الفتاوى الكبرى/كتاب الطهارة/16
81 - 66 - مسألة: وسئل الشيخ تقي الدين رحمه الله: عن رجل باشر امرأته وهو في عافية فهل له أن يصبر بالطهر إلى أن يتضحى النهار أم يتيمم ويصلي أفتونا مأجورين؟
أجاب: الحمد لله لا يجوز له تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت بل عليه إن قدر على الاغتسال بماء بارد أو حار أن يغتسل ويصلى في الوقت وإلا تيمم فإن التيمم بخشية البرد جائز باتفاق الأئمة وإذا صلى بالتيمم فلا إعادة عليه لكن إذا تمكن من الاغتسال اغتسل والله أعلم
82 - 67 - مسألة: في جلود الحمر وجلد ما لا يؤكل لحمه والميتة هل تطهر بالدباغ أم لا؟ أفتونا مأجورين
الجواب: الحمد لله رب العالمين أما طهارة جلود الميتة بالدباغ ففيها قولان مشهوران للعلماء في الجملة:
أحدهما: أنها تطهر بالدباغ وهو قول أكثر العلماء: كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين
والثاني: لا تطهر وهو المشهور في مذهب مالك ولهذا يجوز استعمال المدبوغ في الماء دون المائعات لأن الماء لا ينجس بذلك وهو أشهر الروايتين عن أحمد أيضا اختارها أكثر أصحابه لكن الرواية الأولى هي آخر الروايتين عنه كما نقله الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه: أنه كان يذهب إلى حديث ابن عكيم ثم ترك ذلك بآخرة
وحجة هذا القول شيئان:
أحدهما: أنهم قالوا: هي من الميتة ولم يصح في الدباغ شيء ولهذا لم يرو البخاري ذكر الدباغ في حديث ميمونة من قول النبي ﷺ وطعن هؤلاء فيما رواه مسلم وغيره إذ كانوا أئمة لهم في الحديث اجتهاد وقالوا: روى ابن عيينة الدباغ عن الزهري والزهري كان يجوز استعمال جلود الميتة بلا دباغ وذلك يبين أنه ليس في روايته ذكر الدباغ وتكلموا في ابن وعلة
والثاني: أنهم قالوا: أحاديث الدباغ منسوخة بحديث ابن عكيم وهو قوله ﷺ فيما كتب إلى جهينة:
[ كنت رخصت في جلود الميتة فإذا أتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ]
فكلا هاتين الحجتين مأثورة عن الإمام أحمد نفسه في جوابه ومناظرته في الرواية الأولى المشهورة
وقد احتج القائلون بالدباغ بما في الصحيحين عن عبد الله بن عباس [ أن النبي ﷺ مر بشاة ميتة فقال: هلا استمتعتم بإهابها
قالوا: يا رسول الله إنها ميتة
قال: إنما حرم من الميتة أكلها ]
وفي رواية لمسلم [ ألا أخذوا أهابها فدبغوه فانتفعوا به ]
وعن سودة بنت زمعة زوج النبي ﷺ قالت: [ ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا ]
وعن ابن عباس قال: [ سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا دبغ الإهاب فقد طهر ]
قلت: وفي رواية له عن عبد الرحمن بن وعلة: إنا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس يؤتى بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم وتؤتى بالسفاء يجعلون فيه الدلوك فقال ابن عباس [ قد سألنا رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: دباغه طهوره ]
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي
وفي رواية عن عائشة قالت: [ سئل رسول الله ﷺ عن جلود الميتة
فقال: دباغها طهورها ] رواه الإمام أحمد والنسائي
وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه: [ أن رسول الله ﷺ مر ببيت بفنائه قربة معلقة فاستقى فقيل إنها ميتة فقال: ذكاة الأديم دباغه ] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي
وأما حديث ابن عكيم فقد طعن بعض الناس فيه بكون حامله مجهولا ونحو ذلك مما لا يسوغ رد الحديث به قال عبد الله بن عكيم: [ أتانا كتاب رسول الله ﷺ قبل أن يموت بشهر أو شهرين أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ]
رواه الإمام أحمد وقال: ما أصلح إسناده وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن
وأجاب بعضهم عنه بأن الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ كما نقل ذلك النضر ابن شميل وغيره من أهل اللغة وأما بعد الدبغ فإنما هو أديم فيكون النهي عن استعمالها قبل الدبغ
فقال المانعون: هذا ضعيف فإن في بعض طرقه: [ كتب رسول الله ﷺ ونحن في أرض جهينة
إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ] رواه الطبراني في المعجم الأوسط من رواية فضالة ابن مفضل بن فضالة المصري وقد ضعفه أبو حاتم الرازي لكن هو شديد في التزكية وإذا كان النهي بعد الرخصة فالرخصة إنما كانت في المدبوغ
وتحقيق الجواب: أن يقال: حديث ابن عكيم ليس فيه نهي عن استعمال المدبوغ وأما الرخصة المتقدمة فقد قيل: إنها كانت للمدبوغ وغيره ولهذا ذهب طائفة منهم: الزهري وغيره إلى جواز استعمال جلود الميتة قبل الدباغ تمسكا بقوله المطلق في حديث ميمونة وقوله: [ إنما حرم الميتة أكلها ] فإن هذا اللفظ يدل على التحريم ثم لم يتناول الجلد
وقد رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن عباس قال: [ ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ماتت فلانة - تعنى الشاة - فقال: فلولا أخذتم مسكها فقالت: آخذ مسك شاة قد ماتت؟
فقال لها رسول الله ﷺ: إنما قال { لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها ]
فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه لا لكونه شرطا في الحل وإذا كان كذلك فتكون الرخصة لجهينة في هذا والنسخ عن هذا فإن الله تعالى ذكر تحريم الميتة في سورتين مكيتين: الأنعام والنحل ثم في سورتين مدنيتين: البقرة والمائدة والمائدة من آخر القرآن نزولا كما روي المائدة آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وقد ذكر الله فيها من التحريم ما لم يذكره في غيرها وحرم النبي ﷺ أشياء مثل أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير
وإذا كان التحريم زاد بعد ذلك على ما في السورة المكية التي استند الرخصة المطلقة فيمكن أن يكون تحريم الانتفاع بالعصب والإهاب قبل الدباغ ثبث بالنصوص المتأخرة وأما بعد الدباغ فلم يحرم ذلك قط بل بين أن دباغه ظهوره وذكاته وهذا يبين أنه لا يباح بدون الدباغ
وعلى هذا القول فللناس فيها يطهره الدباغ أقوال:
قيل: إنه يطهر كل شيء حتى الحمير كما هو قول أبي يوسف وداود
وقيل: يطهر كل شيء سوى الحمير كما هو قول أبي حنيفة
وقيل: يطهر كل شيء إلا الكلب والحمير كما هو قول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب أحمد على القول بتطهير الدباغ والقول الآخر في مذهبه وهو قول طوائف من فقهاء الحديث أنه إنما يطهر ما يباح بالذكاة فلا يظهر جلود السباع
ومأخذ التردد أن الدباغ: هل هو كالحياة فيطهر ما كان طاهرا في الحياة أو هو كالذكاة فيطهر ما طهر بالذكاة والثاني أرجح
ودليل ذلك نهي النبي ﷺ عن جلود السباع كما روي عن أسامة بن عمير الدهلي أن النبي ﷺ نهى عن جلود السباع ورواه أحمد وأبو داود والنسائي
زاد الترمذي: أن تفرش
وعن خالد بن معدان قال: وفد المقدام بن معدي كرب على معاوية فقال: أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله ﷺ نهى عن جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه
وعن أبي ريحانة: نهى رسول الله ﷺ عن ركوب النمور رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
وروى أبو داود والنسائي عن معاوية عن النبي ﷺ قال: [ لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر ] رواه أبو داود
وفي هذا القول جمع بين الأحاديث كلها والله أعلم
68 - 83 - مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل تدركه الصلاة وهو في مدرسة فيجد في المدارس بركا فيها ماء له مدة كثيرة ومثل ماء الحمام الذي في الحوض فهل يجوز من ذلك الوضوء والطهارة أم لا؟
وعن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث أم لا؟
وعن رجل غصب له مال أو مطل في دين ثم مات فهل تكون المطالبة له في الآخرة أم للورثة؟ أفتونا مأجورين
أجاب: الحمد لله قد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ من غير وجه: كحديث عائشة وأم سلمة وميمونة وابن عمر رضي الله عنهم: أن النبي ﷺ كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد حتى يقول لها: أبقي لي وتقول هي: أبق لي
وفي صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمر قال: كان الرجال والنساء يغتسلون على عهد رسول الله ﷺ من إناء واحد ولم يكن بالمدينة على عهد رسول الله ﷺ ماء جار ولا حمام
