الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/11
الوجه الخامس والعشرون: أن يقال لهم أنتم قررتم في أصول الفقه أن اللفظ المشهور الذي تتداوله الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى دقيق لا يدركه إلا خواص الناس وهذا حق ولذلك لأن تكلم الناس باللفظ الذي له معنى يدل على اشتراكهم في فهم ذلك المعنى خطابا وسماعا فإذا كان ذلك المعنى لا يفهمه إلا بعض الناس بدقيق الفكرة امتنع أن يكون ذلك المعنى هو المراد بذلك اللفظ لأن معنى ذلك اللفظ يعرفه العامة والخاصة بدون فكرة دقيقة وقد مثلوا ذلك بلفظ الحركة هل هو اسم لكون الجسم متحركا أو لمعنى يوجب كونه متحركا
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن أظهر الأسماء ومسمياتها هو اسم القول والكلام والنطق وما يتفرع من ذلك كالأمر والنهي والخبر والاستخبار إذ أظهر صفات الإنسان هو النطق كما قال تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } والألفاظ الدالة على هذه المعاني من أشهر الألفاظ ومعانيها من أظهر المعاني في قلوب العامة والخاصة والمعنى الذي يقولون إنه هو الكلام إما أن يكون باطلا لا حقيقة له وراء العلم والإرادة واللفظ الدال عليهما أو يكون له حقيقة فإن لم تكن له حقيقة بطل قولكم بالكلية وإن كانت له حقيقة فلا ريب أنها حقيقة مشتبهة متنازع فيها نزاعا عظيما وأكثر طوائف أهل القبلة وغيرهم لا يعرفونها ولا يقرون بها وإذا أثبتموها إنما تثبتونها بأدلة خفيفة بل قد يعترفون أن معرفة هذه الحقيقة في الشاهد غير ممكن ولكن يدعون ثبوتها في الغائب وإذا كان كذلك فمن امتنع أن يكون ذلك هو المراد من لفظ الكلام والقول والأمر والنهي الذي لفظه ومعناه من أشهر المعارف عند العامة والخاصة فعلم أن الذي قلتموه باطل بلا ريب
الوجه السادس والعشرون: إن ثبوت الكلام لله بالأمر والنهي والخبر أثبتموه بالإجماع والنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام ومن المعلوم أن هذا المعنى الذي ادعيتم أنه معنى كلام الله لم يظهر في الأمة إلا من حين حدوث ابن كلاب ثم الأشعري بعده إذا قبل قول ابن كلاب ولا يعرف في الأمة أحد فسر كلام الله بهذا ولهذا لما ذكر الأشعري اختلاف الناس في القرآن ذكر أقوالا كثيرة فلم يذكر هذا القول إلا عن ابن كلاب وجعل له ترجمة فقال وهذا قول عبد الله بن كلاب
قال عبد الله بن كلاب إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وإن الكلام ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا تتغاير وإنه معنى واحد قائم بالله تعالى وإن الرسم هو الحروف المتغايرة وهو قراءة القارىء وإنه خطأ أن يقال إن كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما إن ذكرنا لله مختلف ومتغاير والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا لعلة وكذلك سمي أمرا لعلة وسمي نهيا لعلة وخبرا لعلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمي كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي بها سمي أمرا وكذلك القول في تسميته نهيا وخبرا وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا ولم يزل ناهيا ثم يقال ولو قدر أنه لم يحدثه فلا ريب أنه معنى خفي مشكل متنازع في وجود وإنما يتصور وجوده بالأدلة الخفية وإذا كان كذلك فالذين نقلوا عن الأنبياء عليهم السلام أن الله يتكلم ويأمر وينهي الذين أجمعوا على ذلك إذا لم يذكر أحد منهم أنه أراد هذا المعنى الخفي المشكل الذي ليس يتصور بحال أولا يتصور إلا بشدة عظيمة لم يجز أن يقال أنهم كانوا متفقين على نقل هذا المعنى والاجماع عليه ولم يجز أن يقال أنهم أجمعوا على ثبوت معنى لا يفهمونه ونقلوا عن الأنبياء عليهم السلام أن الله تعالى يتكلم ويقول وهم لا يفهمون معنى لفظ الكلام والقول فإن هذا أيضا معلوم الفساد بالضرورة وإذا بطل القسمان على أن الذي انعقد عليه الإجماع ونقله أهل التواتر عن المرسلين هو الكلام الذي تسميه الخاصة والعامة كلاما دون هذا المعنى والله سبحانه أعلم
وهذا بين واضح يدل على فساد مذهب المخالف وعلى صحة مذهب أهل السنة وبمثل هذا الوجه يبطل أيضا مذهب الجهمية من المعتزلة ونحوهم فإن كون الكلام يكون منفصلا عن المتكلم قائما بغيره مما لا يعرف العامة والخاصة أنه يكون كلاما للمتكلم وإن أثبت ذلك فإنما يثبت بأدلة خفية مشكلة وإذا كان أهل التواتر نقلوا أن الله تكلم بالقرآن وأجمع المسلمون على ذلك ولم يجز إرادة هذا المعنى علم أن التواتر والإجماع إنما هو على المعنى المعروف وهو أنه سبحانه تكلم بالقرآن كله حروفه ومعانيه وأن المتكلم لا بد أن يقوم به كلامه وإن كان يتكلم إذا شاء
الوجه السابع والعشرون: أن يقال لا ريب أنه قد اشتهر عند العامة والخاصة اتفاق السلف على أن القرآن كلام الله وأنهم أنكروا على من جعله مخلوقا خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات من السماء والأرض كما يقوله الجهمية حتى قال علي بن عاصم لرجل أتدري ما يريدون بقولهم القرآن مخلوق يريدون أن الله تعالى لا يتكلم وما الذين قالوا إن لله ولدا بأكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم لأن الذين قالوا لله ولد شبهوه بالأحياء والذين قالوا لا يتكلم شبهوه بالجمادات وأنتم فلا ريب أن كلما يقول هؤلاء أنه مخلوق لا تنازعونهم في أن الكلام الذي يقولون هو مخلوق بل تقولون أنتم أيضا أنه مخلوق فالذي قال هؤلاء أنه مخلوق إما أن يكون مخلوقا أولا يكون فإن لم يكن مخلوقا كنتم أنتم وهم ضالين حيث حكمتم جميعا بخلقه وإن كان مخلوقا لم يجز ذم من قال إنه مخلوق ولا عيبه بذلك ولا يقال إنه جعل كلام الله الذي ليس بمخلوق مخلوقا ولا أنه جعل كلام الله في المخلوق ولا أنه جعل الشجرة هي القائلة إنني أنا الله ونحو ذلك من الأقوال التي وصف بها السلف مذهب الجهمية كما قال عبد الله بن المبارك من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك
وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فوعون أولى بأن يخلد في النار إذا قال أنا ربكم الأعلى ومن يزعم أن هذا مخلوق وقول إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فقد ادعى ما ادعى فرعون فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا وكلامهما عنده مخلوق ووافقه أبو عبيد على مثل هذا واستحسنه وغاية ما يعاب به عندكم أنه نفي عن الله معنى آخر يثبتونه له ذلك المعنى أكثر الناس لا يتصورونه لا المعتزلة ولا غيرهم فضلا عن أن يحكموا عليه بأنه مخلوق وذلك المعنى لا يتصور أن يقوم الشجرة ولا غيرها حتى تكون الشجرة هي القائلة له والسلف لم يعيبوهم بهذا ولا قالوا لهم ما ذكرتم أنه مخلوق فهو مخلوق لكن ثم معنى آخر ليس بمخلوق ولا قالوا هذا الذي قلتم إنه مخلوق هو مخلوق لكنه ليس هو بكلام الله ولا نحو ذلك فإن كان هذا الذي قالوا هو مخلوق هو مخلوق كما قالوا ليس هو كلام الله وإنما كلام الله معنى آخر فلا ريب أن السلف مخطئون ضالون في هذه المسألة فأحد الأمرين لازم إما تضليلكم والمعتزلة أو تضليل السلف والثاني ممتنع فتعين الأول يؤيد هذا
