يصلح لإثبات مسألة فرعية عند محققي الفقهاء وقد بينا تناقضهم في هذه المسألة بقريب من مائة وجه عقلي في هذا الكتاب
وكان بعض الفقهاء وقد قال للفقيه أبي محمد بن عبد السلام في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ فقال له أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري وأيضا فهم في مسألة القدر يسوون بين الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك ويتأولون قوله تعالى: { ولا يرضى لعباده الكفر } أي بمعنى لا يريده لهم وعندهم أنه رضية وأحبه لمن وقع منه وكل ما وقع في الوجود من كفر وفسوق وعصيان فالله يرضاه ويحبه وكل ما لم يقع من طاعة وبر وإيمان فإن الله لا يحبه ولا يرضاه ثم إنهم إذا تكلموا مع سائر العلماء في أصول الفقه بينوا أن المستحب هو ما يحبه الله ورسوله وهو ما أمر به أمر استحباب سواء قدره أو لم يقدره وهذا باب يطول وصفه
الوجه الخامس عشر: أن يقال إن هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم وظننتم أنكم بها صرتم مؤمنين بالله ورسوله وباليوم الآخر وزعمتم أنكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها وبها دفعتم أهل الإلحاد من المتفلسفة والمعتزلة ونحوه هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم وتسلط عليكم عدوكم وتوجب تكذيب نبيكم والطعن في خير قرون هذه الأمة
وهذا أيضا فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات أما الشرعيات فإنكم لما تأولتم من نصوص الصفات الإلهية تأولت المعتزلة ما قررتموه أنتم واحتجوا بمثل حجتكم ثم زادت الفلاسفة وتأولوا ما جاءت به النصوص الإلهية في الإيمان باليوم الآخر وقالت المتفلسفة مثل ما قلتم لإخوانكم المؤمنين ولم يكن لكم حجة على المتفلسفة فإنكم إذا احتججتم بالنصوص تأولوها ولهذا كان غايتكم في مناظرة هؤلاء أن تقولوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر بمعاد الأبدان وأخبر بالفرائض الظاهرة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان ونحو ذلك لجميع البرية والأمور الضرورية لا يمكن القدح فيها
فإن قال لكم المتفلسفة: هذا غير معلوم بالضرورة كان جوابكم أن تقولوا: هذا جهل منكم أو تقولوا: إن العلوم الضرورية لا يمكن دفعها عن النفس ونحن نجد العلم بهذا أمرا ضروريا في أنفسنا
وهذا كلام صحيح منكم لكن في هذا نقول لكم: المثبتة أهل العلم بالقرآن وتفسيره المنقول عن السلف والأئمة وبالأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين نحن نعلم بالاضطرار أنها أثبت الصفات وأن الله فوق العالم والعلم بهذا ضروري عندهم كما ذكرتم أنتم في معاد الأبدان والشرائع الظاهرة بل لعل العلم بهذا أعظم من العلم ببعض ما تنازعكم فيه المعتزلة والفلاسفة من أمور المعاد كالصراط والميزان والحوض والشفاعة ومسألة منكر ونكير
وأيضا فالعلم بعلو الله على عرشه ونحو ذلك يعلم بضرورية عقلية وأدلة عقلية يقينية لا يعلم بمثلها معاد الأبدان فالعلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على ما نفيتموه من علو الله على خلقه ومباينته لهم ونحو ذلك أكمل وأقوى من العلوم الضرورية والأدلة السمعية العقلية على كثير مما خالفكم فيه المعتزلة بل والفلاسفة
ولهذا يوجد عن كثير من السلف موافقة المعتزلة في بعض ما خالفتموهم فيه كما يوجد عن بعض السلف إنكار سماع الذي في القبر للأصوات وعن بعض السلف إنكار المعراج بالبدن وأمثال ذلك ولا يوجد عن واحد منهم موافقتكم على أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق العالم بل ولا على ما نفيتموه من الجسم وملازمه
وكذلك المعتزلة وإن كانوا ضالين في مسألة إنكار الرؤية فمعهم فيها من الظواهر التي تأولوها والمقاييس التي اعتمدوا عليها أعظم مما معكم في إنكار مباينة الله لمخلوقاته وعلوه على عرشه
