الفتاوى الكبرى/كتاب الصلاة/11
179 - / 95 - مسألة: في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة هل هي مستحبة أم لا؟ وما كان فعل النبي ﷺ في الصلاة؟ وقوله: دبر كل صلاة؟
الجواب: الحمد لله قد روي في قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة حديث لكنه ضعيف ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي ولم يكن النبي ﷺ وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي ولا غيرها من القرآن فجهر الإمام والمأموم بذلك والمداومة عليها بدعة مكروهة بلا ريب فإن ذلك احداث شعار بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائما أو خواتيم البقرة أو أول الحديد أو آخر الحشر أو بمنزلة اجتماع الإمام والمأموم دائما على صلاة ركعتين عقيب الفريضة ونحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع.
وأما إذا قرأ الإمام آية الكرسي في نفسه أو قرأها أحد المأمومين فهذا لا بأس به إذ قراءتها عمل صالح وليس في ذلك تغيير لشعائر الإسلام كما لو كان له ورد من القرآن والدعاء والذكر عقيب الصلاة
وأما الذي ثبت فى فضائل الأعمال في الصحيح عن النبي ﷺ من الذكر عقيب الصلاة ففي الصحيح عن المغيرة بن شعبة أنه كان يقول دبر كل صلاة: [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ]
وفي الصحيح أيضا عن ابن الزبير أنه كان يقول: [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ] وثبت في الصحيح أنه قال: [ من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين وذلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ]
وقد روي في الصحيحين أنه يقول: كل واحد خمسة وعشرين ويزيد فيها التهليل وروي أنه يقول كل واحد عشر ويروى أحد عشر مرة وروي أنه يكبر أربعا وثلاثين وعن ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله ﷺ قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته وفي لفظ: ما كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير فهذه هي الأذكار التي جاءت بها السنة في أدبار الصلاة.
180 - / 96 - مسألة: فيمن يقول: أنا أعتقد أن من أحدث شيئا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله ﷺ وصح عنه أنه قد أساء وأخطأ إذ لو ارتضى أن يكون رسول الله نبيه وإمامه ودليله لاكتفى بما صح عنه من الأذكار فعدوله إلى رأيه واختراعه جهل وتزيين من الشيطان وخلاف للسنة إذ الرسول ﷺ لم يترك خيرا إلا دلنا عليه وشرعه لنا ولم يدخر الله عنه خيرا بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة إذ هو أكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا؟
الجواب: الحمد لله لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء وسالكها على سبيل أمان وسلامة والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان ولا يحيط به إنسان وما سواها من الأذكار قد يكون محرما وقد يكون مكروها وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس وهي جملة يطول تفصيلها
وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به بخلاف ما يدعو به المرء أحيانا من غير أن يجعله للناس سنة فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرما لم يجز الجزم بتحريمه لكن قد يكون فيه ذلك والإنسان لا يشعر به وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت فهذا وأمثاله قريب
وأما اتخاذ ورد غير شرعي واستنان ذكر غير شرعي: فهذا مما ينهى عنه ومع هذا ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة ونهاية المقاصد العلية ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد
181 - / 97 - مسألة: في الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا؟ ومن أنكر على إمام لم يدع عقيب صلاة العصر هل هو مصيب أم مخطئ؟
الجواب: الحمد لله لم يكن النبي ﷺ يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر ولا نقل ذلك عن أحد ولا استحب ذلك أحد من الأئمة ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك.
ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما فتعوض بالدعاء عن الصلاة.
واستحب طائفة أخرى من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء فإن هذا ليس مأمورا به لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب في هذا الموطن والمنكر على التارك أحق بالانكار منه بل الفاعل أحق بالإنكار فإن المداومة على ما لم يكن النبي ﷺ يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعا بل مكروه كما لو داوم على الدعاء قبل الدخول في الصلوات أو داوم على القنوت في الركعة الأولى أو في الصلوات الخمس أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة ونحو ذلك فإنه مكروه وإن كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي ﷺ أحيانا وقد كان عمر يجهر بالاستفتاح أحيانا وجهر رجل خلف النبي ﷺ بنحو ذلك فأقره عليه فليس كل ما يشرع فعله أحيانا تشرع المداومة عليه
ولو دعا الإمام والمأموم أحيانا عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعد هذا مخالفا للسنة كالذي يداوم على ذلك والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي ﷺ كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام ويأمر بذلك كما قد بسطنا الكلام على ذلك وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع وذلك لأن المصلي يناجي ربه فإذا سلم انصرف عن مناجاته ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب دون سؤاله بعد انصرافه كما أن من كان يخاطب ملكا أو غيره فإن سؤاله وهو مقبل على مخاطبته أولى من سؤاله له بعد انصرافه
182 - / 98 - مسألة: في هذا الذي يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء: هل هو مكروه؟ وهل ورد عن أحد من السلف فعل ذلك؟ ويتركون أيضا الذكر الذي صح أن النبي ﷺ كان يقوله ويشتغلون بالدعاء؟ فهل [ الأفضل ] الاشتغال بالذكر الوارد عن النبي ﷺ أو هذا الدعاء؟ وهل صح أن النبي ﷺ كان يرفع يديه ويمسح وجهه أم لا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين الذي نقل عن النبي ﷺ من ذلك بعد الصلاة المكتوبة إنما هو الذكر المعروف كالأذكار التي في الصحاح وكتب السنن والمساند وغيرها مثل ما في الصحيح: [ أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثا ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ] وفي الصحيح أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ]
وفي الصحيح أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات في دبر المكتوبة: [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ]
وفي الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقيب انصراف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله ﷺ وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله ﷺ بذلك وفي الصحيح أنه قال: [ من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد ثلاثا وثلاثين وكبر ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير: غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ] وفي الصحيح أيضا أنه يقول: [ سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين ] وفي السنن أنواع أخر
والمأثور ستة أنواع:
أحدها: أنه يقول: هذه الكلمات عشرا عشرا: فالمجموع ثلاثون.