الوجه الثامن والعشرون: وهو أن الأمة إذا اختلف في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث فإذا لم يكن في صدر الأمة إلا قول السلف وقول المعتزلة تعين أن يكون الحق في أحد القولين ومن المعلوم بالشرع والعقل أن قول المعتزلة باطل للوجوه الكثيرة منها أن من تأمل كلام أهل الإجماع وما نقل عن الأنبياء بالتواتر علم بالاضطرار أنهم إذا وصفوا الله بالكلام وصفوه بأنه هو يتكلم لا أن الكلام يكون مخلوقا له كالسماء والأرض وما فيها كما يقولون كلام الله مثل أسماء الله ويعلم بالاضطرار أن إضافة القول والكلام إلى الله ليس كإضافة الخلق إليه وإن باب قال عند الأنبياء والمؤمنين غير باب خلق وبطلانه قوله المعتزلة له موضع غير هذا وإذا كان باطلا وقولهم أيضا باطل تعين صحة مذهب السلف يؤكد هذا
الوجه التاسع والعشرون: وهو أن السلف والمعتزلة جميعا اتفقوا على أن كلام الله ليس هو مجرد هذا المعنى الذي تثبتونه أنتم بل الذي سمته المتعتزلة كلام الله وقالوا إنه مخلوق وافقهم السلف على أنه كلام الله لكن قالوا إنه غير مخلوق وأنتم تقولون إن ليس بكلام الله فكان قولكم خرقا لإجماع السلف والمعتزلة وذلك خرق لإجماع الأمة جميعها إذا لم يكن في عصر السلف إلا هذا القائلان ولم يكن في ذلك الزمان من يقول القرآن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق ليس هو كلام الله
الوجه الثلاثون: إنه لا يحل لكم أن تحكوا عن المعتزلة أنهم قالوا بخلق القرآن أو بخلق كلام الله كما يحكيه عنهم السلف وأئمة الحديث السنة وكما يقولون هم ذلك وأن حكم ذلك عنه فلا يحل لكم أن تذموهم بذلك كما ذموهم السلف به بل تمدحونهم بذلك كما يمدحون بذلك أنفسهم فلا بد لكم من مخالفة السلف والمعتزلة جميعا أو مخالفة السلف وموافقة المعتزلة وذلك لأن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق فأنتم تقولون إنه مخلوق أيضا وذلك واجب عندكم ومن قال عن ذلك إنه ليس بمخلوق فهو ضال عندكم أو كافر ثم المعتزلة تسمية كلام الله وتقول كلام الله مخلوق والسلف تسميه كلام الله ويقولون هو غير مخلوق وأما أنتم فمع قولكم إنه مخلوق هل يطلق عليه كلام الله مجاز وتنفي الحقيقة كما قال جمهوركم أو يقال بل يسمى كلام الله على سبيل الاشتراك بينه وبين غيره كما قاله بعضكم على قولين: فإن قلتم بالأول لزمكم أن لا تكون المعتزلة تعتقد في الحقيقة أن كلام الله مخلوق بحال وأن تلفظوا بذلك بألسنتهم فهم مخطئون في هذا اللفظ وهم بمنزلة من قال إني زنيت بأمي أو قتلت نبيا ولم يكن المزنى بها أمه ولا المقتول نبيا فهو مخطىء في هذا الظن فيما يحكيه عن نفسه
لكن هذا القول يظن القائل أنه به مذموم والمعتزلة لا تذم أنفسها بذلك وإن كانت الجماعة تذمهم بذلك فنظير ذلك أن يعتقد بعض الكفار أنه قد قتل إمام المسلمين أو أخذ كتابا فمزقه يظن أنه المصحف أو قتل أقواما يظنهم علماء المسلمين وهو عند نفسه متدين بذلك ولم يكن الأمر كذلك وهكذا هم المعتزلة عندكم فإنهم قالوا في الذي اعتقدوا أنه كلام الله إنه مخلوق فقلتم أنتم لا ريب أنه مخلوق كما لا ريب في قتل أولئك النفر وتمزيق ذلك الكتاب لكن هذا ليس كلام الله وإن اعتقدتم أنه كلام الله وأن القول بخلقه تعظيم لله كما اعتقد أولئك أن هؤلاء أئمة المسلمين وأن قتلهم عبادة لله وأن هذا المصحف هو القرآن وتمزيقه عبادة لله وإذا كان كذلك لم يجز أن يقال إن هؤلاء قتلوا ائمة المسلمين ولا مزقوا المصحف وإن كانوا قصدوا ذلك واعتقدوه فكذلك لا يجوز على أصلكم أن يقال إن المعتزلة قالت إن كلام الله مخلوق وإن كانوا هم قصدوا ذلك واعتقدوه فإن الذي قالوا إنه مخلوق إن كان مجازا فلم يحكموا على ما هو كلام الله في الحقيقة بأنه مخلوق وإن كان مشتركا فهم إنما قوال إنه مخلوق بأحد المعنيين دون الآخر واللفظ المشترك لا يجوز إطلاقه بإرادة أحد المعنيين بل هو عند الإطلاق مجمل فلا يقل على هذا القول بأنهم قالوا كلام الله مخلوق ولا قالوا إنه غير مخلوق وهذا كله خلاف إجماع السلف والمعتزلة ولم يكن قديما عندهم فهو خلاف الإجماع مطلقا
الوجه الحادي والثلاثون: إن هذا النقل عنهم إذا قيل إنه صحيح إما باعتبار وإحدى الحقيقتين أو باعتبار قصدهم فإنهم لا يذمون على القول بخلق ذلك عندكم بل يحمدون على ذلك إذ أنتم وهم متفقون على ذلك ومن المعلوم بالإضطرار أن السلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين ذموهم على ذلك فإذا أنتم ذامون للسلف الذين أجمع المسلمون على إمامتهم في الدين وأنتم عند السلف وأئمة الدين مذمون وأنتم بذلك من جنس الرافضة والخوارج ونحوهم ممن يقدح في سلف الأمة وأئمتها وهذا حق فإن قول هؤلاء من فروع قول الجهمية وقول الجهمية فيه من التنقض والسب والطعن على السلف والأئمة وعلى السنة مال ليس في قول الخوارج والروافض
فإن الخوارج يعظمون القرآن ويوجبون أتباعه وإن لم يتبعوا السنن المخالفة لظاهر القرآن وهم يقدحون في علي وعثمان ومن تولاهما وإن لم يقدحوا في أبي بكر وعمر وأما الجهمية فإنها لا توجب بل تجوز اتباع القرآن في باب صفات الله كما يصرحون به كالرازي ونحوه من المعتزلة وغيرهم فضلا عن أن يتبعوا السنن أو إجماع السلف فالجهمية أعظم قدحا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء
ولهذا تنازع العلماء من أصحابنا وغيرهم هل هم داخلو في الثنتين والسبعين فرقة لكن كثير من الناس يأخذون ببعض الجهم وأيضا ففيهم من لا يكفر الأمة بخلاف ولا يستحل السيف وفيهم من قد بعدت عليهم الحجة وجهلوا أصل القول وقول الدعاة إلى الكتاب والسنة وظهور ذلك فيمن هنا كان حال فروع الجهمية قد يكون أخف من حال الخوارج وإلا فقولهم في نفسه أحنث من قول الخوارج بكثير وإذا كان يونس بن عبيد قد قال عن المعتزلة أن فتنتهم أضر على الأمة من فتنة الأزارقة والمعتزلة جهمية علم أن السلف كانوا يعلمون أن الجهمية شر من الخوارج
فال الطبراني في كتب السنة: حدثنا الحسن بن علي المعمري حدثنا محمد ابن بكار العبسي حدثنا عبدالعزيز الرقاشي سمعت يونس بن عبيد يقول فتنة المعتزلة على هذه الأمة أشد من فتنة الأزارقة لأنهم يزعمون أن أصحاب رسول الله ﷺ ضلوا وأنهم لا تجوز شهادتهم بما أحدثوا ويكذبون بالشفاعة والحوض وينكرون عذاب القبر أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم وفروع الجهمية لا يقبلون شهادة أصحاب رسول الله ﷺ فيما رواه عن رسول الله ﷺ ولا يأتمرن بكتاب الله وفيهم من هو في بعض المواضع شر من المعتزلة ولكن المعتزلة هم اصلهم في الجملة وفي هؤلاء من لا يرى التكفير والسيف كما تراه المعتزلة والرافضة وهو قول الخوارج
ولهذا كثيرا ما يكون أهل البدع مع القدرة يشبهون الكفار في استحلال قتل المؤمنين وتكفيرهم كما يفعله الخوارج والرافضة والمعتزلة والجهمية وفروعهم لكن فيهم من يقاتل بطائفة ممتنعة كالخوارج والزيدية ومنهم من يسعى في قتل المقدور عليه من مخالفيه إما بسلطانه وإما بحيلته ومع العجز يشبهون المنافقين يستعملون التقية والنفاق كحال المنافقين وذلك لأن البدع مشتقة من الكفر فإن المشركين وأهل الكتاب هم مع القدرة يحاربون المؤمنين ومع العجز ينافقونهم والمؤمن مشروع له مع القدرة أن يقيم دين الله بحسب الإمكان بالمحاربة وغيرها ومع العجز يمسك عما عجز عنه من الإنتصار ويصير على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة بل يشرع له من المدارات ومن التكلم بما يكره عليه ما جعل الله له فرجا ومخرجا ولهذا كان أهل السنة مع أهل البدعة بالعكس إذا قدروا عليهم لا يعتدون عليهم بالتكفير والقتل وغير ذلك بل يستعملون معهم العدل الذي أمر الله به ورسوله كما فعل عمر بن عبدالعزيز بالحرورية والقدرية وإذا جاهدوهم فكما جاهد علي رضي الله عنه الحرورية بعد الإعذار وإقامة الحجة وعامة ما كانوا يستعملون معهم الهجران والمنع من الأمور التي تظهر بسببها بدعتهم مثل ترك مخاطبتهم ومجالستهم لأن هذا هو الطريق إلى خمود بدعتهم وإذا عجزوا عنهم لم ينافقوهم بل يصبرون على الحق الذي بعث الله به نبيه كما كان سلف المؤمنين يفعلون وكما أمره الله في كتابه حيث أمرهم بالصبر على الحق وأمرهم أن لا يحملهم شنآن قوم على أن لا يعدلوا