ومن العجب أنكم تقولون إن محمدا رأى ربه ليلة المعراج وهذه مسألة نزاع بين الصحابة أو تقولون رآه بعينه ولم يقل ذلك أحد منهم ثم تقولون إن محمدا لم يعرج به إلى الله فإن الله ليس هو فوق السموات فتنكرون ما اتفق عليه السلف وتقولون بما تنازعوا فيه ولم يقله أحد منهم
فالمعتزلة في جعلهم المعراج مناما أقرب إلى السلف وأهل السنة منكم حيث قلتم رآه بعينه ليلة المعراج وقلتم مع هذا إنه ليس فوق السموات رب يعرج إليه فهذا النفي أنتم والمعتزلة فيه شركاء وهم امتازوا بقولهم المعراج مناما وهو قول مأثور عن طائفة من السلف وأنتم امتزتم بقولكم رآه بعينه وهذا لم يثبت عن أحد من السلف وإنما نقل عنهم بأسانيد ضعيفة
ثم إنكم أظهرتم للمسلمين مخالفة المعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن ووافقتم أهل السنة على إظهار القول بأن الله يرى في الآخرة وأن القرآن كلام الله غير مخلوق والقول بأن الله لا يرى في الآخرة وأن القرآن مخلوق من البدع القديمة التي أظهرها الجهمية المعتزلة وغيرهم في عصر الأئمة حتى امتحنوا الإمام أحمد وغيره بذلك
ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد الذي هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه فيه في مسألة الرؤية والقرآن فإن كل عاقل يعلم أن دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أن الله يرى وليس في القرآن آية توهم المستمع أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه وفيه ما يوهم بعض الناس نفي الرؤية ولكن يعارضون آيات العلو الكثيرة الصريحة بما يتوهم أنه يدل على أنه بذاته في كل مكان وأنتم لا تقولون لا بهذا ولا بهذا فلم يكن معكم على هذا النفي آية تشعر بمذهبكم فضلا من أن تدل عليه نصا أو ظاهرا ولا حديث عن رسول الله ﷺ ولا قول صاحب ولا تابع ولا إمام وإنما غايتكم أن تتمسكوا بأثر مكذوب كما تذكرونه عن علي أنه قال: الذي أين الأين لا يقال له أين وهذا من الكذب على باتفاق أهل العلم لا إسناد له وكذلك حديث الملائكة الأربعة مع أن ذلك لا حجة فيه لكم وكذلك القول بأن القرآن مخلوق فيه من الشبهة ما ليس في نفس علو الله على عباده ولهذا كان في فطر جميع الأمم الإقرار بعلو الله على خلقه
وأما كونه يرى أو لا يرى أو يتكلم أو يتكلم فهذا عندهم ليس في الظهور بمنزلة ذاك فوافقتم الجهمية المعتزلة وغيرهم على ما هو أبعد من العقل والدين مما خالفتموهم فيه ومعلوم اتفاق سلف الأمة وأئمتها على تضليل الجهمية من المعتزلة وغيرهم بل قد كفروهم وقالوا فيهم ما لم يقولوه في أحد من أهل الأهواء أخرجوهم عن الاثنين وسبعين فرقة وقالوا: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية
فكنتم فيما وافقتم فيه الجهمية من المعتزلة وغيرهم وما خالفتموهم في كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض ولكن هو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان وأوجب ذلك فسادين عظيمين:
أحدهما: تسلط المعتزلة ونحوهم عليكم فإنكم لما وافقتموهم على هذا التعطيل بقي بعد ذلك إثباتكم للرؤية ولكون القرآن غير مخلوق قولا باطلا في العقل عند جمهور العقلاء وانفردتم من جميع طوائف الأمة بما ابتدعتموه في مسألة الكلام والرؤية وقويت المعتزلة بذلك عليكم وعلى أهل السنة
وإن كنتم قد رددتم على المعتزلة حتى قيل: إن الأشعري حجرهم في قمع السمسمة فهذا أيضا صحيح بما أبداه من تناقض أصولهم فإنه كان خبيرا بمذاهبهم إذ كان من تلامذة أبي علي الجبائي وقرأ عليه أصول المعتزلة أربعين سنة ثم لما انتقل إلى طريقة أبي محمد عبد الله بن مسعود بن كلاب وهي أقرب إلى السنة من طريقة المعتزلة فإنه يثبت الصفات والعلو ومباينة الله للمخلوقات ويجعل العلو يثبت بالعقل فكان الأشعري لخبرته بأصول المعتزلة أظهر من تناقضها وفسادها ما قمع به المعتزلة وبما أظهره من تناقض المعتزلة والرافضة والفلاسفة ونحوهم صار له من الحرمة والقدر ما صار له فإن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