فإذا كانوا يتوضأون جميعا ويغتسلون جميعا من إناء واحد بقدر الفرق وهو بضعة عشر رطلا بالمصري أو أقل وليس لهم ينبوع ولا أنبوب فتوضؤهم واغتسالهم جميعا من حوض الحمام أولى وأحرى فيجوز ذلك وإن كان الحوض ناقصا والأنبوب مسددا فكيف إذا كان الأنبوب مفخوحا وسواء فاض أو لم يفض
وكذلك برك المدارس ومن منع غيره حتى ينفرد وحده بالاغتسال فهو مبتدع مخالف للسنة
وأما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا: يخرجه إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن وإلا تصدق به والباقي لا يحرم عليه لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أونفقة عيال
وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به
وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما: جعل ذلك نصفين
وأما من غصب له مال أو مطل به فالمطالبة في الآخرة له كما ثبت في الصحيح [ عن النبي ﷺ أنه قال: من كانت لأخيه عنده مظلمة في دم أو مال أو عرض فليستحلل من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم فإن كانت له حسناته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فألقيت عليه ]
فبين النبي ﷺ أن الظلامة إذا كانت في المال طالب المظلوم بها ظالمه ولم يجعل المطالبة لورثته وذلك أن الورثة يخلفونه في الدنيا فما أمكن استيفاؤه في الدنيا كان للورثة وما لم يمكن استيفاؤه في الدنيا فالطلب به في الآخرة للمظلوم نفسه والله أعلم
84 - 69 - مسألة: في الجبن الإفرنجي والجوخ هل هما مكروهان أو قال أحد من الأئمة ممن يعتمد قوله أنهما نجسان وأن الجبن يدهن بدهن الخنزير وكذلك الجوخ؟
الجواب: الحمد لله أما الجبن المجلوب من بلاد الإفرنج فالذين كرهوه ذكروا لذلك سببين:
أحدهما: أنه يوضع بينه شحم الخنزير إذا حمل في السفن
والثاني: أنهم لا يذكون ما نصنع منه الأنفحة بل يضربون رأس البقر ولا يذكونه
فأما الوجه الأول: فغايته أن ينجس ظاهر الجبن فمتى كشط الجبن أو غسل طهر فإن ذلك ثبت في الصحيح [ أن النبي ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ] فإذا كان ملاقاة الفأرة للسمن لا توجب نجاسة جميعه فكيف تكون ملاقات الشحم النجس للجبن توجب نجاسة باطنه ومع هذا فإنما يجب إزالة ظاهره إذا تيقن إصابة النجاسة له وأما مع الشك فلا يجب ذلك
وأما الوجه الثاني: فقد علم أنه ليس كلما يعقرونه من الأنعام يتركون ذكاته بل قد قيل: إنهم إنما يفعلون هذا بالبقر وقيل: إنهم يفعلون ذلك حتى يسقط ثم يذكونه ومثل هذا لا يوجب تحريم ذبائحهم بل إذا اختلط الحرام بالحلال في عدد لا ينحصر كاختلاط أخته بأهل بلد واختلاط الميتة والمغصوب بأهل بلدة لم يوجب ذلك تحريم ما في البلد كما إذا اختلطت الأخت بالأجنبية والمذكي بالميت فهذا القدر المذكور لا يوجب تحريم ذبائحهم المجهولة الحال وبتقدير أن يكون الجبن مصنوعا من أنفحة ميتة فهذه المسألة فيها قولان مشهوران للعلماء:
أحدهما: أن ذلك مباح طاهر كما هو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين
والثاني: أنه حرام نجس كقول مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى والخلاف مشهور في لبن الميتة وإنفحتها هل هو طاهر أم نجس والمطهرون احتجوا بأن الصحابة أكلوا جبن المجوس مع كون ذبائحهم ميتة ومن خالفهم نازعهم كما هو مذكور في موضع آخر
وأما الجوخ فقد حكى بعض الناس أنهم يدهنونه بشحم الخنزير وقال بعضهم: إنه ليس يفعل هذا به كله فإذا وقع الشك في عموم نجاسة الجوخ لم يحكم بنجاسة لعينه لإمكان أن تكون النجاسة لم تصبها إذ العين طاهرة ومتى شك في نجاستها فالأصل الطهارة ولو تيقنا نجاسة بعض أشخاص نوع دون بعض لم نحكم بنجاسة جميع أشخاصه ولا بنجاسة ما شككنا في تنجسه ولكن إذا تيقن النجاسة أو قصد قاصد إزالة الشك فغسل الجوخة يطهرها فإن ذلك صوف أصابه دهن نجس وأصابه البول والدم لثوب القطن والكتان أشد وهو به ألصق وقد [ قال النبي ﷺ لمن أصاب دم الحيض ثوبها: حتيه ثم أقرصيه ثم اغسليه بالماء وفي رواية: ولا يضرك أثره ] والله أعلم