الوجه الثاني والثلاثون: إن هذا المعنى القائم بالذات الذي زعموا أنه كلام الله وخالفوا في إثباته جميع فرق الإسلام كما يقرون هم على أنفسهم بذلك كما ذكره الرازي وغيرهم من أن إثباتهم لهذا يخالفهم فيه سائر فرق الأمة قد قال أكثرهم هو معنى واحد وقال بعضهم هو خمسة معان: أمر ونهي وخبر واستخبار ونداء فالأولون يقولون ذلك لمعنى هو معنى كل أمر أمر الله به سواء كان أمر تكوين كقوله للمخلوق كن فيكون أو كان أمر تشريع كأمره في التوراة والإنجيل والقرآن وغير ذلك مما جاءت به الرسل وهو معنى كل نهي نهى عنه وكل خبر أخبر الله به والآخرون يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصلاة والزكاة والحج والصوم والسبت الذي لليهود هو الأمر المنسوخ وبالناسخ وبالأقوال والأفعال والأصول والفروع وبالعربية وبالعبرانية وغير ذلك
وكذلك قولهم في النهي وكذلك قولهم في الخبر هو معنى واحد هو معنى ما أخبر الله به من صفاته كآية الكرسي وسورة الإخلاص وما أخبر به من قصص الأنبياء والمؤمنين والكفارة وصفة الجنة والنار ومن المعلوم أن مجرد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساد كما اتفق على ذلك سائر العقلاء فإن أظهر المعارف للمخلوق أن الأمر ليس هو الخبر وأن الأمر بالسبت ليس هو الأمر بالحج وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم فمن جعل هذه الأمور كلها حقيقة واحدة وجعل الأمر والنهي إنما هي صفات عارضة لتلك الحقيقة العينية لم يجعل ذلك أقساما للكلام الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا إذ ليس في الخارج كلام هو أمر بالحج وهو بعينه خبر عن جهنم كما ليس في الخارج إنسان هو بعينه فصيل وإن شملهما اسم الحيوان كما شمل ذينك اسم الكلام فمن جعل الحقائق المتنوعة شيئا واحدا فهو يشبه من جعل المكانين مكانا واحدا حتى جعل الجسم الواحد يكون في مكانين ويقول إنما هما مكان واحد أو لا يجعل الواحد نصب الاثنين أو يقول الإثنان هما واحد فإن هذا كله من هذا النمط وهو رفع التعدد في الاشياء المتعددة وجعلها شيئا واحدا في الوجود الخارجي بالعين لا بالنوع
وهؤلاء ينكون على من يقول أن الكلام الذي تكلم الله به هو الذي يقرآه العباد والقرآن الذي يقرأه زيد هو القرآن الذي يقرأه عمرو ويقولون بل هما حقيقتان متباينتان ومن المعلوم أن هناك قدر مشترك متحد بالعين في الوجود الخارجي وبينهما من الاتحاد الشرعي واتباع أحدهما للآخر ما ليس بين هذه الحقائق البعيدة من الاشتراك إلا في الجنس العام الذي لا وجود له في الخارج عاما فضلا عن أن يكون واحدا بالعين وما هناك من التعدد فأحدهما تابع للآخر فهما متحدان ومن وجه متغايران من وجه ولا ينكرون على أنفسهم اتحاد الحقائق المتنوعة وهو قول يعلم فساده بالضرورة كل عاقل ولم يوافق على إطلاق القول بذلك أحد وهناك اتفق الخلائق على أن يشيروا إلى ما يسمعونه من المبلغين ويقولون هذا كلام المبلغ عنه فهذا المتفق عليه بين العباد الذي تطمئن إليه القلوب وجاءت بإطلاقه النصوص أنكروه وذاك الذي ابتدعوه فلم يطلقه نص ولا قاله إمام ولا تصوره أحد إلا علم فساده بالبديهية قالوه هو أصل الدين
الوجه الثالث والثلاثون: أن يقال لهم إذا جاز أن تجعلوا هذه الحقائق المختلفة حقيقة واحدة سواء قلتم بثبوت الحال أو نفيه وأن كونها أمرا ونهيا وخبرا وأمرا بكذا ونهيا عن كذا إنما هي أمور نسبية لها كتسمية المعنى الذي في النفس عربيا وعجميا ولهذا تنازع ابن كلاب والأشعري في هذه التسمية بالأمر والنهي والخطاب هل هي حادثة عند حدوث المخاطب كما يقوله ابن كلاب أو قديمة كما يقوله الأشعري فيقال لكم هذا بعينه يقال لهم في الصفات من العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر فهلا جعلتم هذه الصفات حقيقة واحدة وهذه الخصائص عوارض نسبية لها بل جعل السمع والبصر بمعنى علم خاص أقرب إلى المعقول من جعل حقيقة معنى كل خبر حقيقة معنى كل أمر وحقائق معاني الأخبار شيء واحد وهم قد ذكروا هذه المسألة فقال الرازي: الفصل الثاني: في أنه لا يجوز أن يكون الله موصوفا بصفة واحدة تفيد فائدة الصفات المختلفة السبعة قال: اعلم أن فساد ذلك على القول بنفي الحال معلوم بالضرورة على ما قررناه يعني على ما قرره في مسأل الكلام أنه يمتنع أن يكون الطلب هو الخبر قال وأما على القول بالحال فالقاضي أبو بكر عول في إبطال الاجتماع على الإجماع وهو أن القائل قائلان منهم من أثبتها ومنهم من نفاها وكل من أثبتها قال إنها صفات متعددة فالقول بأنها صفة واحدة يكون خرقا للاجماع قلت وهذه الحجة إن كانت صحيحة فلا يمكن طردها في الكلام فإنه لا إجماع على أنه معنى واحد
الوجه الرابع والثلاثون: إن هؤلاء يجعلون حقيقة معنى ما أخبر الله به عن نفسه هو حقيقة معنى ما أخبر الله به عن الجن والجحيم ومن المعلوم أن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة وتطابقها فمعنى الخبر عن الملائكة والجن يطابق ذلك ومعنى الخبر عن الجن والنار يطابق ذلك فإن كان معنى هذا الخبر هو حقيقة معنى هذا الخبر وكلاهما مطابق لمخبره لزم أن يكون هذا المخبر هو هذا المخبر فيلزم أن تكون الحقائق الموجودة كلها شيئا واحدا فتكون الجنة هي النار والملائكة هم الشياطين والموجود هو المعدوم والثبوت هو الانتفاء
وفي ذلك إجتماع النقيضين ما لا يحصى وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه فإن الخبر الصادق الحكم الذهني والحكم الذهبي يطابق الحقيقة الموجودة وكل أخبار الله صادقة فإذا كانت جميعها حقيقة واحدة ليس فها تغاير أصلا وذلك هو الحكم الذهني لزم أن تكون هذه الحقيقة مطابقة للوجود الخارجي بخلاف الخبر الكذب فإنه لا يجب مطابقته للوجود الخارجي والحكم الواحد الذهني الذي لا تغاير فيه بوجه من الوجوه إذا طابق المحكوم به لزم أن يكون المحكوم به كذلك وإلا لم يكن مطابقا
وكذلك فإن الله أمر بالإيمان والصلاة والزكاة ونهى عن الكفر والكذب والظلم فإذا كان حقيقة الأمر هي حقيقة النهي وإنما لها نسبة إلى الأفعال فقط لم يكن فرق بين المأمور به المنهى عنه بل إذا قيل أن المنهي عنه مأمور به والمأمور به منهى عنه لم يمتنع ذلك إذ كانت الحقيقة واحدة وإنما أختلف التعلق والتعلق ليس حقيقة يمنع الاختلاف بل يمكن فرض تعلقه أمرا كتعلقه نهيا مع أن الحقيقة باقية فيمكن على هذا تقدير المأمور به منهيا عنه وبالعكس ولم يتغير شيء من الحقائق
الوجه الخامس والثلاثون: إنهم قد ذكروا حجتهم على ذلك وإذا تدبرها الإنسان علم فسادها وبناءها على أصل فاسد وتناقضهم فيها قال الأستاذ أبو بكر بن فورك أمره سبحانه للمؤمنين بالإيمان هو نهية عن الكفر وأمر بالصلاة إلى بيت المقدس في وقت بعينه هو نهيه عن الصلاة إليه في وقت غيره