لكن الأشعري قصر عن طريقة ابن كلاب وأنتم خالفتم ابن كلاب والأشعري فنفيتم الصفات الخبرية ونفيتم العلو وخياركم يجعله من الصفات السمعية مع أن ابن كلاب كان مبتدعا عند السلف بما قاله في مسألة القرآن؟ وفي إنكار الصفات الفعلية القائمة بذات الله
ثم إن المعتزلة وإن انقمعوا من هذا الوجه فإنهم طمعوا وقووا من وجه آخر بموافقتكم لهم على أصول النفي والتعطيل فصار ذلك معزيا لفضلائهم بلزوم مذهبهم فإن كل من فهم مذهبكم الذي خالفتم فيه المعتزلة على أن ما ذكرتموه قول فاسد أيضا وإن كان قول المعتزلة فاسدا ونشأ الفساد
الثاني: وهو أن الفضلاء إذا تدبروا حقيقة قولكم الذي أظهرتم فيه خلاف المعتزلة وجدوكم قريبين منهم أو موافقين لهم في المعنى كما في مسألة الرؤية فإنكم تتظاهرون بإثبات الرؤية والرد على المعتزلة ثم تفسرونها بما لا ينازع المعتزلة في بيانه ولهذا قال من قال من الفضلاء في الأشعري: إن قوله قول المعتزلة ولكنه عدل عن التصريح إلى التمويه
وكذلك قولكم في مسألة القرآن فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا إنه مخلوق حتى كفروهم وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة انتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك
وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه ومخالفوهم من وجه وما اختلفتم فيه أنتم وهم فأنتم أقرب إلى السنة من وجه وهم أقرب إلى السنة من وجه وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه
ذلك أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه والمتكلم من فعل الكلام وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر وهذه أنواع الكلام لا صفاته والقرآن غير التوراة والتوراة غير الإنجيل وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء
وقلتم أنتم: وإن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر وهذه صفات الكلام لا أنواعه فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا والحروف المؤلفة ليست من الكلام ولا هي كلام والكلام الذي نزل له جبريل من الله ليس كلام الله بل حكاية عن كلام الله كما قاله ابن كلاب أو عبارة عن كلام الله كما قاله الأشعري
ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام وإن لم يقم به الكلام لا يكون متكلما به كما أن من لم يقم به العلم والقدرة والحياة لا يكون عالما به ولا قادرا بها ولا حيا بهما وأنه لو كان الكلام مخلوقا في جسم من الأجسام لكان ذلك الجسم هو المتكلم به فكانت الشجرة هي القائلة لموسى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } فهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلاما له فيكون إنطاقه للجلود كلاما له بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلاما له وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون إن وجوده عين الموجودات فيقول قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظمه
لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله كما يقوله سائر المسلمين وأنتم جعلتموه كلاما مجازا ومن جعله منكم حقيقة وجعل الكلام مشتركا كأبي المعالي وأتباعه انتقضت قاعدته في أن المتكلم بالكلام من قام به ولم يمكنكم أن تقولوا بقول أهل السنة فإن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من قاله مبلغا مؤديا فالرجل إذا بلغ قول رسول الله ﷺ: [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] كان قد بلغ كلام النبي ﷺ بحركاته وأصواته وكذلك إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس أو غيره فإذا قال:
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
كان هذا الشعر شعر امرئ القيس وإن كان هذا قد قاله بحركاته وأصواته وهذا أمر مستقر في فطر الناس كلهم يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئا آمرا بأمره ومخبرا بخبره ومؤلفا حروفه ومعانيه وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمبلغ عنه لا للمبلغ
وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به والمبلغ عنه وبين سماعة من الأول وسماعه من الثاني ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله كما قال الله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } مع علمهم بأن القارئ يقرأه بصوته كما قال النبي ﷺ: [ زينوا القرآن بأصواتكم ] فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ وإن كان من المعتزلة من يجعل كلام الثاني حكاية لكلام الأول
وينازع المعتزلة في الحكاية: هل هي المحكي كما يقول الجبائي أو غيره كما يقول ابنه؟ على قولين
والتحقيق: أن الحاكي لكلام غيره ليس هو المبلغ له فإن الحاكي له بمنزلة المتمثل به الذي يقوله لنفسه موافقا لقائله الأول بخلاف المبلغ له الذي يقصد أن يبلغ كلام الغير
وللنية تأثير في مثل هذا فإن من قال: الحمد لله رب العالمين بقصد القراءة لم يكن ذلك مع الجنابة بخلاف من قالها بقصد ذكر الله وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع
والمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما يقوله المسلمون لأن حروف القرآن ونظمه ليس هو عندكم كلام الله بل ذلك عندكم مخلوق: أما في الهواء وإما في نفس جبريل وأما في غير ذلك فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق لكن قالوا هم: ذلك كلام الله وقلتم أنتم: ليس كلام الله ومن قال منكم إنه كلام الله انقطعت حجته على المعتزلة فصارت المعتزلة خيرا منكم في هذا الموضع وهذه الحروف والنظم الذي يقرأه الناس هو حكاية تلك الحروف والنظم المخلوق عندكم كما يقوله المعتزلة وهي عبارة عن المعنى القائم بالذات
ولهذا كان ابن كلاب يقول: إن هذا القرآن حكاية عن المعنى القديم فخالفه الأشعري لأن الحكاية تشبه المحكي وهذا حروف وذلك معنى
وقال الأشعري: بل هذا عبارة عن ذلك لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه
وكلا القولين خطأ فإن القرآن الذي نقرأه فيه حروف مؤلفة وفيه معان فنحن نتكلم بالحروف بألسنتنا ونعقل المعاني بقلوبنا ونسبة المعاني القائمة بقلوبنا إلى المعنى القائم بذات الله كنسبة الحروف التي ننطق بها إلى الحروف الخلوقة عندكم
فإن قلتم: إن هذا حكاية عن كلام الله لم يصح لأن كلام الله معنى مجرد عندكم وهذا فيه حروف ومعان
وإن قلتم: إنه عبارة لم يصح لأن العبارة هي اللفظ الذي يعبر به عن المعنى وهنا حروف ومعان يعبر بها عن المعنى القديم عندكم
وإن قلتم: هذه الحروف وحدها عبارة عن المعنى بقيت المعاني القائمة بقلوبنا وبقيت الحروف التي عبر بها أولا عن المعنى القائم بالذات التي هذه الحروف المنظومة نظيرها عندكم لم تدخلوها في كلام الله فالمعتزلة في قولها بالحكاية أسعد منكم في قولكم بالحكاية وبالعبارة
وأصل هذا الخطأ أن المعتزلة قالوا: إن القرآن بل كل كلام هو مجرد الحروف والأصوات وقلتم أنتم: بل هو مجرد المعاني ومن المعلوم عند الأمم أن الكلام اسم للحروف وللمعاني وللفظ والمعنى جميعا كما أن اسم الإنسان اسم للروح والجسد وإن سمي المعنى وحده حديثا أو كلاما أو الحروف وحدها حروفا أو كلاما فعند التقييد والقرينة
وهذا مما استطالت المعتزلة عليكم به حيث أخرجتم الحروف المؤلفة عن أن تكون من الكلام فإن هذا مما أنكره عليكم الخاص والعام: وقد قال النبي ﷺ: [ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به ] [ قال له معاذ: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ]؟ ! وشواهد هذا بكثير
ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحدا مفردا وهو الأمر بكل ما أمر الله به والخبر عن كل ما أخبر الله به وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه وقالوا إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح العقول
وأنتم تنكرون على من يقول: إن الله يتكلم بحروف وأصوات قديمة أزلية ومعلوم أن ما قلتموه أبعد عن العقل والشرع من هذا وإن كان العقلاء قد أنكروا هذا أيضا لكن قولكم أشد نكرة بل قولكم أبعد من قول النصارى الذين يقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد
ثم أعجب من هذا أنكم تقولون: إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وبالعبرية كان هو التوراة وبالسريانية كان هو الإنجيل ومن المعلوم بالاضطرار لكل عاقل أن التوراة إذا عربت لم تكن معانيها معاني القرآن وإن القرآن إذا ترجم بالعبرية لم تكن معانيه معاني التوراة
ثم إن منكم من جعل ذلك المعنى يسمع ومنكم من قال لا يسمع وجعلتم تكليم الله لموسى من جنس الإلهام الذي يلهم غيره حيث قلتم: خلق في نفسه لطيفة أدرك بها الكلام القائم بالذات وقد قال تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } ففرق سبحانه بين إيحائه إلى موسى وبين تكليمه لموسى
وقال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } ففرق بين إيحائه - سبحانه - وبين تكليمه من وراء حجاب
والأحاديث متواترة عن رسول الله ﷺ بتخصيص موسى بتكليم الله إياه دون إبراهيم وعيسى ونحوهما وعلى قولكم: لا فرق بل قد زعم من زعم من أئمتكم أن الواحد من غير الأنبياء يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران فمن حصل له إلهام في قلبه جعلتموه قد كلمه الله كما كلم موسى بن عمران
ومعلوم أن المعتزلة لم يصلوا في الإلحاد إلى هذا الحد بل من قال: إن الله خص موسى بأن خلق كلاما في الهواء سمعه كان أقل بدعة ممن زعم أنه لم يكلمه إلا بأن أفهمه معنى أراده
بل هذا قريب إلى قول المتفلسفة الذين يقولون: ليس لله كلام إلا ما في النفوس وأنه كلم موسى من سماء عقله لكن يفارقونها بإثبات المعنى القديم القائم بذات الله أيضا
فجعلتم ثبوت القرآن في المصاحف مثل ثبوت الله فيها قلتم: قوله تعالى: { إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون } بمنزلة قوله تعالى: { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } ومعلوم أن المذكور في التوراة هو اسمه وأن الله إنما يكتب في المصحف اسمه فأسماؤه بمنزلة كلامه لا أن ذاته بمنزلة كلامه
والشيء لوجوده أربعة مراتب: وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان فالأعيان لها المرتبة الأولى ثم يعلم بالقلوب ثم يعبر عنه باللفظ ثم يكتب اللفظ وأما الكلام فله المرتبة الثالثة وهو الذي يكتب في المصحف
فأين قول القائل: إن الكلام في الكتاب من قوله إن المتكلم في الكتاب وبينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق؟
ثم إن منكم من احتج بقوله تعالى: { إنه لقول رسول كريم } وجعل المراد بذلك العبارة وهذا مع أنه متناقض فهو أفسد من قول المعتزلة فإنه إن كان أضيف إلى رسول الله ﷺ لأنه أحدث حروفه فقد أضافه في موضع إلى رسول هو جبريل وفي موضع إلى رسول هو محمد قال في موضع: { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين } وقال في موضع: { إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون }
ومعلوم أن عبارتها إن أحدثها جبريل لم يكن محمد أحدثها وإن أحدثها محمد لم يكن جبريل أحدثها فبطل قولكم وعلم أنه إنما أضافه إلى الرسول لكونه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وابتدأه ولهذا قال لقول رسول ولم يقل لقول ملك ولا نبي فذكر اسم الرسول المشعر بأنه مبلغ عن غيره كما قال تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك }
وكان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس بالموسم ويقول: [ ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن [ قريشا ] منعوني أن أبلغ كلام ربي ]
ومعلوم أن المعتزلة لا تقول إن شيئا من القرآن أحدثه لا جبريل ولا محمد ولكن يقولون إن تلاوتهما له كتلاوتنا له وإن قلتم أضافه إلى أحدهما لكونه تلاه بحركاته وأصواته فيجب حينئذ أن يقول إن القرآن قول من تكلم به مسلم وكافر وطاهر وجنب حتى إذا قرأه الكافر يكون القرآن قولا له على قولكم فقوله بعد هذا: { إنه لقول رسول كريم } كلام لا فائدة فيه إذ هو على أصلكم قول رسول كريم وقول فاجر لئيم