والثاني: أن يقول كل واحدة إحدى عشرة فالمجموع ثلاث وثلاثون.
والثالث: أن يقول كل واحدة ثلاثا وثلاثين فالمجموع تسع وتسعون.
والرابع: أن يختم ذلك بالتوحيد التام فالمجموع مائة.
والسادس: أن يقول كل واحد من الكلمات الأربع خمسا وعشرين فالمجموع مائة.
وأما قراءة آية الكرسي فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة.
وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي ﷺ ولكن نقل عنه أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة: [ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ] ونحو ذلك ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة كما يراد بدبر الشيء مؤخره وقد يراد به ما بعد انقضائها كما في قوله تعالى: { وأدبار السجود } وقد يراد به مجموع الأمرين وبعض الأحاديث يفسر بعضا لمن نتبع ذلك وتدبره وبالجملة فهنا شيئان:
أحدهما: دعاء المصلي المنفرد كدعاء المصلي صلاة الاستخارة وغيرها من الصلوات ودعاء المصلي وحده إماما كان أو مأموما
والثاني: دعاء الإمام والمأمومين جميعا فهذا الثاني لا ريب أن النبي ﷺ لم يفعله في أعقاب المكتوبات كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه ثم التابعون ثم العلماء كما نقلوا ما هو دون ذلك ولهذا كان العلماء المتأخرون في هذا الدعاء على أقوال:
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ولم يكن معهم في ذلك سنة يحتجون بها وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما.
ومنهم: من استحبه إدبار الصلوات كلها وقال: لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم وليس معهم في ذلك سنة إلا مجرد كون الدعاء مشروعا وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة فالدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء في آخرها واجب وأوجبوا الدعاء الذي أمر به النبي ﷺ آخر الصلاة بقوله: [ إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ] رواه مسلم وغيره وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة وهو قول بعض أصحاب أحمد وكذلك في حديث ابن مسعود: [ ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ] وفي حديث عائشة وغيرها أنه كان يدعو في هذا الموطن والأحاديث بذلك كثيرة
والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة فإن المصلي يناجي ربه فما دام في الصلاة لم ينصرف فإنه يناجي ربه فالدعاء حينئذ مناسب لحاله أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له ودعاء وإنما هو موطن ذكر له وثناء عليه فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه في الصلاة أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى
وكما أن من العلماء من استحب عقب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به السنة: فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة ولا يستعملون الذكر المأثور بل قد يكرهون ذلك وينهون عنه فهؤلاء مفرطون بالنهي عن المشروع وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع
وأما رفع النبي ﷺ يديه في الدعاء: فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة والله أعلم.