قال: وكذلك يقول إن مدحه المؤمن على إيمانه بكلامه الذي هو ذم للكافرين ولا يتغير القول بتغاير كلامه واختلاف أنواعه بل نقول فيه كما نقول في علمه وقدرته وسمعته وبصره فنقول إن علمه بوجود الموجود هو علمه بعدمه إذا عدم وقدرته عليه قبل أن يوجده هي قدرته عليه في حال إيجاده ولا يقال إنها قدرة عليه في حال بقائه ورؤيته لآدم وهو في الجنة هي رؤيته له وهو في الدنيا وسمعه لكلام زيد هو سمعه لكلام عمر بن غير تغير واختلاف في شيء من أوصافه ونعوته لذاته
وقال: فإن قيل: كيف يعقل كلام واحد يجمع أوصافا مختلفة حتى يكون أمرا نهيا خبرا استخبارا ووعدا ووعيدا قيل يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا على خلاف كلام المحدثين كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات والذي أوجب كونه كذلك قدمه ووجب مخالفته للمتكلمين المحدثين وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات فيقال له هذا ليس جوابا عن السؤال فإن السائل قال كيف يعقل أن يكون الواحد الذي لا اختلاف فيه مختلفا، فإن هذا مثل قول النصارى هو جوهر واحد وهو ثلاثة جواهر وما ذكره إنما هو إقامة الدليل على ثبوت ما ادعاه ليس جوابا عن المعارضة وهذه عادة ابن فورك وأصحابه فإنه لما نوظر قدام محمود بن سبكتين أمير المشرق فقيل له لو وصف المعدوم لم يوصف إلا بما وصفت به الرب من كونه لا داخل العالم ولا خارجه كتب إلى أبي إسحاق الأسفرائيني في ذلك ولم يكن جوابهما إلى أنه لو كان خارج العالم للزم أن يكون جسما فأجابوا لمن عارضهم بضرورة العقل بدعوى الحجة قلت: فنظره كذلك في هذا المقام فإن كون الواحد الذي لا اختلاف فيه ولا تعدد ولا تغاير أصلا يكون أشياء مختلفة هو جمع بين النقيضين وذلك معلوم الفساد ببديهة العقل فإن قيل للشخص هذا الكلام معلوم الفساد ببديهة العقل هل يكون جوابه أن يقيم دليلا على صحته بل يبين أنه لا يخالف بديهة العقل وضرورته وهو لم يفعل ذلك ولا يمكن أحد أن يفعل ذلك بحق فإن البديهات لا تكون باطلة بل القدح فيها سفسطة وهم دائما ينكرون على غيره مخالفتهم ما هو دون هذا كما سننبه على بعضه
الوجه السادس والثلاثون: أن يقال إما أن تكون أقمت دليلا على كونه قديما واحدا ليس بمتغاير ولا مختلف أو لم تقم فإن لم تقم بطل ذلك وإن أقمت دليلا فلا ريب أنه نظري إذ ليس من الأمور البديهية الضرورية والعلم بأن الواحد الذي ليس فيه تغاير ولا اختلاف لا يكون حقائق مختلفة ولا موصوفا بأوصاف مختلفة أو متضادة هو من العلوم البديهية الضرورية والضروري لا يعارضه النظري لأن الضروري أصله فالقدح فيه قدح في أصله وبطلان أصله يوجب بطلانه في نفسه فعلم أن معارضة الضروري بالنظري يوجب بطلان النظري وإذا بطل النظري المعارض لهذا الضروري لم يكن ألبتة دليلا صحيحا وهو المطلوب
الوجه السابع والثلاثون: أن يقال المانع من ذلك إما قدمه أو شيء آخر وأنت لم تذكر شيئا آخر والقدم لا دليل لك عليه كما سبق بإيمانه من أنهم لم يقيموا حجة على كونه قديما كالعلم من كل وجه
الوجه الثامن والثلاثون: أنه هب أنه قديم فكونه قديما لا يوجب أن يكون صفة واحدة فإنك تقول أن صفات الرب من العلم والقدرة والسمع والبصر والحياة وغير ذلك قديمة ولم يكن قدمها موجبا لأن تكون هذه الصفة هي هذه الصفة فمن أين أوجب قدم الأمر أن يكون هو غير النهي وأن يكون النهي عين الخبر وهلا قلت في أنواع الكلام ما قلته في الصفات كما قاله بعض أصحابك
الوجه التاسع والثلاثون: أن المحققين من أصحابك يعلمون أنه لا دليل على نفي سواء ما علموه من الصفات فإنه لم يقم على النفي دليل شرعي ولا عقلي فالنفي بلا دليل قول بلا علم وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل عندنا لا يوجب انتفاء المطلوب الذي يطلب العلم به والدليل عليه وهذا أظهر البديهات وإذا كان كذلك فمن أين لك أن الكلام لا يكون صفات كثيرة ولم أوجبت أن يكون واحدا أو معدودا بعدد معين فإن ما ذكرت من قدمه لا يمنع تعدده إذ الصفات عندك متعددة وقديمة والمعلوم أن القديم هو إله واحد أما أنه ليس له صفة قديمة فهذا باطل بالضرورة لامتناع وجود موجود لا صفة له كما هو مقدر في غير هذا الموضع وهم يسلمون ذلك وإن لم يسلموا بطل قولهم في مسألة الكلام بالكلية
الوجه الأربعون: إن قولك يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا يقال لك الدليل على قدمه لا يوجب كونه معنى واحدا كما تقدم وإذا لم يوجب كونه معنى واحدا لم يوجب أن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وهو الاستخبار وقولك بعد هذا بالدليل المانع من كونه متغايرا مختلفا يقال لك إذا لم تقم الدليل على أن هذا هو هذا بل علم أن هذا ليس هو هذا فيقال فيه ما يقال في السمع والبصر وإن اشتركا في مسمى الادراك فليس أحدهما هو الآخر ثم هل يقال أحدهما غير الآخر أو يخالف له أو يقال ليس بغير له ولا مخالف له أو لا يقال لا هذا ولا هذا أو يقال هذا باعتبار هذا باعتبار وهذا باعتبار هذه منازعات لفظية بين الناس وكل قول يختاره فريق والمنازعات في الألفاظ التي لم ترد بها الشريعة لا حاجة بنا إليها بل المقصود المعنى نعم إلا كان اللفظ شرعيا كنا مأمورين بحفظ حده كما قال تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا دعوى مجردة لا حقيقة لها
الوجه الحادي والأربعون: إن قولك على خلاف كلام المحدثين يقال لك كونه على خلاف كلام المحدثين لا يسوغ ما يعلم بالعقل امتناعه كاجتماع النقيضين وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف حقائق مختلفة معلوم الفساد ببديهة العقل وكون صفة الله على خلاف صفة المخلوقين لا يسوغ هذا الممتنع
الوجه الثاني والأربعون: إن قولك على خلاف كلام المحدثين إن عنيت به أن حقيقة كلام الله ليست كحقيقة كلام المخلوقين كما أنه هو كذلك وسائر صفاته كذلك فهذا حق لكن لا يفيدك فإن كونه كذلك لا يوجب أن يثبت ما يعلم بالعقل انتفاؤه فإن ما يعلم بالعقل انتفاؤه لا يثبت شاهدا ولا غائبا وكون الواحد الذي لا تغاير فيه ولا اختلاف هو حقائق مختلفة معلوم الفساد بالعقل فلا يثبت لله ولا لغيره وإن عنيت بقولك على خلاف كلام المحدثين شيئا غير ذلك وهو أن كونه معنى قائما بالنفس أو كونه ليس بحرف ولا صوت هو مخالف في ذلك لكلام المحدثين فليس الأمر عند كذلك فإن القديم والمحدث يشتركان في هذا الوصف عندك وإن عنيت أنه واحد وكلام المخلوقين ليس بواحد فيقال هذا هو محل النزاع فما الدليل على أنه مخالف لكلام المحدثين من هذا الوجه يقرر ذلك
الوجه الثالث والأربعون: وهو أن الكلام والعلم والقدرة وسائر الصفات يجمع هؤلاء وغيرهم بينها وبين الصفات المخلوقة من وجه ويفرقون بينها من وجه كما يجمع بين الوجود القديم الواجب القائم بنفسه الخالق وبين الوجود الممكن المخلوق من وجه ويفرق بينهما من وجه ولهذا يجمعون بين الشاهد والغائب بالحد والدليل والعلة والشرط فيقولون على حد العالم من قام به العلم والحقائق لا تختلف شاهدا ولا غائبا والعلم والقدرة مشروطان بالحياة في الشاهد والغائب والأحكام دليل على العلم في الشاهد والغائب ويقول من يثبت الأحوال منهم العلم موجب لكون العالم عالما وذلك لا يختلف في الشاهد والغائب وإذا كان الأمر كذلك فمخالفة كلامه لكلام المخلوقين من وجه لا يقتضي أن يكون واحدا إن لم تبين أن تلك المخالفة موجبة لوحدته وأنت لم تذكر ذلك ولا سبيل إليه أكثر مما ذكرت إنك قسته على المتكلم فقلت يجب أن يكون واحدا لأن المتكلم واحد وسنتكلم على ذلك
