الفتاوى الكبرى/كتاب الحدود/6
فصل
وأما سؤال القائل إنهم أصحاب العلم الباطن فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل على أنهم زنادقة منافقون لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى بل أكثر المشركين على أنه كفر أيضا فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر والنواهي والأخبار
أما الأوامر فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدا ﷺ أمرهم بالصلوات المكتوبة والزكاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق
وأما النواهي فإن الله تعالى حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون كما حرم الخمر ونكاح ذوات المحارم والربا والميسر وغير ذلك فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه يعرفه المسلمون ولكن هذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الاسماعيلية الذين انتسبوا إلى محمد بن اسماعيل بن جعفر الذين يقولون أنهم معصومون وأنهم أصحاب العلم الباطن كقولهم: الصلاة معرفة أسرارنا لا هذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة والصيام كتمان أسرارنا ليس هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح والحج زيارة شيوخنا المقدسين
وأمثال ذلك وهؤلاء المدعون للباطن لا يوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ونكاح الأمهات والبنات وغير ذلك من المنكرات ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى فمن يكون هكذا كيف يكون معصوما؟ ! !
وأما الأخبار فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته بل أخبارهم التي يتبعونها اتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو ويريدون أن يجمعوا بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء كما فعل أصحاب رسائل اخوان الصفا وهم على طريقة هؤلاء العبيد بين ذرية عبيد الله بن ميمون القداح فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين أو اليهود أو النصارى: أن ما يقوله أصحاب رسائل إخوان الصفا مخالف للملل الثلاث وإن كان في ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية وبعض المنطقية والالهية وعلوم الأخلاق والسياسة والمنزل: ما لا ينكر فإن في ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به والتكذيب بكثير مما جاءت به وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفى على عارف بملة من الملل فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث
ومن أكاذيبهم وزعمهم: أن هذه الرسائل من كلام جعفر بن محمد الصادق والعلماء يعلمون أنها إنما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة وقد ذكر واضعها فيها ما حدث في الإسلام من استيلاء النصارى على سواحل الشام ونحو ذلك من الحوادث التي حدثت بعد المائة الثالثة وجعفر بن محمد - رضي الله عنه - توفي سنة ثمان وأربعين ومائة قبل بناء القاهرة بأكثر من مائتي سنة إذ القاهرة بنيت حول الستين وثلاثمائة كما في تاريخ الجامع الأزهر ويقال: إن ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين وأنه في سنة اثنين وستين قدم معد بن تميم من المغرب واستوطنها
ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الإسلام كانوا من اتباع مبشر بن فاتك أحد أمرائهم وأبي علي بن الهيثم اللذين كانا في دولة الحاكم نازلين قريبا من الجامع الأزهر وابن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما: قال ابن سينا: وقرأت من الفلسفة وكنت أسمع أبي وأخي يذكران العقل والنفس وكان وجوده على عهد الحاكم وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه وما فعله هشكين الدرزي بأمره من دعوة الناس إلى عبادته ومقاتلته أهل مصر على ذلك ثم ذهابه إلى الشام حتى أضل وادي التيم بن ثعلبة والزندقة والنفاق فيهم إلى اليوم وعندهم كتب الحاكم وقد أخذتها منهم وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم وإسقاطه عنهم الصلاة والزكاة والصيام والحج وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرم الله ورسوله بالحشوية إلى أمثال ذلك من أنواع النفاق التي لا تكاد تحصى
وبالجملة فعلم الباطن الذي يدعون مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بل هو جامع لكل كفر لكنهم فيه على درجات فليسوا مستوين في الكفر إذ هو عندهم سبع طبقات كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه
ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس والفلاسفة والرافضة مثل قولهم: السابق والتالي جعلوهما بازآء العقل والنفس كالذي يذكره الفلاسفة وبإزاء النور والظلمة كالذي يذكره المجوس وهم ينتمون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون في الباطن والأساس والحجة والباب وغير ذلك مما يطول وصفهم
ومن وصاياهم في الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم أنهم يدخلون على المسلمين من باب التشيع وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف وأضعفها عقلا وعلما وأبعدها عن دين الإسلام علما وعملا ولهذا دخلت الزنادقة على الإسلام من باب المتشيعة قديما وحديثا كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة كما جرى لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما بل كما جرى بتغير المسلمين مع النصارى وغيرهم فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه وإذا استجاب لهم نقلوه إلى الرفض والقدح في الصحابة فإن رأوه قابلا نقلوه إلى الطعن في علي وغيره ثم نقلوه إلى القدح في نبينا وسائر الأنبياء وقالوا: إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم وكانوا قوما أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية ثم قدحوا في المسيح ونسبوه إلى يوسف النجار وجعلوه ضعيف الرأي حيث تمكن عدوه منه حتى صلبه فيوافقون اليهود في القدح في المسيح لكن هم شر من اليهود فإنهم يقدحون في الأنبياء وأما موسى ومحمد فيعظمون أمرهما لتمكنهما وقهر عدوهما ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة وان لذلك أسرارا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين
ويقولون إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات وأخذ أموال الناس بكل طريق ولم يجب علينا شيء مما يجب على العامة: من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب
وفيإثبات واجب الوجود المبدع للعالم على قولين لأئمتهم تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة في نزاع إلا في واجب الوجود ويستهينون بذكر الله واسمه حتى يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله وأمثال ذلك من كفرهم كثير وذوو الدعوة التي كانت مشهورة والاسماعيلية الذين كانوا على هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها في بلاد خراسان وبأرض اليمن وجبال الشام وغير ذلك: كانوا على مذهب العبيديين المسؤول عنهم وابن الصباح الذي كان رأس الاسماعيلية وكان الغزالي يناظر أصحابه لما كان قدم إلى مصر في دولة المستنصر وكان أطولهم مدة وتلقى عنه أسرارهم
وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلى العراق وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف وأذنوا على المنابر: حي على خير العمل حتى جاء الترك السلاجقة الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلى مصر وكان من أواخرهم الشهيد نور الدين محمود الذي فتح أكثر الشام واستنقذه من أيدي النصارى ثم بعث عسكره إلى مصر لما استنجدوه على الافرنج وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية وأظهر فيها شرائع الإسلام حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام
وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثا عن رسول الله ﷺ فيقتل كما حكى ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد وامتنع من رواية الحديث خوفا أن يقتلوه وكان ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينار واردب وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة بل يتكلم فيها بالكفر الصريح وكان لهم مدرسة بقرب المشهد الذي بنوه ونسبوه إلى الحسين وليس فيه الحسين ولا شيء منه: باتفاق العلماء وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين بل المنطق والطبيعة والإلهي ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة وبنو أرصادا على الجبال وغير الجبال يرصدون فيها الكواكب يبعدونها ويسبحونها ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل على المشركين الكفار كشياطين الأصنام ونحو ذلك
والمعز بن تميم بن معد أول من دخل القاهرة منهم في ذلك فصنف كلاما معروفا عند اتباعه وليس هذا المعز بن باديس فإن ذاك كان مسلما من أهل السنة وكان رجلا من ملوك المغرب وهذا بعد ذاك بمدة ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان حتى قالت فيها العلماء: إنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب
والقرامطة الخارجين بأرض العراق الذين كانوا سلفا لهؤلاء القرامطة ذهبوا من العراق إلى المغرب ثم جاؤوا من المغرب إلى مصر فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة وهم أعظم كفرا وردة من كفر اتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين كما يميز بين قبور المسلمين والكفار فإن قبورهم موجهة إلى غير القبلة
وإذا أصاب الخيل مغل أتوا بها إلى قبورهم كما يأتون بها إلى قبور الكفار وهذه عادة معروفة للخيل إذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلى قبور النصارى بدمشق وإن كانوا بمساكن الاسماعيلية والنصيرية ونحوهما ذهبوا بها إلى قبورهم وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلى قبور اليهود والنصارى أو لهؤلاء العبيديين الذين قد يتسمون بالأشراف وليسوا من الأشراف ولا يذهبون بالخيل إلى قبور الأنبياء والصالحين ولا إلى قبور عموم المسلمين وهذا أمر مجرب معلوم عند الجند وعلمائهم وقد ذكر سبب ذلك: أن الكفار يعاقبون في قبورهم فتسمع أصواتهم البهائم كما أخبر النبي ﷺ بذلك أن الكفار يعذبون في قبورهم ففي الصحيحين عن النبي ﷺ: أنه كان راكبا على بغلته فمر بقبور فحادت به كادت تلقيه فقال: هذه أصوات يهود تعذب في قبورها فإن البهائم إذا سمعت ذلك الصوت المنكر أوجب لها من الحرارة ما يذهب المغل وكان الجهال يظنون أن تمشية الخيل عند قبور هؤلاء لدينهم وفضلهم فلما تبين لهم أنهم يمشونها عند قبور اليهود والنصارى والنصيرية ونحوهم دون قبور الأنبياء والصالحين وذكر العلماء أنهم لا يمشونها عند قبر من يعرف بالدين بمصر والشام وغيرها إنما يمشونها عند قبور الفجار والكفار تبين بذلك ما كان مشتبها
ومن علم حوادث الإسلام وما جرى فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين: علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذي بعث الله به رسوله أعظم من عداوة التتار وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدا بل إبطال جميع المرسلين وأنهم لا يقروه بما جاء به الرسول عن الله ولا من خبره ولا من أمره وأن لهم قصدا مؤكدا في إبطال دعوته وإفساد ملته وقتل خاصته واتباع عترته وأنهم في معاداة الإسلام بل وسائر الملل: أعظم من اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل: كإثبات الصانع والرسل والشرائع واليوم الآخر ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل كما قال الله سبحانه: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }
وأما هؤلاء القرامطة فإنهم في الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به لا يظهرونه كما يظهر أهل الكتاب دينهم لأنهم لو أظهروه لنفر عنهم جماهير أهل الأرض من المسلمين وغيرهم وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارا يفرقون بين مقالتها ومقالة الجمهور ويرون كتمان مذهبهم واستعمال التقية وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلما في الباطن ولا يكون زنديقا لكن يكون جاهلا مبتدعا وإذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم وإسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوى لكن جمهور الناس يخالفونهم: فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى
وإنما يقرب منهم الفلاسفة المشاؤون أصحاب أرسطو فإن بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة
ولهذا يوجد فضلاء القرامضة في الباطن متفلسفة: كسنان الذي كان بالشام والطوسي الذي كان وزيرا لهم بالألموت ثم صار منجما لهؤلاء وملك الكفار وصنف شرح الاشارات لابن سينا وهو الذي أشار على ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم على الذين يسمونهم الداسميدية فهؤلاء وأمثالهم يعلمون أن ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك أنه باطل لكن يكون أحدهم متفلسفا ويدخل معهم لموافقتهم له على ما هو فيه من الإقرار بالرسل والشرائع في الظاهر وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار أنها مخالفة لما جاءت به الرسل
فإن المتفلسفة متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر بالنفي والتعطيل الذي يوافق مذهبهم وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة بل يوجبونها على العامة ويوجبون بعضها على الخاصة أو لا يوجبون ذلك ويقولون إن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة وإن كان هو كذبا في الحقيقة
ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد صلاح العامة كما فعل ابن التومرت الملقب بالمهدي ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة لأنه كان مثلها في الجملة ولم يكن منافقا مكذبا للرسل معطلا للشرائع ولا يجعل للشريعة العملية باطنا يخالف ظاهرها بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة ونوع من رأي الخوارج الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب
فهؤلاء القرامطة هم في الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصارى وأما في الظاهر فيدعون الإسلام بل وإيصال النسب إلى العترة النبوية وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء وان أمامهم معصوم فهم فى الظاهر من أعظم الناس دعوى بحقائق الإيمان وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعى النبوة من الكذابين قال تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا
فإن الذي يضاهي الرسول الصادق لا يخلو: إما أن يدعي مثل دعوته فيقول: إن الله أرسلني وأنزل علي وكذب على الله أو يدعي أنه يوحى إليه ولا يسمي موحيه كما يقول: قيل لي ونوديت وخوطبت ونحو ذلك ويكون كاذبا فيكون هذا قد حذف الفاعل أو لا يدعي واحدا من الأمرين لكنه يدعي أنه يمكنه أنه يأتي بما أتى به الرسول ووجه القسمة أن ما يدعيه في مضاهاة الرسول: إما أن يضيفه إلى الله أو إلى نفسه أو لا يضيفه إلى أحد
فهؤلاء في دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصارى فكيف بالقرامطة الذين يكذبون على الله أعظم مما فعل مسيلمة وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة وبسط حالهم يطول لكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا
وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالما بحقيقة باطنهم ولا موافقا لهم على ذلك فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين الموالي لهم الناصر لهم بمنزلة اتباع الاتحادية الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود وأن الخالق هو المخلوق فمن كان مسلما في الباطن وهو جاهل معظم لقول ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم وكذا من كان معظما للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد فإن نسبة هؤلاء إلى الجهمية كنسبة أولئك إلى الرافضة والجهمية ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي ولا جهمي صريح ولكن لا يفهم كلامهم ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا والله أعلم
109 - 755 - مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على إظهار الحق المبين واخماد شغب المبطلين في النصيرية القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم وانكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا وبأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي: علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزيهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها وبأن الصيام عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا واسم ثلاثين امرأة يعدونهم في كتبهم ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم وبأن إلههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو عندهم الاله في السماء والامام في الأرض فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه
وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه ويشربون معه الخمر ويطلعونه على أسرارهم ويزوجونه من نسائهم حتى يخاطبه معلمه وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه على كتمان دينه ومعرفة مشائخه وأكابر أهل مذهبه وعلى أن لا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه وعلى أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره فيعرفه انتقال الاسم والمعنى في كل حين وزمان فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعنى هو شيث والاسم يعقوب والمعنى هو يوسف ويستدلون على هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف - عليهما الصلاة والسلام - فيقولون: أما يعقوب فإنه كان الاسم فما قدر أن يتعدى منزلته فقال: { سوف أستغفر لكم ربي } وأما يوسف فكان المعنى المطلوب فقال: { لا تثريب عليكم اليوم } فلم يعلق الأمر بغيره لأنه علم أنه الاله المتصرف ويجعلون موسى هو الاسم ويوشع هو المعنى ويقولون: يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره وهل ترد الشمس إلا لربها؟ ! ويجعلون سليمان هو الاسم وآصف هو المعنى القادر المقتدر ويقولون: سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة وآصف كان المعنى القادر المقتدر وقد قال قائلهم:
( هابيل شيث يوسف يوشع آصف شمعون الصفا حيدر )
ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله ﷺ فيقولون: محمد هو الاسم وعلي هو المعنى ويوصلون العدد على هذا الترتيب في كل زمان إلى وقتنا هذا فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليا هو الرب وأن محمدا هو الحجاب وأن سلمان هو الباب وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور السنة سبع مائة فقال:
( أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين )
( ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين )
( ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين )
ويقولون إن ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال وكذلك الخمسة الأيتام والإثنا عشر نقيبا وأسماؤهم مشهورة عندهم ومعلومة من كتبهم الخبيثة وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبدا سرمدا على الدوام والاستمرار ويقولون: إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الأبليسية أبو بكر رضي الله عنه ثم عثمان - رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين - فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة
وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام [ وهم ] معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم ومن عامة الناس أيضا فى هذا الزمان لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت إستيلاء الافرنج المخذولين على البلاد الساحلية فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم والابتلاء بهم كثير جدا
فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم أو يتزوج منهم؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا؟ وما حكم الجبن المعمول من انفحة ذبيحتهم وما حكم أوانيهم وملابسهم؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم؟ أم يجب على ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة وهل يأثم إذا أخر طردهم؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى فأخره ولي الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين أو أرصده لذلك
هل يجوز له فعل هذه الصور؟ أم يجب عليه؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال أم لا؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده الله تعالى بإخماد باطلهم وقطعهم من حصون المسلمين وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وألزمهم بالصوم والصلاة ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد سيبس وديار الافرنج على أهلها؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكبر أجرا؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم فلعل الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم أم يجوز التغافل عنهم والاهمال؟ وما قدر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والملازم عليه؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى انه على كل شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: الحمد لله رب العالمين هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى؟ بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد ﷺ أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد ﷺ ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها يدعون أنها علم الباطن من جنس ما ذكر من السائل وما غير هذا الجنس فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الالحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه إذ مقصودهم إنكار الايمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل ومن جنس قولهم: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم والصيام المفروض كتاب أسرارهم وحج البيت العتيق زيارة شيوخهم وأن { يدا أبي لهب } هما أبو بكر وعمر وان { النبإ العظيم } والإمام المبين هو علي بن أبي طالب: ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والالحاد الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم
ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائما مع كل عدو للمسلمين فهم مع النصارى على المسلمين ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار ومن أعظم أعيادهم إذا استولى - والعياذ بالله تعالى - النصارى على ثغور المسلمين فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فتحها معاوية بن أبي سفيان إلى أثناء المائة الرابعة
فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين الشهيد وصلاح الدين وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضا أرض مصر فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة واتفقوا هم والنصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية
ثم أن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين لا بمعاونتهم ومؤازرتهم فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو النصير الطوسي كان وزيرا لهم بالألموت وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء
ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون الملاحدة وتارة يسمون القرامطة وتارة يسمون الباطنية وتارة يسمون الاسماعيلية وتارة يسمون النصيرية وتارة يسمون الخرمية وتارة يسمون المحرمة وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه إما لنسب وأما لمذهب وإما لبلد وإما لغير ذلك
وشرح مقاصدهم يطول وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولا بشيء من كتب الله المنزلة لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه ولا بأن له دينا أمر به ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم على هذه الدار
وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الالهيين وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور ويضمون إلى ذلك الرفض
ويحتجون لذلك من كلام النبوات: إما بقول مكذوب ينقلونه كما ينقلون عن النبي ﷺ أنه قال: أول ما خلق الله العقل والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث؟ ولفظه إن الله لما خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل فقال له: أدبر فأدبر فيحرفون لفظه فيقولون أول ما خلق الله العقل ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل وإما بلفظ ثابت عن النبي ﷺ فيحرفونه عن مواضعه كما يصنع أصحاب رسائل إخوان الصفا ونحوهم فإنهم من أئمتهم
وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم حتى صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين؟ وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها الدعوة الهادية درجات متعددة ويسمون النهاية البلاغ الأكبر والناموس الأعظم ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالى والاستهزاء به وبمن يقر به حتى قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه أيضا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة فمنهم من أحسن في طلبها ومنهم من أساء في طلبها حتى قتل ويجعلون محمدا وموسى من القسم الأول ويجعلون المسيح من القسم الثاني وفيه من الاستهزاء بالصلاة والزكاة والصوم والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم وسائر الفواحش: ما يطول وصفه ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم
وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم ولا يتزوج منهم امرأة ولا تباح ذبائحهم