183 - / 9 9 - مسألة: في رجل لا يطمئن في صلاته؟
الجواب: الطمأنينة في الصلاة واجبة وتاركها مسيء باتفاق الأئمة بل جمهور أئمة الإسلام: كمالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة وأبو حنيفة ومحمد لا يخالفون في أن تارك ذلك مسيء غير محسن بل هو آثم عاص تارك للواجب
وغيرهم يوجبون الإعادة على من ترك الطمأنينة ودليل وجوب الإعادة ما في الصحيحين: [ أن رجلا صلى في المسجد ركعتين ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: ارجع فصل فإنك لم تصل مرتين أو ثلاثا - فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني ما يجزئني في صلاتي فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها ] فهذا كان رجلا جاهلا ومع هذا فأمره النبي ﷺ أن يعيد الصلاة وأخبره أنه لم يصل فتبين بذلك أن من ترك الطمأنينة فقد أخبر الله ورسوله أنه لم يصل فقد أمره الله ورسوله بالإعادة ومن يعص الله ورسوله فله عذاب أليم
وفي السنن عن النبي ﷺ قال: [ لا يقبل الله صلاة رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ] يعني يقيم صلبه: إذا رفع من الركوع وإذا رفع من السجود وفي الصحيح: أن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - رأى رجلا لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فقال: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ كذا وكذا فقال: أما إنك لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا ﷺ
وقد روى هذا المعنى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا إلى النبي ﷺ وأنه قال لمن نقر في الصلاة: [ أما إنك لو مت على هذا مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا ﷺ ] أو نحو هذا وقال: [ مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وسجوده مثل الذي يأكل لقمة أو لقمتين فما تغني عنه ]
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: [ تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ] وقد كتبنا في ذلك من دلائل الكتاب والسنة في غير هذا الموضع ما يطول ذكره هنا والله أعلم
184 - / 100 - مسألة: فيمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة ويحصل له الوسواس تارة فما الذي يستعين به على دوام الحضور في الصلاة؟ وهل تكون تلك الوساوس مبطلة للصلاة؟ أو منقصة لها أم لا؟ وفي قول عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة هل كان ذلك يشغله عن حاله في جمعيته أو لا؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلا باتفاق أهل العلم بل ينقص الأجر كما قال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها إلا سبعها إلا ثمنها إلا تسعها إلا عشرها ]
ويقال: إن النوافل شرعت لجبر النقص الحاصل في الفرائض كما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: [ أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فإن أكملها وإلا قيل: أنظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر أعماله ] وهذا الاكمال يتناول ما نقص مطلقا
وأما الوسواس الذي يكون غالبا على الصلاة فقد قال طائفة - منهم أبو عبد الله ابن حامد وأبو حامد الغزالي - وغيرهما: أنه يوجب الإعادة أيضا لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: [ إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ] وقد صح عن النبي ﷺ: الصلاة مع الوسواس مطلقا ولم يفرق بين القليل والكثير.
ولا ريب أن الوسواس كلما قل في الصلاة كان أكمل كما في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ]
وكذلك في الصحيح أنه قال: [ من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بوجهه وقلبه غفر له ما تقدم من ذنبه ]
ومازال في المصلين من هو كذلك كما قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه: في ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن: كنت أنا أنا إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه وإذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثا لا يقع في قلبي ريب أنه الحق وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول ويقال لها وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر وكان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه وقالوا لعامر بن عبد القيس: أتحدث نفسك بشيء في الصلاة فقال: أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟ قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة فقال: أبالجنة والحور ونحو ذلك؟
فقالوا: لا ولكن بأهلينا وأموالنا فقال: لأن تختلف الاسنة في أحب إلي وأمثال هذا متعدد
والذي يعين على ذلك شيئان: قوة المقتضى وضعف الشاغل
أما الأول: فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر القراءة والذكر والدعاء ويستحضر أنه مناج لله تعالى كأنه يراه فإن المصلي إذا كان قائما فإنما يناجي ربه والاحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد وهذا يكون بحسب قوة الإيمان والأسباب المقوية للإيمان كثيرة ولهذا كان النبي ﷺ يقول: [ حبب إلي من ديناكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ] وفي حديث آخر أنه قال: [ أرحنا يا بلال بالصلاة ] ولم يقل: أرحنا منها وفي أثر آخر ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهموما حتى يقوم إلى الصلاة أو كلام يقارب هذا وهذا باب واسع
فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه والتصديق بأخباره وغير ذلك مما يتباين الناس فيه ويتفاضلون تفاضلا عظيما ويقوي ذلك كلما ازداد العبد تدبرا للقرآن وفهما ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته وتفقره إليه في عبادته واشتغاله به بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه ويأنس به ويلتذ بذكره ويستريح به ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله ومتى كان للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكا لا صلاح معه ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه ولا حول ولا قوة إلا به ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه.
ولهذا يروى: أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع علمها في الكتب الأربعة وجمع الكتب الأربعة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين} ونظير ذلك قوله: { فاعبده وتوكل عليه} وقوله: {عليه توكلت وإليه متاب } وقوله: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقد قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ولهذا قال النبي ﷺ: [رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ] وبسط هذا طويل لا يحتمله هذا الموضع.