الوجه الرابع والأربعون: إنك اعتمدت في كون الكلام معنى واحدا قديما على قياسه على المتكلم فلم قيل لك كيف يعقل كلام واحد يجمع أوصافا مختلفة حتى يكون أمرا نهيا خبرا استخبارا وعدا ووعديا قلت يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا على خلاف كلام المحدثين كما يقعل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات وإن كان لا يقعل متكلم هو شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات فقولك كما يعقل متكلم هو شيء واحد وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد في المحدثات أي كما يعقل هذا في الموصوف فليعقل في صفته ذلك فيقال لك لا يخلو إما أن يكون الدليل الحق قد دل على هذه الوحدة التي أثبتها للمتكلم أو لم يدل عليها فإن لم يدل عليها كنت قائسا لدعوى على دعوى بلا حجة وكانت المطالبة لك واحدة فصارت اثنتين وإن دل عليها فيقال لك وحدة الموصوف علمت بذلك الدليل الدال عليها فمن أين يجب إذا علم أن الموصوف واحد أن يكون كلامه معنى واحدا مع أن هذا الموصوف الواحد موصوف عندك وعند عامة المثبة بصفات متعددة فلم يلزم من وحدته في نفسه وحدة صفته فلم لزم من وحدته وحدة كلامه بلا حجة
الوجه الخامس والأربعون: إن ماذكرته في هذا الجواب إما أن تذكره لأثبات كون الكلام معنى واحدا أو لا مكان أن المعنى الواحد يكون حقائق مختلفة قياسا على الموصوف فإن كان لإثبات الأول فليس ذلك بحجة أصلا إذا مجرد كون الموصوف واحدا لا يفيد أن تكون صفته معنى واحدا وهذا معلوم بالضرورة والاتفاق وهو يسلم ذلك وأيضا فإن هذه الحقيقة لا تفيد إمكان ذلك كما سنبينه فإن من لا يفيد ثبوت ذلك ووجوه أولى وأحرى وإن كان ذكره لبيان إمكان ذلك فيقال لك ليس كلما أمكن في الموصوف أمكن في الموصوف أمكن في الصفة ولا كلما يمتنع في الصفة يمتنع في الموصوف وهذا معلوم فإن لم يبين أنه يلزم من كون الموصوف واحدا بهذه الوحدة التي اثبتها أن تكون صفته يمكن فيها ما أثبته لم يكن ما ذكرته كلاما مفيدا ولا قولا سديدا
الوجه السادس والأربعون:: أن يقال لك قياسك الوحدة التي أثبتها للكلام على الوحدة التي أثبتها للمتكلم قياسا للشيء على ضده لا على نظيره وذلك أنك جعلت الكلام معنى واحدا وهذا المعنى الواحد هو حقائق مختلفة هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار لم يتقل إن الأمر والنهي والخبر والاستخبار صفات قائمة بالكلام كالصفات القائمة بالمتكلم ولا يمكنك أن تقول ذلك لأن الصفة لا تقوم بالصفة بل هما جميعا يقومان بالموصوف فلو قلت ذلك لكان الأمر والنهي والخبر صفات مختلفة قائمة بالله وذلك الذي قررت منه ولكن هذا يناسب قول من قال الكلام صفات والرب الواحد لم تقل أنه في نفسه شيئان بل قلت إنه ليس بذي أبعاض ولا أجزاء فكان نظير هذا أن نقول الكلام ليس بذي أبعاض ولا أجزاء وليس هو مع ذلك حقائق مختلفة فليس هو في نفسه أمرا ولا خبرا ولا استخبارا كما تقول مثل ذلك الموصوف ولعل هذا هو الذي لحظه ابن كلاب إذا كان أقدم وأحذق من الأشعري حيث لم يصف الكلام في الأزل بأنه أمر ونهي وخبر واستخبار وجعل ذلك أمورا نسبية تعرض له وهذا أقرب إلى المعقول وطرد أوصلهم في قولا لأشعري فإن هذا باطل فأما أن يكون الموصوف عندك واحدا بمعنى أن ليس بذي ابغاض وليس هو عندك حقائق مختلفة بل موصوفا بصفات ثم يقول الكلام هو معنى واحد ليس بذي أبعاض وهو حقائق مختلفة أمر ونهي وتقول هو في ذلك مثل الموصوف فهذا من فساد القياس والتلبيس على الناس
الوجه السابع والأربعون: أن يقال كون الشيء الواحد ليس بذي أبعاض إما أن يكون معقولا أو لا يكون فإن لم يكن معقولا بطل كلامك وإن كان معقولا لزم أن يعقل صفة ليست بذات أبعاض فإن مالا يتبعض يقوم به مالا يتبعض وأما أن يعقل شيء واحد هو بعينه حقائق مختلفة لأنه عقل شيء واحد لا يتعبض فهذا لا يلزم وغاية ما يقوله أن يقول الأمر والنهي والخبر أما أن تكون أقسام الكلام وأبعاضه أو لا تكون فإذا لم تكن أقسامه وأبعاضه صح مذهبنا ونحن غرضنا أن نثبت أنها ليست أقسامه وأبعاضه لأن الموصوف ليس بمبعض ولا منفسم فيكون صفة ليست متبعضة ولا منفسمة فيقال له لم تقم حجة على أنها ليست أبعاضه وأقسامه وغاية ما ذكرت إنما يفيد إنه إذا كان الموصوف غير متبعض عقل في صفته أنها غير متبعضة ولم تبيه أن هذا يفيد مطلوبك وهو لا يفيد إن شاء الله ثم إن تبعض الصفة إنما يراد به تعددها وهذا ممكن عندك فهذه ثلاة أوجه نبهنا عليه وهي مبسوطة في سائر الوجوه
الوجه الثامن والأربعون: إن كون القديم عندهم ليس بمنقسم ولا متبعض معناه أنه شيء واحد في الخارج ليس بذي أبعاض وليس بمنقسم قسمة الكل إلى أجزائه كانقسام الإنسان إلى أبعاضه وأعضائه وإن كان هو سبحانه أيضا ليس بجنس كلي ينقسم إلى أنواعه ومعنى كون الكلام ليس بمنقسم يراد به شيئان أحدهما أنه ليس بذي أجزاء وأبعاض
والثاني أنه ليس من الكليات التي تنقسم إلى أنواعها وأشخاصها كانقسام جنس الإنسان إلى انواعه وانقسام جنس الموجود إلى القديم والمحدث وكذلك جنس العلم والكلام وغيرهما إلى القديم والمحدث وهذه القسمة والتبعيض ليس هذه بوجه من الوجوه في العالم فإن هذا نفي للقسمة عن شيء واحد موجود في الخارج وذاك نفي للقسمة عن كلي لا يوجد في الخارج كليا بحال فإنه ليس في الخارج إنسان كلي ينقسم ولا وجود كل ينفسم ولا علم أو كلام كلي ينقسم
ومن المعلوم أنه لم يقصد نفي هذا وإن قصد نفيه فهذا مما لا ينازعه فيه عاقل لا في كلام المخلوق ولا في كلام الخالق فليس في الوجود الخارجي كلام كلي هو بعينه ينقسم إلى أمر ونهي إن كان أمرا لم يكن نهيا وإن كان نهيا لم يكن أمرا ولهذا يجب في الكلي المقسوم أن يقال اسمه على أنواعه وأقسامه فيسمى كل واحد من أفراد الإنسان أنسانا وكل واحد من آحاد الكلام كلاما وكل واحد من آحاد العلوم أنه علم وهذا الفرق هو الفرق الذي يذكره الناس لمتعلم العربية في أول التعليم فيقولون من قال الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف فإنه يريد قسمة الكل إلى أجزائه وأبعاضه
وأما من أراد تقسيم الجنس فإنه يقول الكلمة تنقسم إلى اسم وفعل وحرف فإن الجنس إذا قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه أو النوع إذا قسم إلى أشخاصه كان اسم المقسوم صادقا على الأنواع والأشخاص وإلا فليست بأقسام له وسواء أراد ذلك أو لم يرده فأي نوعي القسمة أراد فإن في كل واحد من نوعيهما لا يكون هذا القسم هو هذا القسم فلا يكون أحد أن الكلام الكلي المنقسم إلى أمر ونهي الأمر فيه هو النهي ولا أن الكلام الموجود المعين المنقسم إلى أبعاضه كالأمر والنهي أو الاسم والفعل والحرف يكون الأمر فيه هو النهي والاسم فيه هو الحرف فإنهم اختاروه من القسمين كان قولهم مخالفا للبديهة المتفق عليها بين العقلاء
الوجه التاسع والأربعون: إن حقيقة قولهم نفي القسمين جميعا عن كلام الله فإن المعقول في الكلام سواء قدر كليا أو موجودا معينا أن منه ما هو أمر ومنه ما هو خبر فإذا أريد قسمة الكل قبل الكلام والقول ينقسم إلى الأمر والنهي فيكون الأمر موجودا والنهي موجودا وكلاهما يقال له كلام ويقال له قول وأما كلام هو بعينه موجود في الخارج وهو بعينه أمر ونهي فهذا لا يكون وإذا أريد قسمة الكلي قيل هذا الكلام الموجود منه ما هو أمر ومنه ما هو نهي وهم يقولون كلام الله ليس بعضه أمرا وبعضه نهيا ولا بعضه خبرا فإن ذلك يقتضي ثبوت الأبعاض له ولا بعض له ولا هو أيضا كليا ينقسم إلى الأمر والنهي فإن ذلك يقتضي أن يكون الأمر غير النهي بل هو عندهم معنى واحد موجود في الموصوف هو الأمر والنهي والخبر