وأما الجبن المعمول بأنفحتهم ففيه قولان مشهوران للعلماء كسائر أنفحة الميتة وكأنفحة ذبيحة المجوس وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم أنهم لا يذكون الذبائح فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين أنه يحل هذا الجبن لأن أنفحة الميتة طاهرة على هذا القول لأن الأنفحة لا تموت بموت البهيمة وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أن هذا الجبن نجس لأن الأنفحة عند هؤلاء نجسة لأن لبن الميتة وانفحتها عندهم نجس ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس وأصحاب القول الثاني نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصارى فهذه مسألة اجتهاد للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين
وأما أوانيهم وملابسهم فكأواني المجوس وملابس المجوس على ما عرف من مذاهب الأئمة والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها فإن ذبائحهم ميتة فلا بد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك فأما الآنية التي لا يغلب على الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها وقد توضأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جرة نصرانية فما شك فى نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك
ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم فإن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه ﷺ عن الصلاة على المنافقين كعبد الله بن أبي ونحوه وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين ولا يظهرون مقالة تخالف دين الإسلام لكن يسرون ذلك فقال الله: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفار والإلحاد
وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم: فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر فإن المخامر قد يكون له غرض: إما مع أمير العسكر وإما مع العدو وهؤلاء مع الملة نبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى إفساد الجند على ولي الأمر وإخراجهم عن طاعته
والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر فإن ضررهم في الثغر أشد وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام وعلى النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم؟ ! !
ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه بل أي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك
وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم فلهم إما المسمى وإما أجرة المثل لأنهم عوقدوا على ذلك فإن كان العقد صحيحا وجب المسمى وإن كان فاسدا وجبت أجرة المثل وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم فالعقد عقد فاسد فلا يستحقون إلا قيمة عملهم فإن لم يكونوا عملوا عملا له قيمة فلا شيء لهم لكن دماؤهم وأموالهم مباحة
وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم فإن مالهم يكون فيء لبيت المال لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم وفيهم من يعرف وفيهم من قد لا يعرف فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم فلا يتركون مجتمعين ولا يمكنون من حمل السلاح ولا أن يكونوا من المقاتلة ويلزمون شرائع الإسلام: من الصلوات الخمس وقراءة القرآن ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام ويحال بينهم وبين معلمهم
فإن أبا بكر الصديق رضى الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا على أهل الردة وجاؤوا إليه قال لهم الصديق: اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية قالوا: يا خليفة رسول الله ! هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية؟ قال: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ونقسم ما أصبنا من أموالكم وتردون ما أصبتم من أموالنا وتنزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب الخيل وتتركون تتبعون أذناب الابل حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرا بعد ردتكم فوافقه الصحابة على ذلك إلا في تضمين قتلى المسلمين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم على الله يعني هم شهداء فلا دية لهم فاتفقوا على قول عمر في ذلك
وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن كما اتفقوا عليه آخرا وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى هو القول الأول فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا ويلزمون شرائع الإسلام حتى يظهر ما يفعلونه من خير أو شر ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم وسير إلى بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور فأما أن يهديه الله تعالى وأما أن يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين
ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين وحفظ رأس المال مقدم على الربح
وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب
ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى: وقد قال الله تعالى لنبيه ﷺ: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين
والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الامكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى: فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم: كما قال الله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الامكان فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره
ومعلوم أن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هو أفضل الأعمال كما قال ﷺ: [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالى ] وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: [ إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله ] وقال ﷺ: [ رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ] ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة والجهاد أفضل من الحج والعمرة كما قال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
756 - 110 - سئل: عن الدرزية والنصيرية: ما حكمهم؟
أجاب: هؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم بل ولا يقرون بالجزية فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا وجوب صوم رمضان ولا وجوب الحج ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين
فأما النصيرية فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير وكان من الغلاة الذين يقولون: إن عليا إله وهم ينشدون:
( أشهد إن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين )
( ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين )
( ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين )
وأما الدرزية فأتباع هشتكين الدرزي وكان من موالي الحاكم أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة فدعاهم إلى إلاهية الحاكم ويسمونه الباري العلام ويحلفون به وهم من الاسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله وهم أعظم كفرا من الغالية يقولون بقدم العالم وإنكار المعاد وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب وغايتهم أن يكونوا فلاسفة على مذهب أرسطو وأمثاله أو مجوسا وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس ويظهروا التشيع نفاقا والله أعلم
757 - 111 - مسألة: في طائفة من رعية البلاد كانوا يرون مذهب النصيرية ثم أجمعوا على رجل واختلفت أقوالهم فيه فمنهم من يزعم أنه إله ومنهم من يزعم أنه نبي مرسل ومنهم من ادعى أنه محمد بن الحسن يعنون المهدي وأمروا من وجده بالسجود له وأعلنوا بالكفر بذلك وسب الصحابة وأظهروا الخروج عن الطاعة وعزموا على المحاربة فهل يجب قتالهم وقتل مقاتلتهم وهل تباح ذراريهم وأموالهم أم لا؟
الجواب: الحمد لله هؤلاء يجب قتالهم ما داموا ممتنعين حتى يلتزموا شرائع الإسلام فإن النصيرية من أعظم الناس كفرا بدون أتباعهم لمثل هذا الدجال فكيف إذا اتبعوا مثل هذا الدجال وهم مرتدون من أسوأ الناس ردة تقتل مقاتلهم وتغنم أموالهم وسبي الذرية فيه نزاع لكن أكثر العلماء على أنه تسبى الصغار من أولاد المرتدين وهذا هو الذي دلت عليه سيرة الصديق في قتال المرتدين
وكذلك قد تنازع العلماء في استرقاق المرتد وطائفة تقول أنها تسترق كقول أبي حنيفة وطائفة تقول لا تسترق كقول الشافعي وأحمد والمعروف عن الصحابة هو الأول وأنه تسترق منهن المرتدات نساء المرتدين فإن الحنفية التي تسرى بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أم ابنه محمد بن الحنفية من سبي بني حنيفة المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه والصحابة لما بعث خالد بن الوليد في قتالهم
والنصيرية لا يكتمون أمرهم بل هم معروفون عند جميع المسلمين لا يصلون الصلوات الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت ولا يؤدون الزكاة ولا يقرون بوجوب ذلك ويستحلون الخمر وغيرها من المحرمات ويعتقدون أن الإله علي بن أبي طالب ويقولون:
( نشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين )
( ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين )
( ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين )
وأما إذا لم يظهروا الرفض وأن هذا الكذاب هو المهدي المنتظر وامتنعوا فإنهم يقاتلون أيضا لكن يقاتلون كما يقاتل الخوارج المارقون الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمر رسول الله ﷺ وكما يقاتل المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فهؤلاء يقاتلون ما داموا ممتنعين ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم التي لم يستعينوا بها على القتال وأما ما استعانوا به على قتال المسلمين من خيل وسلاح وغير ذلك ففي أخذه نزاع بين العلماء وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه نهب عسكره ما في عسكر الخوارج فإن رأى ولي الأمر أن يستبيح ما في عسكرهم من المال كان هذا سائغا
هذا ما داموا ممتنعين فإن قدر عليهم فإنه يجب أن يفرق شملهم ويحسم مادة شرهم وإلزامهم شرائع الإسلام وقتل من أصر على الردة منهم وأما قتل من أظهر الإسلام وأبطن كفرا منه وهو المنافق الذي تسميه الفقهاء الزنديق فأكثر الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة والشافعي
ومن كان داعيا منهم إلى الضلال لا ينكف شره إلا بقتله قتل أيضا وإن أظهر التوبة وإن لم يحكم بكفره كأئمة الرفض الذين يضلون الناس كما قتل المسلمون غيلان القدري والجعد بن درهم وأمثالهما من الدعاة فهذا الدجال يقتل مطلقا والله أعلم