وأما زوال العارض: فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة وهذا في كل عبد بحسبه فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها
والوساوس: إما من قبيل الحب من أن يخطر بالقلب ما قد كان أو من قبيل الطلب وهو أن يخطر في القلب ما يريد أن يفعله ومن الوساوس ما يكون من خواطر الكفر والنفاق فيتألم لها قلب المؤمن تألما شديدا كما قال الصحابة: يا رسول الله ! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به فقال: أوجدتموه؟ ! قالوا: نعم ! قال: ذلك صريح الإيمان وفي لفظ: إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة
قال كثير من العلماء: فكراهة ذلك وبغضه وفرار القلب منه هو صريح الإيمان والحمد لله الذي كان غاية كيد الشيطان الوسوسة فإن شيطان الجن إذا غلب وسوس وشيطان الإنس إذا غلب كذب والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره لا بد له من ذلك فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } وكلما أراد العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس فقال صدقوا وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب وتفاصيل ما يعرض للسالكين طويل موضعه
وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من قوله: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة فذاك لأن عمر كان مأمورا بالجهاد وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو إما حال القتال وإما غير حال القتال فهو مأمور بالصلاة ومأمور بالجهاد فعليه أن يؤدي الواجبين بحسب الإمكان وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }
ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينته حال الأمن فإذا قدر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن ولما ذكر سبحانه وتعالى صلاة الخوف قال: { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف
ومع هذا: فالناس متفاوتون في ذلك فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة مع تدبره للأمور بها وعمر قد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وهو المحدث الملهم فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى ولا ريب أن صلاة رسول الله ﷺ حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة فكيف بالباطنة
وبالجملة فتفكر المصلي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته ليس كتفكره فيما ليس بواجب أو فيما لم يضق وقته وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبير الجيش إلا في تلك الحال وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته والإنسان دائما يذكر في الصلاة ما لا يذكره خارج الصلاة ومن ذلك ما يكون من الشيطان كما يذكر أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن مالا وقد نسى موضعه فقال: قم فصل فقام فصلى فذكره فقيل له: من أين علمت ذلك؟ قال: علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن لكن العبد الكيس يجتهد في كمال الحضور مع كمال فعل بقية المأمور ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
185 - / 101 - مسألة: في وسواس الرجل في صلاته وما حد المبطل للصلاة؟ وما حد المكروه منه؟ وهل يباح منه شيء في الصلاة؟ وهل يعذب الرجل في شيء منه؟ وما حد الإخلاص في الصلاة؟ وقول النبي ﷺ ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عقل منها؟
الجواب: الحمد لله: الوسواس نوعان:
أحدهما: لا يمنع ما يؤمر به من تدبر الكلم الطيب والعمل الصالح الذي في الصلاة بل يكون بمنزلة الخواطر فهذا لا يبطل الصلاة لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته الأول شبه حال المقربين.
والثاني: شبه حال المقتصدين.
وأما الثالث: فهو ما منع الفهم وشهود القلب بحيث يصير الرجل غافلا فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب كما روى أبو داود في سننه عن عمار بن ياسر عن النبي ﷺ قال: [ إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها حتى قال: إلا عشرها ] فأخبر ﷺ أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر.
وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها ولكن هل يبطل الصلاة ويوجب الإعادة؟ فيه تفصيل فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور والغالب الحضور لم تجب الإعادة وإن كان الثواب ناقصا فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة وإنما يجبر بعضه بسجدتي السهو وأما إن غلبت الغفلة على الحضور ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: لا تصح الصلاة في الباطن وإن صحت في الظاهر كحقن الدم لأن مقصود الصلاة لم يحصل فهو شبيه صلاة المرائي فإنه بالاتفاق لا يبرأ بها في الباطن وهذا قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي وغيرهما
والثاني: تبرأ الذمة فلا تجب عليه الإعادة وإن كان لا أجر له فيها ولا ثواب بمنزلة صوم الذي لم يدع قول الزور والعمل به فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة واستدلوا بما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: [ إذا أذن المؤذن بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا أذكر كذا ما لم يكن يذكر حتى يظل لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين ] فقد أخبر النبي ﷺ أن الشيطان يذكره بأمور حتى لا يدري كم صلى وأمره بسجدتين للسهو ولم يأمره بالإعادة ولم يفرق بين القليل والكثير
وهذا القول أشبه وأعدل فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور لا تدل على وجوب الاعادة لا باطنا ولا ظاهرا والله أعلم
186 - / 102 - مسألة: فيما إذا أحدث المصلي قبل السلام؟
الجواب: إذا أحدث المصلي قبل السلام بطلت مكتوبة كانت أو غير مكتوبة
871 - / 103 - مسألة: في رجل ضحك في الصلاة فهل تبطل صلاته أم لا؟
الجواب: أما التبسم فلا يبطل الصلاة وأما إذا قهقه في الصلاة فإنها تبطل ولا ينتقض وضوؤه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد لكن يستحب له أن يتوضأ في أقوى الوجهين لكونه أذنب ذنبا وللخروج من الخلاف فإن مذهب أبي حنيفة ينتقض وضوؤه والله أعلم
188 - / 104 - مسألة: في النحنحة والسعال والنفخ والأنين وما أشبه ذلك في الصلاة: فهل تبطل بذلك أم لا؟ وأي شيء الذي تبطل الصلاة به من هذا أو غيره؟ وفي أي مذهب؟ وأيش الدليل على ذلك؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين الأصل في هذا الباب أن النبي ﷺ قال: [ إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ] وقال: [ إن الله يحدث من أمره ما يشاء ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ] قال زيد بن أرقم: فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وهذا مما اتفق عليه المسلمون قال ابن المنذر وأجمع أهل العلم: على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة والعامد من يعلم أنه في صلاة وأن الكلام محرم
قلت: وقد تنازع العلماء في الناسي والجاهل والمكره والمتكلم لمصلحة الصلاة وفي ذلك كله نزاع في مذهب أحمد وغيره من العلماء إذا عرف ذلك فاللفظ على ثلاث درجات.