وأما الموصوف فإن ظهور انتفاء القسمة الأولى عنه لا يحتاج إلى بيان فإنه ليس وجودا كليا ينقسم إلى القديم والمحدث والواجب والممكن والخالق والمخلوق فإن هذا قول بعدمه إذا الكلي لا وجود له في الخارج وقول مع ذلك بأنه يكون خالقا ويكون مخلوقا وقديما ومحدثا أي بعض أنواعه هو الخالق وبعض أنواعه المخلوق ومعلوم أن الذي هو كذلك ليس هو الخالق القديم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
نعم الزنادقة الالحادية يقولون إن الرب هو الوجود وهم على قولين أحدها أنه هو الوجود المطلق الذي لا يتعين وهذا قول القونوي فعلى هذا القول ينقسم إلى حيوان ونبات وأرواح وأجسام لكن لا ينقسم إلى واجب وممكن وخالق ومخلوق بل الوجود الكلي المطلق هو الواجب الخالق وهذا قول بتعطيل الصانع وجحوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولا يقول عاقل إنه الوجود المطلق الثابت للواجب المتميز بنفسه عن الممكن فإن هذا إنما قاله لكونه لا يثبت الواجب متميزا عن الممكن بنفسه فإذا لزمه ثبوت واجب متميز لزمه تناقضه ومع هذا فهم من أكثر الخلق تناقضا وهم مخلطون تخليطا عظيما مع اشتراكهم فيما هم فيه من أظلم الخلق من الشرك بالله والتعطيل فلا يبعد على بعضهم أن يقول ذلك لا سيما إذا فرقوا بين تجلية الذاتي وتجلية الأسماء فقد يقولون التجلي الذاتي هو الواجب والأسمائي هو الممكن ويقولون هو الوجود المطلق المقول على الواجب والممكن والقول الثاني يقولون هو نفس الوجود وأن الموجودات أبعاضه واجزاؤه لا أنواعه وهؤلاء جعلوه موجودا لكن جعلوه هو المخلوقات بعينها والأولون لم يجعلوه موجودا في الخارج لكن جعلوه المطلق الذي يوجد في الخارج معينا لا مطلقا ثم مع ذلك هل للممكنات أعيان ثابتة في العدم سوى وجوده أم هو عين الممكنات على قولين والأول قول صاحب الفصوص منهم والثاني قول أتباعه كالقوني والتلمساني وغيرهما
لكن قول هؤلاء وإن أضل طوائف من أذكياء الناس وعبادتهم ووقع تعظيمهم في نفوس طوائف كثيرة من العلماء والعباد والملوك تقليدا وعظيما لقولهم من غير فهم لقولهم فكل مسلم بل كل عاقل إذا فهم قولهم حقيقة علم أن القوم جاحدون للصانع مكذبون بالرسل والشرائع مفسدون للعقل والدين وليس الغرض هذا الكلام فيهم فإن الأشعرية لا تقول بهذا وحاشاها من هذا بل هم من أعظم الناس تكفيرا ومحاربة لمن هو أمثل من هؤلاء وإنما هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية ومن قال من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن الفلاسفة ليس يمنقسم فإن هذا المعنى هو أظهر فسادا عندهم من أن يكون هو مرادهم بل يريدون أنه موجود في الخارج متميز بنفسه وأنه مع ذلك ليس له أجزاء وأبعاض وقد يقول نفاه الصفات من الفلاسفة وغيرهم كابن سينا وغيره أن واجب الوجود ليس له أجزاء لا أجزاء حد ولا أجزاءكم ومراده بذلك أنه ليس له صفة كالعلم والقدرة ولا بعض كالجسم وهو يقول إنه موجود متميز عن الممكنات ولكن يقول هو وغيره من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية فيه ما يوجب أن يلزمهم قول أولئك الاتحادية فإن يقول هو الوجود المطلق ويصفه بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلى على المعدوم كالوجود المطلق الكلي الذي لا وجود له في الخارج لكن لازم قول الناس ليس هو نفس قولهم الذي قصدوه
وتحقيق الأمر أن هؤلاء يجمعون بين إثبات الباري ونفيه وبين الإقرار به وإنكاره ولا يقرون بأنه وجود المخلوقات وأما أولئك الاتحادية فمع تناقضهم صرحوا بأنه وجود المخلوقات والمقصود هنا أن الباري تعالى وإن كانت هذه القسمة والتبعيض منتقية عنه فقولهم إنه واحد ليس بذي أبعاض معناه عندهم أنه واحد متميز عن غيره موجود لا بعض له وإذا كان كذلك ومن أصلهم أن كلام الله شيء موجود قائم بالمتكلم لا يتبعض ولا ينقسم أي ليس منه ما هو أمر ومنه ما هو نهي ومنه ما هو خبر بحيث يكون ليس هذا هو هذا بل الذي هو الأمر هو النهي وهو الخبر والباري عندهم شيء واحد أي ليس بجسم ذي أبعاض وأحد هذه النوعين ليس من جنس الآخر لأنه إنما يصلح أن يستدل بنفي هذا التبعيض أن لو كان بعض الكلام يقوم ببعض وبعضه يقوم ببعض آخر فيقال يلزم من نفى تبعض الموصوف نفي بتعض الصفة القائمة به بل إذا قيل إن الكلام حقائق فكل حقيقة تقوم بالموصوف قياما مطلقا كما تقوم به الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك قياما مطلقا لكان هذا معقولا مقبولا فعلم أنه وإن عقيل متكلم واحد ليس بذي أبعاض وأجزائه فإنه لا لزم أن يعقل كلام هو معنى واحد هو الأمر والنهي وأن هذا شيء غير هذا
الوجه الخمسون: إن ما ذكره من كون الموصوف شيئا واحدا بذي أبعاض يصلح أن يحتج به على إمكان أن تكون صفته واحدة ليست بذات أبعض ولا أجزاء فإذا قام به علم أو علوم أو قدرة أو قدر أو كلام أو كلمات أو غير ذلك قيل في كل صفة تقوم به أنها ليست ذات أجزاء وأبعض فغذا قام به أو أمر وأخبار كان كل أمر وكل خبر غير متبعض ولا متجزيء أما أنه يصلح أن يحتج به أن هذه الصفة هي هذه الصفة مثل أن يقال أن الأمر هو الخبر والسمع هو البصر فهذا باطل ثم يقال
الوجه الحادي والخمسون: إن وحدته إما أن تصحيح هذا بأن يقال هذه الصفة هي هذه الصفة أو لا تصحح ذلك فإن صححته صح أن يقال السمع هو البصر وهما جميعا العلم وهو القدرة وهي الحياة وإن لم تصح ذلك لم يصح أن يقال الأمر بالصلاة هو الأمر بالزكاة فضلا عن أن يقال الأمر بالصلاة هو الخبر عن سجود الملائكة لآدم
الوجه الثاني والخمسون: أن يقال ما تعني بقولك كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات أتعني بذلك أنه لا يتفرق ولا ينفصل منه شيء من شيء بل هو صمد سبحانه وتعالى أم تعني به أنه لا يتميز منه في العلم شيء من شيء فإن عنيت الأول فهو حق لكن لا يفيدك ذلك فإن هذا لا يستلزم أن لا يكون له كلام متعدد وإن عنيت الثاني قيل لك لا ريب أنك تسلم أنه يمكن العلم ببعض صفاته دون بعض كما تعلم قدرته ولا تعلم علمه وتعلم وجوده ولا تعلم وجوبه ولا ريب أن المعلوم هو هذا الذي ليس بمعلوم فهذا إقرار منك بثبوت التبعض والتجزيء بهذا الاعتبار ثم العلم إن لم يطن مطابقا للمعلوم كان جهلا فلا بد أن تكون هذه الحقائق متميزة في ذواتها وهذا صريح فيما أنكرته ولا بد لكل موجود من مثل هذا فإنه ما من موجود إلا ويمكن أن يعلم منه شيء دون شيء وذلك يستلزم ثبوت حقائق ليست هذه هي هذه وهذا لازم لكل أحد حتى نفاه الصفات يقرون بثبوت المعاني التي هي هذه وإذا كان التبعيض بهذا الاعتبار ثابتا لم يمكنك إنكار التبعيض مطلقا بل علم بالضرورة والاتفاق أن منه شيئا ليس هو الشيء الآخر أما الصفاتية فيقرون بذلك لفظا ومعنى وهو الحق والكلابية والأشعرية منهم
وأما نفاة الصفات فإنهم أيضا مضطرون إلى الإقرار بذلك فإن أخذوا يقولون بل هذا هو هذا كما يقوله المتفلسفة في العاقل والمعقول والعقل وفي الوجود والوجوب وكما يقوله المعتزلة وكما يقول أبو الهذيل أن العلم والقدرة هو الله ونحو ذلك فمن المعلوم أن فساد هذا من أظهر البديهيات في العقول ثم إذا التزموا ذلك كان لكل من نازع أن يقول فيما أنكروه كم قالوه فيما أقروا به فيقول المجسم أنا اقول أن هذا الجانب هو هذا الجانب كما يقوله من يقول مثل ذلك في الجوهر الفرد ويقول الصفاتية كلهم نحن نقول العلم هو القدرة والقدرة هي السمع والبصر ويقول الأشعرية للمعتزلة نحن نقول الأمر هو النهي ويقول القائلون بالحروف والصوت نحن نقول الباء هي السين وأمثال ذلك كثير وإن قالوا بل لا نقول في هذين أن أحدهما هو الآخر ولا يغره أو هما متغايران باعتبار دون اعتبار أو نحوهما ذلك كان القول فيما نوزعوا فيه من التبعيض نظير القول فيما أقروا به وهذا كلام متين لا انفصال عنه بحال وقد بسطناه في الكلام على تأسيس الرازي
الوجه الثالث والخمسون: قوله كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض والذي أوجب كونه ذلك قدمه يقال لكن من أين في قدمه أن يكون كذلك وأنت لم تذكر ذلك وقد تكلمنا في تخليص التلبيس على جميع ما احتجوا به في هذا الباب وبينا لكل من له أدنى فهم أن جميع حججهم داحضة وتكلمنا على طريقهم المشهور الذي أثبتوا به حدوث الأجسام وبينا اتفاق السلف على فسادها فإنها فاسدة في العقل أيضا
الوجه الرابع والخمسون: إن حجتهم على إنكار تكلم الله بالحروف ينقض ما احتجوا به على هذا الكلام النفساني فيلزمهم أحد الأمرين إما إنكارا ما أثبتوه من الكلام النفساني أو الإقرار بما أنكروه من التكلم بالحروف قال القاضي أبو كبر الباقلاني في كتاب النقض وهو في أربعين سفرا وقد تكلم في مسألة القرآن في ثلاث مجلدات وتكلم على القائلين بقدم الحروف وقال من زعم أن السين من بسم بعد الباء والميم بعد السين والسين الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن المعقول إلى أجحد الضرورة فإن من اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوليته
فإن ادعى أنه لا أول لما له أول سقطت مكالمته وأما من زعم أن الرب سبحانه تكلم بالحروف دفعة واحدة من غير ترتيب ولا تعاقب فيها فيقال لهم الحروف أصوات مختلفة ولا شك في اختلافها وقد اعترف خصوصا باختلافها وزعموا أن لله ضروبا من الكلام متغايرة مختلفة على اختلاف اللغات والمقاصد في العبارات وكل صوتين مختلفين من الأصوات متضادان يستحيل إجتماعهما في المحل الواحد وقتا واحدا كما يستحيل اجتماع كل مختلفين من الألوان والذي يوضح ذلك ويكشفه إنا كما نعلم استحالة قيام السواد والبياض بمحل واحد جميعا فكذلك نعلم استحالة صوت خفيض وصوت جهوري بمحل واحد في وقت واحد جميعا وهذا واضح لإخفاء فيه والمختلف من الأصوات يتضاد كما أن المختلف من الألوان يتضاد والرب سبحانه واحد ومتصف بالوحدانية متقدس عن التجزيء والتبعض والتعدد والتركيب والتألف وإذا تقرر ما قلناه استحال قيام أصوات متضادة بذات موصوفة بحقيقة الوحداينة وهذا ما لا ملخص لهم منه
فإن تعسف من المقلدين متعسف وأثبت الرب سبحانه جسما مركبا من أبعاض متألفا من جوارح نقلنا الكلام معه إلى أبطال التجسيم وإيضاح تقدس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيب فيقال له هذا بعينه وأرد عليك فيما أثبته من المعاني وهو المعنى القائم بالذات فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم فهو بالضرورة ينطق بالإسم الأول لفظا ومعنى قبل الثاني فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف
فيقال من اعترف بأن معنى اسم الرحمن الرحيم بعد معنى بسم الله وادعى أن هذا المعنى لا أول له فقد خرج عن المعقول إلى جحد الضرورة وإن زعم أن الرب تكلم بمعاني الحروف دفعة واحدة من غير تعاقب ولا ترتيب قيل له معاني الحروف حقائق مختلفة لا شك في اختلافها فإن المعنى القائم بنفس المتكلم المفهوم من الحمد لله رب العالمين ليس هو المعنى القائم بالنفس من تبت يدا أبي لهب ولا شك في أن المعنى في صيغ الأمر ليس هو المعنى في صيغ الأخبار فأما أن يسلم هذا أو يمنع فإن سلم كما سلم بعضهم أن الكلام خمس حقائق تكلم معه حينئذ وإن لم يسلم قيل له العلم باختلاف هذه المعاني ضرورة بديهي ليس هو بدون العلم بتعاقب الحروف والمعاني ولا بدون العلم باختلاف الأصوات بل أصوات المصوت الواحد أقرب تشابها من المعاني القائمة بنفسه وهذا الأمر محسوس ومن أنكره سقطت مكالمته أبلغ مما تسقط مكالمة ذاك وحينئذ فيقال له هذه المعاني المختلفة متضادة في حقنا فإنا نجد في نفوسنا أنها عند تصور معاني كلام لا يمكنها أن تتصور معاني كل كلام كما نجد من نفوسنا أنا عند التكلم بصوت لا يمكننا أن نتكلم بصوت آخر فإن كان هذا الأمتناع لذات المعنيين والصورتين امتنع أن يقول ذلك بمحل واحد وإن كان لعجزنا عن ذلك كما نعجز عن استحضار علوم كثيرة لم يجب أن يكون ذلك ممتنعا في حق الله ولا ممتنعا أن يخلق الله فيما شاء من المخلوقات معاني كثيرة مختلفة وأصواتا كثيرة مختلفة
قوله وكل صوتين مختلفين من الأصوات متضادان يستحيل اجتماعهما في المحل الواحد وقتا واحدا فيقال له أما الذي نجده فإنا لا يمكننا أن نجتمع بين صورتين في محل واحد وقتا واحدا سواء كانا مختلفين أو متماثلين فليس الامتناع في ذلك لأجل اختلاف الأصوات وكلذلك لا يمكننا أن نستحضر في قلوبنا المعاني الكثيرة في الوقت الواحد في الزمن الواحد سواء كانت مختلفة او متماثلة وإن قدرنا أن نجمع من المعاني في قلوبنا ما لا نقدر على أن نجمع لفظه من الأصوات فلا ريب أن القلب أوسع من الجسد لكن لا بد أن يجد كل أحد نفسه يمتنع أن يجتمع فيها معان كثيرة في وقت واحد كما يمتنع أن يجمع بين صورتين في محل واحد وقياس الأصوات بالمعاني وهي مطابقة لها وقوالب لها أجود من قياسها بالألوان وما ألزموه في المعاني من أنها معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر ليس في مخالفته لبديهة العقول بدون أن يقال يكون حرف واحد هو الباء والسين وإذا لم يقل هذا وهو نظيره فلا ريب أن أقول بجواز اجتماعهما في المحل الواحد أقرب إلى المعقول من كون الأمر هو النهي وهما الخبر فالقول باجتماع الصفتين المتضادتين في محل واحد أقرب من القول بأن إحداها الأخرى
ومن قال الكلام هو الأمر والنهي والخبر وأنه كلها مجتمعة قائمة بمحل واحد فكيف يمتنع أن يقول باجتماع حروفها في محل واحد ومما يؤيد هذا أنه على أصل القاضي أبي بكر وهو فحل الطائفة أن النسخ رفع الحكم بعينه وهذا اختبار الغزالي وهو قول ابن عقيل وغيره من المحققين فيكون سبحانه قد أمر بشيء ونهى عن نفس ما أمر به كما في قصة الذبيح والأمر بالشيء مضاد للنهي عنه في فطر العقول أعظم من ضمادة السواد للبياض فإذا كانوا يلتزمون مثل ذلك حتى يجعلون الضدين شيئا واحدا كيف يمنعون اجتماع حرفين أو صوتين وذلك أقرب إلى المعقول وهذا الكلام لازم لجماعهم فإنهم حكو عن القائلين بعدم الحروف والأصوات هل هي متعاقبة أو يتكلم بها دفعة واحدة قولين
كما قال أبو المعالي فيما ذكره أبو عبد الله القرطبي: أن كلام الله مننزه عن الأصوات
الوجه الخامس والخمسون: إن هؤلاء المنبتين للحروف القديمة قالوا ما هو أقرب إلى المعقول من قول أهل المعنى الواحد القديم الذي هو الأمر والخبر فقالوا الترتيب والتعاقب نوعان ترتيب وجودي زماني كترتيب الابن على الأب واليوم على الأمس ولاريب أن هذا يمتنع في القديم الأزلي والثاني: ترتيب ذاتي حقيقي ليس بزماني كترتيب الصفات على الذات والعلم على الحياة والمعلول على عليه المقارنة له إذا قدر ذلك فإنه نعقل هنا ترتيبات وتقدما وتأخرا بالذات دون الوجود والزمان