أحدها: أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه وإما مع لفظ غيره كفى وعن فهذا الكلام مثل: يد ودم وفم وخذ
الثاني: أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه والأنين والبكاء ونحو ذلك.
الثالث: أن لا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع كالنحنحة فهذا القسم كان أحمد يفعله في صلاته وذكر أصحابه عنه روايتين في بطلان الصلاة بالنحنحة فإن قلنا: تبطل ففعل ذلك لضرورة فوجهان فصارت الأقوال فيها ثلاثة:
أحدها: إنها لا تبطل بحال وهو قول أبي يوسف وإحدى الروايتين عن مالك بل ظاهر مذهبه
والثاني: تبطل بكل حال وهو قول الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ومالك
والثالث: إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بطلت وهو قول أبي حنيفة ومحمد وغيرهما وقالوا: إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه لم تبطل قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرا فرخص فيه للحاجة ومن أبطلها قال: إنه يتضمن حرفين وليس من جنس إذكار الصلاة فأشبه القهقهة والقول الأول أصح وذلك أن النبي ﷺ إنما حرم التكلم في الصلاة وقال: [ إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ] وأمثال ذلك من الألفاظ التي تتناول الكلام والنحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلا فإنها لا تدل بنفسها ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى ولا يسمى فاعلها متكلما وإنما يفهم مراده بقرينة فصارت كالإشارة
وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان:
أحدهما: أن تدل على معنى بالطبع
والثاني: إنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلاما يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالاجماع ذكره ابن المنذر
وهذه الأنواع فيها نزاع بل قد يقال: إن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة فهي كالصوت العالي الممتد الذي لا حرف معه وأيضا فإن فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها فأبطلت لذلك لا لكونه متكلما وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلاما وليس مجرد الصوت كلاما وقد روي عن علي رضي الله عنه قال: كان لي من رسول الله ﷺ مدخلان بالليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي رواه الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي بمعناه
وأما النوع الثاني: وهو ما يدل على المعنى طبعا لا وضعا فمنه النفخ وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضا:
إحداهما: لا تبطل وهو قول إبراهيم النخعي وابن سيرين وغيرهما من السلف وقول أبي يوسف وإسحق
والثانية: إنها تبطل وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثوري والشافعي وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين
وقد قيل عن أحمد: إن حكمه حكم الكلام وإن لم يبن حرفين واحتجوا لهذا القول بما روى عن أم سلمة عن النبي ﷺ أنه قال: [ من نفخ في الصلاة فقد تكلم ] رواه الخلال لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعا فلا يعتمد عليه لكن حكى أحمد هذا اللفظ عن ابن عباس وفي لفظ عنه: النفخ في الصلاة كلام رواه سعيد في سننه.
قالوا: ولأنه تضمن حرفين وليس هذا من جنس إذكار الصلاة فأشبه القهقهة والحجة مع القول كما في النحنحة والنزاع كالنزاع فإن هذا لا يسمى كلاما في اللغة التي خاطبنا بها النبي ﷺ فلا يتناوله عموم النهي عن الكلام في الصلاة ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور ولو حلف ليتكلمن لم يبر بمثل هذه الأمور والكلام لا بد فيه من لفظ دال على المعنى دلالة وضعية تعرف بالعقل فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين فهو دلالة طبعية حسية فهو وإن شارك الكلام المطلق في الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه في الصلاة كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة بل تدل بقصد المشير وهي تسمى كلاما ومع هذا لا تبطل فإن النبي ﷺ كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز كما دلت عليه النصوص
ومع هذا فلما كان مشروعا في الصلاة لم يبطل فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل فكيف بما دل بالطبع وهو لم يقصد به إفهام أحد ولكن المستمع يعلم منه حاله كما يعلم ذلك من حركته ومن سكوته فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم حاله وإنما امتاز هذا بأنه من نوع الصوت وهذا لو لم يرد به سنة فكيف وفي المسند عن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ كان في صلاة الكسوف فجعل ينفخ فلما انصرف قال: إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي وفي المسند وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو [ أن النبي ﷺ في صلاة كسوف الشمس نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف أف رب ! ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ]؟ وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام أو فعله خوفا من الله أو من النار قالوا: فإن ذلك لا يبطل عندنا نص عليه أحمد كالتأوه والأنين عنده والجوابان ضعيفان:
أما الأول: فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي ﷺ يوم مات ابنه إبراهيم وإبراهيم كان من مارية القبطية ومارية أهداها له المقوقس بعد أن أرسل إليه المغيرة وذلك بعد صلح الحديبية فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين لا سيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام لأن أبا هريرة شهدها فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا في صلاة الكسوف بل قد قيل: الشمس كسفت بعد حجة الوداع قبل موته بقليل
وأما كونه من الخشية: ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه أو ينفخ في التراب ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين وليس هذا ذاك
وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء الذي يمكن دفعه والتأوه والأنين فهذه الأشياء هي كالنفخ فإنها تدل على المعنى طبعا وهي أولى بأن لا تبطل فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال: { فلا تقل لهما أف } لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبي الخطاب ومتبعيه ذكروا أنها تبطل إذا أبان حرفين ولم يذكروا خلافا
ثم منهم من ذكر نصه في النحنحة ومنهم من ذكر الرواية الأخرى عنه في النفخ فصار ذلك موهما أن النزاع في ذلك فقط وليس كذلك بل لا يجوز أن يقال: إن هذه تبطل والنفخ لا يبطل وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقا على أصله وهو أصح الأقوال في هذه المسألة
ومالك مع الاختلاف عنه في النحنحة والنفخ قال: الأنين لا يقطع صلاة المريض وأكرهه للصحيح ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه ولكنه لم يره مبطلا
وأما الشافعي فجرى على أصله الذي وافقه عليه كثير من متأخري أصحاب أحمد وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلاما مبطلا وهو أشد الأقوال في هذه المسألة وأبعدها عن الحجة فإن الأبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله ﷺ فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام وإن كان بالقياس لم يصح ذلك فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظ وذلك يشغل المصلي كما قال النبي ﷺ إن في الصلاة لشغلا وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتا وإبطال الصلاة لمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل ولا نظير
وأيضا فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ كما تقدم وأيضا فالصلاة صحيحة بيقين فلا يجوز إبطالها بالشك ونحن لا نعلم أن العلة في تحريم الكلام هو ما يدعى من القدر المشترك بل هذا إثبات حكم بالشك الذي لا دليل معه وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغير خشية الله فإن فعل ذلك لخشية الله فمذهب أحمد وأبي حنيفة أن صلاته لا تبطل ومذهب الشافعي أنها تبطل لأنه كلام والأول أصح فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه فإنه كلام يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه وهذا خوف الله في الصلاة وقد مدح الله إبراهيم بأنه أواه وقد فسر بالذي يتأوه من خشية الله ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة فإنه لو صرح بمعناه كان كلاما مبطلا.
وفي الصحيحين [ أن عائشة قالت للنبي ﷺ: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء قال: مروه فليصل إنكن لأنتن صواحب يوسف وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } ] والنشيج: رفع الصوت بالبكاء كما فسره أبو عبيد وهذا محفوظ عن عمر ذكره مالك وأحمد وغيرهما وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبا، فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتثاؤب فالصحيح عند الجمهور أنه لا يبطل وهو منصوص أحمد وغيره وقد قال بعض أصحابه إنه يبطل وإن كان معذورا: كالناسي وكلام الناسي فيه روايتان عن أحمد:
أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبطل
والثاني: وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يبطل وهذا أظهر وهذا أولى من الناسي لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها وقد ثبت أن النبي ﷺ قال: [ التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع ]
وأيضا فقد ثبت حديث الذي عطس في الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمي فنهى النبي ﷺ معاوية عن الكلام في الصلاة ولم يقل للعاطس شيئا والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التي لا أصل لها عن السلف رضي الله عنهم
وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأن الأظهر فيها جميعا أنها لا تبطل فإن الأصوات من جنس الحركات وكما أن العمل اليسير لايبطل فالصوت اليسير لا يبطل بخلاف صوت القهقهة فإنه بمنرلة العمل اليسير وذلك ينافي الصلاة بل القهقهة تنافي مقصود الصلاة أكثر ولهذا لا تجوز فيها بحال بخلاف العمل الكثير فإنه يرخص فيه للضرورة والله أعلم
189 - / 105 - مسألة: فيما إذا قرأ القرآن ويعد في الصلاة بسبحة هل تبطل صلاته أم لا؟
الجواب: إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات أو يعد تكرار السورة الواحدة مثل قوله: { قل هو الله أحد } بالسبحة فهذا لا بأس به وإن أريد بالسؤال شيء آخر فليبينه والله أعلم
190 - / 106 - مسألة: هل للإنسان إذا دخل المسجد والناس في الصلاة أن يجهر بالسلام أو لا؟ خشية أن يرد عليه من هو جاهل بالسلام
الجواب: الحمد لله إن كان المصلي يحسن الرد بالإشارة فإذا سلم عليه فلا بأس كما كان الصحابة يسلمون على النبي ﷺ وهو يرد عليهم بالإشارة وإن لم يحسن الرد بل قد يتكلم فلا ينبغي إدخاله فيما يقطع صلاته أو يترك به الرد الواجب عليه والله أعلم
191 - / 107 - مسألة: في المرور بين يدي المأموم: هل هو في النهي كغيره مثل الإمام والمنفرد أم لا؟
الجواب: المنهي عنه إنما هو بين يدي الإمام والمنفرد واستدلوا بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - والله أعلم
192 - / 108 - مسألة: فيمن صلى بجماعة رباعية فسهى عن التشهد وقام فسبح بعضهم فلم يقعد وكمل صلاته وسجد وسلم فقال جماعة: كان ينبغي إقعاده وقال آخرون: لو قعد بطلت صلاته فأيهما على الصواب؟
الجواب: أما الإمام الذي فاته التشهد الأول حتى قام فسبح به فلم يرجع وسجد للسهو قبل السلام فقد أحسن فيما فعل هكذا صح عن النبي ﷺ
ومن قال: كان ينبغي له أن يقعد أخطأ بل الذي فعله هو الأحسن ومن قال: لو رجع بطلت صلاته فهذا فيه قولان للعلماء:
أحدهما: لو رجع بطلت صلاته وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية
والثاني: إذا رجع قبل القراءة لم تبطل صلاته وهي الرواية المشهورة عن أحمد والله أعلم
193 - / 109 - مسألة: في إمام قام إلى خامسة فسبح به فلم يلتفت لقولهم وظن أنه لم يسه فهل يقومون معه أم لا؟
الجواب: إن قاموا معه جاهلين لم تبطل صلاتهم لكن مع العلم لا ينغي لهم أن يتابعوه بل ينتظرونه حتى يسلم بهم أو يسلموا قبله والانتظار أحسن والله أعلم
194 - / 110 - مسألة: أيما طلب القرآن أو العلم أفضل؟
الجواب: أما العلم الذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر الله به وما نهى الله عنه فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن فإن طلب العلم الأول واجب وطلب الثاني مستحب والواجب مقدم على المستحب
وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما: وهو إما باطل أو قليل النفع وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم من الكلام أو الجدال والخلاف أو الفروع النادرة والتقليد الذي لا يحتاج إليه أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله فلا بد في مثل [ هذه ] المسألة من التفصيل
والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين والله سبحانه أعلم
195 - / 111 - سئل: عن تكرار القرآن والفقه: أيهما أفضل وأكثر أجرا
أجاب: الحمد لله خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد ﷺ وكلام الله لا يقاس به كلام الخلق فإن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
وأما الأفضل في حق الشخص: فهو بحسب حاجته ومنفعته فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها وكذلك إن كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر
وكذلك إن كان قد حفظ القرآن أو بعضه وهو لا يفهم معانيه فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه
وأما من تعبد بتلاوة الفقه فتعبده بتلاوة القرآن أفضل وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج لتدبره والله أعلم
196 - / 112 - سئل: أيما أفضل قارئ القرآن الذي لا يعمل أو العابد؟
الجواب: إن كان العابد يعبد بغير علم فقد يكون شرا من العالم الفاسق وقد يكون العالم الفاسق شرا منه
وإن كان يعبد الله بعلم فيؤدي الواجبات ويترك المحرمات فهو خير من الفاسق إلا أن يكون للعالم الفاسق حسنات تفضل على سيئاته بحيث يفضل له منها أكثر من حسنات ذلك العابد والله أعلم
197 - / 113 - سئل: أيما أفضل استماع القرآن؟ أو صلاة النفل؟ وهل تكره القراءة عند الصلاة غير الفرض أم لا؟
الجواب: من كان يقرأ القرآن والناس يصلون تطوعا فليس له أن يجهر جهرا يشغلهم به فإن النبي ﷺ خرج على أصحابه وهم يصلون من السحر فقال: يا أيها الناس ! كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة والقراءة في الصلاة النافلة أفضل في الجملة لكن قد تكون القراءة وسماعها أفضل لبعض الناس والله أعلم
198 - / 114 - مسألة: أيما أفضل إذا قام من الليل الصلاة أم القراءة؟
الجواب: بل الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة نص على ذلك أئمة العلماء وقد قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن لكن من حصل له نشاط وتدبر وفهم للقراءة دون الصلاة فالأفضل في حقه ما كان أنفع له
199 - / 115 - مسألة: في رجل أراد تحصيل الثواب: هل الأفضل له قراءة القرآن؟ أو الذكر والتسبيح؟
الجواب: قراءة القرآن أفضل من الذكر والذكر أفضل من الدعاء من حيث الجملة لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل في بعض الأحوال كما أن الصلاة أفضل من ذلك كله
ومع هذا فالقراءة والذكر والدعاء في أوقات النهي عن الصلاة كالأوقات الخمسة ووقت الخطبة هي أفضل من الصلاة والتسبيح في الركوع والسجود أفضل من القراءة والتشهد الأخير أفضل من الذكر
وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالمفضول أكثر بحسب حاله إما لاجتماع قلبه عليه وانشراح صدره له ووجود قوته له مثل من يجد ذلك في الذكر أحيانا دون القراءة فيكون العمل الذي أتى به على الوجه الكامل أفضل في حقه من العمل الذي يأتي به على الوجه الناقص وإن كان جنس هذا وقد يكون الرجل عاجزا عن الأفضل فيكون ما يقدر عليه في حقه أفضل له والله أعلم
116 - 200 - مسألة: ما يقول سيدنا: فيمن يجهر بالقراءة والناس يصلون في المسجد السنة أو التحية فيحصل لهم بقراءته جهرا أذى فهل يكره جهر هذا بالقراءة أم لا؟
الجواب: ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا في الصلاة ولا في غير الصلاة إذا كان غيره يصلي في المسجد وهو يؤذيهم بجهره بل قد خرج النبي ﷺ على الناس وهم يصلون في رمضان ويجهرون بالقراءة فقال: أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة
117 - 201 - مسألة: في رجل لم يصل وتر العشاء الآخرة: فهل يجوز له تركه؟
الجواب: الحمد لله الوتر سنة مؤكدة باتفاق المسلمين ومن أصر على تركه فإنه ترد شهادته
وتنازع العلماء في وجوبه فأوجبه أبو حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد والجمهور لا يوجبونه: كمالك والشافعي وأحمد لأن النبي ﷺ كان يوتر على راحلته والواجب لا يفعل على الراحلة لكن هو باتفاق المسلمين سنة مؤكدة لا ينبغي لأحد تركه
والوتر أوكد من سنة الظهر والمغرب والعشاء والوتر أفضل من جميع تطوعات النهار كصلاة الضحى بل أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل وأوكد ذلك الوتر وركعتا الفجر والله أعلم
202 - / 118 - مسألة: في رجل جمع جماعة على نافلة وأمهم من أول رجب إلى آخر رمضان يصلي بهم بين العشائين عشرين ركعة بعشر تسليمات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات ويتخذ ذلك شعارا ويحتج بأن النبي ﷺ أم ابن عباس والأنصاري الذي قال له: السيول تحول بيني وبينك فهل هذا موافق للشريعة أم لا؟ وهل يؤجر على ذلك أم لا والحالة هذه؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين صلاة التطوع في جماعة نوعان:
أحدهما: ما تسن له الجماعة الراتبة كالكسوف والاستسقاء وقيام رمضان فهذا يفعل في الجماعة دائما كما مضت به السنة
الثاني: ما لا تسن له الجماعة الراتبة: كقيام الليل والسنن الرواتب وصلاة الضحى وتحية المسجد ونحو ذلك
فهذا إذا فعل جماعة أحيانا جاز
وأما الجماعة الراتبة في ذلك فغير مشروعة بل بدعة مكروهة فإن النبي ﷺ والصحابة والتابعين لم يكونوا يعتادون الاجتماع للرواتب على ما دون هذا والنبي ﷺ إنما تطوع في ذلك في جماعة قليلة أحيانا فإنه كان يقوم الليل وحده لكن لما بات ابن عباس عنده صلى معه وليلة أخرى صلى معه حذيفة وليلة أخرى صلى معه ابن مسعود وكذلك صلى عند عتبان بن مالك الأنصاري في مكان يتخذه مصلى صلى معه وكذلك صلى بأنس وأمه واليتيم
وعامة تطوعاته إنما كان يصليها مفردا وهذا الذي ذكرناه في التطوعات المسنونة فأما إنشاء صلاة بعدد مقدر وقراءة مقدرة في وقت معين تصلي جماعة راتبة كهذه الصلوات المسؤول عنها: كصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب والألفية في أول رجب ونصف شعبان وليلة سبع وعشرين من شهر رجب وأمثال ذلك فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الإسلام كما نص على ذلك العلماء المعتبرون ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام وأخذ نصيب من حال الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله والله أعلم