وهذا كما لو فرض مصحف كتب آخره قبل أوله فإنه يعلم أن أول السورة متقدم على آخرها بالذات وإن كان قد كتب بعده قالوا والكلام حروفه ومعانيه مترتب في حق الله بهذه الاعتبار لا بالترتيب الزماني كما يوجد في قراءت القارئين من ترتيب المعاني والألفاظ جميعا في الزمان وهذا التريب لا ينافي قدمه ولا ريب أن ما في هذا من إثبات تعدد المعاني لتعدد الحروف والحكم عليها بحكم واحد وإثبات القدم على هذا الوجه أقرب إلى المعقول من جعل الحقائق المختلفة معنى واحدا ثم التفريق بين المعنى والحروف بالتحكيم فإن هذا فيه جمع بين المختلفين يجعلهما شيئا واحدا وتفريق بين الشيئين فيما اشتركا فيه
الوجه السادس والخمسون: أن نقول قولكم يستحيل اجتماع الصوتين في المحل الواحد وأثبتم ذلك شاهدا وغائبا ومن المعلوم أن وحدة الباري عندكم لا تناسب وحدة غيره وليس ذلك عندكم كوحدة الأجسام وليس عندكم في الشاهد ما هو واحد من وجه إلا الجوهر الفرد عند من يقول به فقولكم بعد هذا يستحيل اجتماع الصوتين المختلفين في المحل الواحد وقتا واحدا كما يستحيل اجتماع اللونين مع أنه لا واحد يفرض ذلك فيه شاهدا إلا الجسم وذلك مستلزم لكون الجسم واحدا فيقال هب أن الجسم لا يقبل اجتماع صوتين مختلفين كما لا يقبل معنى واحدا يكون أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا فهلا قلتم أن الواحد الذي ليس بجسم يمكن اجتماع أصوات فيه كما قلتم إنه يقوم به معنى واحد هو حقائق مختلفة فلما قيل لكم كيف يعقل هذا قلتم يعقل ذلك بالدليل الواجب لقدمه المانع من كون متعايرا مختلفا كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض
ومعلوم أن الأدلة الدالة على قدم الكلام عند التحقيق لا تفرق بين المعاني والحروف وإنما فرقتم لمعارض أخرج الحروف عن ذلك وهو ما اعتقدتموه من وجوب حدوثها كما ذكرتم هنا وهذا الدليل يلزم أقوى منه في المعاني فلو قلتم نعقل حروفا مجتمعة أو أصوات مجتمعة في محل واحد بالدليل الدال على ذلك إذا كان ذلك الواحد ليس بذي أبعاض حتى يكون القائم بهذا البعض مغايرا للقائم بالبعض الآخر وإذا لم تجب المغايرة فيما قام به لم يمتنع أن يقول به الصوت الذي هو بالسنة إلى غيره أصوات إذا الاختلاف فرع للتغاير فما لا تغاير فيه يمتنع الاختلاف فيه فإذا كان ما يقوم به لا يغاير فإن لا يختلف أولى وأحرى ففرض قيام صوتين مختلفين به والحال هذا يمتنع على ما أصلتموه
الوجه السابع والخمسون: إن اجتماع العلم بالشيء والرؤية في محل واحد في وقت واحد ممتنع في حقنا وكذلك العلم به وسمعه ومع هذا فقد أثبتم الباري يعلم الموجودات ويراها والعلم ولارؤية قائمان بمحل واحد عندكم وأيضا فعند الأشعري والقاضي وسائر أئمتهم أو الوجه واليدين والصفات قائمة بذات الله التي لا تنقسم كقيام العلم والسمع والبصر والقدرة ومن المعلوم أن قيام القدرة واليدين في محل واحد ممتنع عندنا بل عندنا أن اليدين محل القدرة فإذا أثبتم يدا ووجها وصفتموهما بذلك فما المانع من ثبوت حروف وأصوات ويمكنكم أن تقولوا أنها ليست من جنس الأعراض القائمة بالمخلوقين فلا يجب أن يحكم فيها بحكمها
الوجه الثامن والخمسون: إن قوله الرب واحد ومتصف بالوحدانية متقدس عن التجزيء والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف يتسحيل قيام أصوات متضادة بذات موصوفة بحقيقة الوحدانية يقال له هذا يلزمك في سائر الصفات فإن الذات التي لا يتميز في العلم منها شيء من شيء يمتنع أن يقوم بها صفات كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر إذ ذلك يوجب من التعدد والتركيب والتأليف والتجزيء والتبعيض نظير ما نفاه وهو من حجة نفاة الصفات عليه ولما قاله له مخالفة لا نعقل الحياة والعلم والقدرة يقوم إلا بجسم ولا يعقل اليد والوجه إلى بعضا من جسم قال لا يجب
هذا كما لا يجب إذا لم تعقل حيا عالما قادرا إلى جسما أن يكون الغائب كذلك فألزم مخالفة إثباته لحي عالم قادر في متصف بهذه الوحدة التي وافق خصمه عليها ومعلوم أن هذا كله في مخالفة صريح العقل سواء فكونه لا يتميز منه شيء من شيء يأبى أن يكون حيا عالما قادرا إذ هذه الأشياء مستلزمة لمعاني يتميز بعضها عن بعض بل يآبى ثبوت موجود مطلقا سواء كان قديما أو حادثا إذ لا بد للموجود من أمور متميزة فيه وذلك مستلزم لثبوت ما نفاه فهذا التوحيد الذي ابتدعوه هو التعطيل المحض وهو تبشبيه الباري بالمعدومات
الوجه التاسع والخمسون: قولك لأنه مقدس عن التجزيء والتبعيض والتعدد والتركيب والتأليف يقال هذه ألفاظ مجملة فإن أردت المعنى المعروف في اللغة لهذه الألفاظ مثل أن تريد أنه لا ينفصل بعضه عن بعض ولا يتجزأ فيفارق جزءه منه جزأ كما هو المعقول من التجزي ولا يتعدد فيكون إليهن أو ربين أو خالقين ولم يركب فيؤلف فيجمع بين أبعاضه كما في قوله: { في أي صورة ما شاء ركبك } أو ما يشبه هذه الأمور فهذا كله ينافي صمدانيته ولكن لا ينافي قيام ما يثتبه من الأصوات كما لا ينافي قيام سائر الصفات وإن أردت بهذه الألفاظ أنه لا يتميز منه شيء من شيء فهذا باطل بالضرورة بواطل باتفاق العقلاء وهو لازم لمن نفاه لزوما لا محيد عنه وقد يسطنا هذا يسطا مستوفي في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعتهم الكلامية
وأما قوله فإن تعسف من المقلدين متعسف وأثبت الرب تعالى جسما مركبا من أبعاض متآلفا من جوارح نقلنا الكلام معه إلى إبطال الجسم وإيضاح تقدس الرب عن التبعيض والتأليف والتركيف فيقال له الكلام في وصف الله بالجسم نفيا وأثبتا بدعة لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن الله ليس بجسم كما لم يقولوا أن الله جسم بل من أطلق أحد اللفظين استفصل عما أراد بذلك فإن في لفظ الجسم بين الناطقين به نزاعا كثيرا فإن أراد تنزيهه عن معنى يجب تنزيه عنه مثل أن ينزهه عن مماثلة المخلوقات فهذا حق
ولا ريب أن من جعل الرب جسما من جنس المخلوقات فهو من أعظم المتبدعة ضلالا دع من يقول منهم أنه لحم ودم ونحو ذلك من الضلالات المنقول عنهم وإن أراد نفي ما ثبت بالنصوص وحقيقة العقل أيضا مما وصف الله ورسوله منه وله فهذا حق وإن سمي ذلك تجسيما أو قيل أن هذه الصفات لا تكون إلا لجسم فما ثبت بالكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة هو حق وإذا لزم من ذلك أن يكون هو الذي يعنيه بعض المتكلمين بلفظ الجسم فلازم الحق حق كيف والمثبتة تقول أن ثبوت هذا معلوم بضرورة العقل ونظره وهكذا مثبت لفظ الجسم أن أراد بإثابته ما جاءت به النصوص صوبنا معناه ومنعناه عن الألفاظ المبتدعة المجملة وإن أراد بلفظ الجسم ما يجب تنزيه الرب عنه من مماثلة المخلوقات رددنا ذلك عليه وبينا ضلاله وإفكه وأما قول نقلنا الكلام معه إلى إبطال التجسيم فقد ذكرنا أدلة النافين والمثبتين مستوفاة في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية وتبين لكل من أدنى فهم أن ما ذكره هؤلاء من أدلة النفي كلها حجج داحضة وأن جانب المثبتة أقوى وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع
قال أبو عمر بن عبدالبر الذي أقول أنه إذا نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبر الرحمن بن عوف وسائر المهاجرين والانصار وجميع الوفود الذي دخلو في دين الله أفواجا علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين وأعلام النبوة ودلائل الرسالة لا من قبل حركة ولا سكون ولا من باب الكل والبعض ولا من باب كان ويكون ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما اضاعوه الواجب لما نطق القرآن تبزكيتهم وتقديمهم ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم ولو كان من علمهم مشهورا ومن أخلاقهم معروفا لاستفاض عنهم وشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات