الفتاوى الكبرى/كتاب البيوع/4
القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد
ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا والذي يمكن ضبطه منها قولان:
أحدهما: أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك الحظر إلا ما في ورد الشرع بأجازته
فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولن ما خالف مقتضى العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله وطردوا ذلك طردا جاريا لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شرطا يخالف مقتضاها المطلق وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا له أن يشرط في البيع خيارا ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال
ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرا عليه ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته وإنما جوز الإجارة المؤجرة لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو يشرط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ
ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار ونحوهما ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاث للأثر وهو عنده موضع استحسان والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثنى مواضع الدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤجرة لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة والمعنى ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤخرة على الصحيح في مذهبه وكبيع الشجر مع استبقاء الثمرة المستحقة البقاء ونحو ذلك ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها وكذلك سائر الصفات المقصود على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار وانفساخه بالشروط التي تنافيه وكاشتراط الأجل والطلاق وكنكاح الشغار بخلاف فساد المهر ونحوه
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث وكاستثناء البائع منفعة المبيع واشتراط المرأة أن لا ينقلها وأن لا يزاحمها يغيرها وذلك من المصالح فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل إلا إذا كان فيه مصلحة للعاقد
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر ما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة ويستثنى أكثر مما يستثنى للمعارض وهؤلاء الفرق الثلاثة يخالفون أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة رضي الله عنهم ولما قد يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط أكثر منهم
وعمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة وهو ما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم: فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله ﷺ جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي ﷺ فقال: [ خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن اعتق ] ففعلت عائشة ثم قام رسول الله ﷺ في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: [ أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ] وفي رواية للبخاري: [ اشتريها فاعتقيها وليشترطوا ما شاؤوا ] فاشترتها فاعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي ﷺ: [ الولاء لمن اعتق وإن اشترطوا مائة شرط ] وفي رواية لمسلم: [ شرط الله أحق وأوثق ] وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية فتعتقها فقال أهلها: نبيها على أن ولاءها لنا فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: [ لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق ] وفي مسلم عن أبي هريرة قال: أرادت عائشة أم المؤمنين أن تشتري جارية تعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: [ لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن اعتق ]
ولهم من هذا الحديث حجتان:
إحداهما: قوله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله
والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي مقتضى العقد على اشتراط الولاء لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فإذا إرادة تغييرها تغيير لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات وهذا نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع
ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر حيث كان ينكر الإشتراط في الحج ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله: { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }
قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة في الدين وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي ﷺ مع المشركين عام الحديبية أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشروط التي في كتاب الله واحتجوا أيضا بحديث يروى حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك أن النبي ﷺ نهى عن بيع وشرط وقد ذكره جماعات من المصنفين في الفقه ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه وأجمع العلماء المعرفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح
القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطال نص أو قياس عند من يقول به وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوص عنه أكثرها تجري على هذا القول ومالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها تنبيه بدليل خاص من أثر أو قياس لكنه لا يجعل حجة الأولين من الصحة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي ﷺ والصحابة ما لم يجده عند غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحاب أحمد عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط
كمسألة الخيار أكثر من ثلاث فإنه يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث مطلقا ومالك ويجوزه بقدر الحاجة وأحمد في إحدى الروايتين يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه
ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والبعض منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبي ﷺ جمله واستثنى ظهره إلى المدينة
ويجوز أيضا للمعتق أن يستثنى خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة واشترطت عليه خدمة النبي ﷺ ما عاش وجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها كما في حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة وجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثنى منفعة عليه جميعها لنفسه مدة حياته
كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك وفيه روى حديث مرسل عن النبي ﷺ وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه فيه عن روايتان
ويجوز أيضا على قياس قوله استثناء المنفعة في العين المرهونة والصداق وفدية الخلع والصلح عن القصاص ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك سواء كان بإسقاط كالعتق أو بأملاك بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح لما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ] ومن قال بهذا الحديث قال أنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح فيجوز أحمد أن تشترط المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها وتزداد على ما يملكه بالإطلاق فتشرط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة كاليسار والجمال ونحو ذلك ويملك الفسخ بفواته وهو من أشد الناس قولا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها وبالتدليس كما لو ظنها حرة فبانت أمة وبالحلف في الصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا وظهر بخلاف ما ذكره
وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيع واشتراط الطلاق وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة ونحو ذلك فيه عنه روايتان:
أحدهما: نعم كنكاح الشغار وهو رواية عن مالك
والثانية: لا لأنه تابع وهو عقد مفرد كقول أبي حنيفة والشافعي أكثر نصوصه تجوز أن يشترط على المشتري فعل أو ترك في المبيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه لكن الأول أكثر في كلامه ففي جامع الحلال عن أبي طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال: لا بأس به
وقال مرثأ: سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له: إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني قال: لا بأس به ولكن لا يطأها ولا يقربها وله فيها شرط لأن ابن مسعود قال لرجل: لا يقربنها والآخر فيها شرط
وقال حنبل: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته وشرطها لها إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: لا ينكحها وفيها شرط قال حنبل: قال عمر: كل شرط في فرج فهو على هذا
والشرط الواحد في البيع جائز إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها لأنه شرط لامرأته الذي شرط فكرة عمر إن يطأها وفيها شرط
وقال الكرماني: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرطها لأهلها أن لا يبيع ولا يهب فكأنه رخص فيه ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن فلا يقربها يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن مسعود فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقابلة
وأكثرها المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط وربما تأولوا قوله جائز أي العقد جائز وبقية نصوصه تصريح بأن مراده الشرط أيضا واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله الثلاثة من الصحابة وكذلك اشترط المبيع فلا يبيعه ولا يهبه أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه يعين لصرف واحد كما روى عمر بن سبة في أخبار عثمان رضي الله عنه أنه اشترى من صهيب دارا وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما جاز الإجماع استثناء بعض المبيع وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز أيضا استثناء بعض التصرفات
وعلى هذا فمن قال هذا الشرط ينافي مقتضى العقد مطلقا فإن أراد الأول فكل شرط كذلك وإن أراد الثاني لم يسلم له وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد
فأما إذا شرط شرطا بقصد بالعقد لم يناف مقصوده هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الإستصحاب والدليل النافي
أما الكتاب: فقال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } والعقود هي العهود وقال تعالى: { وبعهد الله أوفوا } وقال تعالى: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } وقال: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا }
فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام وكذلك أمرنا بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا } فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك العهود عليه قبل العهد النذر والبيع وإنما أمر بالوفاء به ولهذا قرنه بالصدق في قوله: { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } لأن العدل في القول خير يتعلق بالماضي والحاضر والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل كما قال تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وقال سبحانه: { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام }
وقال المفسرون كالضحاك وغيره تساءلون به تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدام المخلوقة كالرحم والمسكوبة كالعقود التي يدخل فيها المهر ومال اليتيم ونحو ذلك وقال سبحانه: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به } إلى قوله: { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم } والإيمان جمع يمين وكل عقد فإنه يمين قيل سمي بذلك لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك قوله: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } إلى قوله تعالى: { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } وإلا هو القرابة والذمة العهد وهما المذكوران في قوله: { تساءلون به والأرحام } إلى قوله: { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } فذمهم على قطعية الرحمن ونقض الذمة إلى قوله: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم }
وهذه نزلت في الكفار لما صالحهم النبي ﷺ عام الحديبية ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة
وأما قوله سبحانه: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } فتلك عهود جائزة لا لازمة فإنها كانت مطلقة وكانت مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم وإن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يزده القرآن وترده سنة رسول الله ﷺ في أكثر المعاهدين فإنه لم يوقت معهم وقتا
فأما من كان عهده موقتا فإنه لم يبح له نقضه بدليل قوله: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } وقال: { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } وقال: { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } فإنما أباح النبذة عند ظهور إمارات الخيانة لأنه المحذور من جهتهم وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }
وجاء أيضا في صحيح عن أبي موسى الأشعري أن في القراءة الذي تستحب تلاوته في سورة كانت كبراءة: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } ستكتب شهادتهم في أعناقهم فيسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } في سورتين وهذا من صفة المستثنين من الهلوع المذموم بقوله: { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم } إلى قوله { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وهذا يقتضي وجوب ذلك لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب
وكذلك في سورة المؤمنين قال في أولها: { أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس } فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوراثين لأن ظاهر الآية الحصر فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخير يشعر بالحصر ومن لم يكن وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة إلا أن يعفو الله عنه فإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته الوفاء به ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي ﷺ ضد ذلك صفة المنافق في قوله: [ إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ] وقال تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته لأن الواجب إما بالشرع وإما بالشرط الذي عقده المرء
وقال أيضا: { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } إلى قوله: { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } وقال: { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } وقال تعالى: { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } إلى قوله: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } وقال تعالى: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } إلى قوله: { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وقال تعالى: { الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } الآية وقال تعالى: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم }
وأما الأحاديث فكثيرة منها: في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم هجر ] وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: [ ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ] وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: [ لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ] وفي رواية: [ لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته إلا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة ] وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: [ اغزوا فيه بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فايتهم ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ] الحديث فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي ﷺ هل يغدر؟ قال: لا يغدر ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة وقال هرقل في جوابه: سألتك هل يغدر فذكرت أن لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر فجعل هذا صفة لازمة
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: [ إن أحق الشروط أن توفوا بعد ما استحللتم به الفروج ] فدل على استحقاق الشروط والوفاء وإن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: قال الله تعالى: [ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطاني ثم بدر ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره ] فذم الغادر وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك ولو كان الاصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا
كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة والزكاة فإنه يؤمر به مطلقا وإن كان لذلك شروط وموانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت والتعريض وإذا كان حسن الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده ومقصوده هو الوفاء به وإذا كان الشرع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة
وقد روي أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: [ الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم ] وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية هو ثقة وضعفه في رواية أخرى وروى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمر وعمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال: [ الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا وأحل حراما والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما ] وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وروى ابن ماجه منه اللفظ الأول لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة وضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه فروى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن بن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ [ الناس على شروطهم ما وافقت الحق ]
هذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة وهو حقيقة المذهب فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله فإن شرطه يكون حينئذ إبطالا لحكم الله وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط قال: لأنها إما تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وقد وردت شبه عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه كالزنا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو بملك يمين فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز وكذلك الولاء نهى ﷺ عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد
وقال ﷺ: [ من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ] أبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره أو انتساب المعتق إلى غير مولاه فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط ما كان حراما وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط وجبه كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن وتأخير الاستيفاء فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالاستيفاء ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حراما وحلالا مطلقا فالشرط لا يغيره وأما ما أباحه الله قد حرم ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد الإستصحاب فلا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضي الله عنه مقاطع الحقوق عند الشروط
وأما الاعتبار فمن وجوه:
أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله تعالى: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } عام في الأعيان والأفعال وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه وسنبين إن شاء الله تعالى معنى حديث عائشة وانتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالإستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا كالأعيان التي لم تحرم
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستحضار العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل به أيضا على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم فإن ما ذكره الله تعالى في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع منه ما سببه تحريم الأعيان ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن خمسيا ويأمرونه بالتعري إلا أن يعيره خمسي ثوبه ويحرمون عليه الدخول تحت سقف وكما كان النصارى يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كان يحبه ويحرمون الطواف بالصفا والمروة وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع فأمرهم الله سبحانه بالوفاء بها في سورة النحل وغيرها إلا ما اشتمل على محرم فعلم أن العهد يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة وإن لم يثبت حلها بشرع خاص كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمروا بالوفاء بها وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا لما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرم الله لأن الله ذم المشركين الذي شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به فلا يشرع عادة إلا بشرع ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة
فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعا لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا بخلاف الأعيان التي لم تحرم فإنه لا تغيير في أباحتها فيقال لا فرق بينهما وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع أو غيره إلى عمرو هو من باب العقود وإن لم تكن ملكا فيملكها بلا سبيل ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود وأيضا فإنها قبل الذكاة محرمة فالذكاة كالواردة عليها بمنزلة العقد على المال فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والذكاة الأصل فيها الحل وإن غير حكم العين فكذلك أفعالنا في الأملاك بالعقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك له
وسبب ذلك أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام الشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا لم نثبته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره لإثباته سبب ذلك وهو الملك الثابت بالبيع ولم يحرم الشارع عليه رفع ذلك فلأن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ما لم يحرمه الشارع عليه كمن أعطى رجلا مالا فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع منه مانع
وهذه نكتة المسألة التي تبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمر ولم يشرعها الشارع شرعا جزئيا وإنما شرعها شرعا كليا بمثل قوله: { وأحل الله البيع } { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا فهذا المعين سببه فعل العبد فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله إلا ما أثبته الله من الحكم الكلي إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد فقط لأن الشارع أثبته ابتداء وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام وليس كذلك فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع وأما هذا المعين فإنما ثبت لأن العبد أدخله في المطلق وإدخاله في المطلق إليه وكذلك إخراجه والشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا مثل أن يقول هذا الثوب بعه أو لا تبعه أو هبه أو لا تهبه وإنما حكم على المطلق الذي إذا دخل فيه المعين فتدبر هذه وفرق بين تعيين الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تعيين الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد
وإذا ظهر أن العقود لا يحرم فيها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع والوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل والعقلاء جميعهم وأدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع والوفاء بها واجب لإيجاب الشرع وكذا الإيجاب العقلي أيضا وأيضا فإن الأصل في العقود رضى المتعاقدين ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد لأن الله تعالى قال في كتابه: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا }
فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن
وكذلك قوله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة وإذا كان كذلك فإذا تراضا المتعاقدان أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك وأيضا فإن العقد له حالان حال إطلاق وحال تقييد ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود
فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد وإن أريد به تنافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره وإن أريدتنا في مقتضى العقد المطلق والمقيد إحتاج إلى دليل على ذلك وإنما يصح هذا إذا أتى في مقصود العقد فإن العقد إذا كان له مقصود يراد جميع صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه فلا يحصل شيء ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق بل هو مبطل للعقد عندنا
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده فإن مقصود الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا فثبوت الولاء لا ينافي مقصوده العقد وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي ﷺ بقوله: [ كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ] فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله فإما إذا لم يشتمل على واحد منهما إذا لم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو إما أن يقال لا تحل ولا تصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور كما ذكرناه من القول الأول أو يقال لا يحل ولا يصح حتى يدل على حلها دليل سمعي وإن كان عاما أو يقال تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام والقول الأول باطل لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم فقال سبحانه في آية الربا: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه يوجب أنه غير منهى عنه وكذلك النبي ﷺ أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ولم يأمرهم برد المقبوص وقال النبي ﷺ: [ أيما قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو قسم الإسلام ] وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ولم يستفصل أحدا هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأة إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحت عشرة نسوة أن يمسك أربعة ويفارق سائرهن كما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارقوا ذات المحارم ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذ لم تكن محرمة على المسلمين وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن شرعي ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكون فيه بشرع
فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله مضت ولم يؤمروا باستئنافها لأن الإسلام يجب ما قبله وليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع وكلاهما عندكم سواء
قلنا: ليس كذلك بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض وأما إذا أسلموا قبل التقابض فسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه وإن لم يتصل به القبض من المصاهرة ونحوها كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح فلما كان كل واحد من العقود والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك
بخلاف الأموال فإن المقصود بعقودها هو التقابض ولم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لا أنه لا يصححه إلا بتحليل وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصحونها إذا لم يعتقدوا تحريمها وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تخليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ولا بقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فإنه آثم وإن كان قد صادف الحق
وأما أن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا ففيه جوابان:
أحدهما: المنع كما تقدم
والثاني: أن يقول قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة إلا ما استثناه الشارع
وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود وأما قوله ﷺ: [ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ] فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى وكذلك الوعد والخلف ومنه قولهم درهم ضرب الأمير والمراد به هنا والله أعلم المشروط لأنفس التكلم ولهذا قال: [ وإن كان مائة شرط ] أي وإن كان مائة مشروط وليس المراد تعديد التكلم بالشرط وإنما المراد تعديد المشروط
والدليل على ذلك قوله: [ كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ] أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه بأن يكون المشروط مما حرم الله تعالى
وأما إذا لم يكن المشروط مما حرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه حتى يقال كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فيكون المعنى من اشتراط أمرا ليس في حكم الله أو في كتابه بواسطة أو بغير واسطة فهو باطل لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط
ولما لم يكن في كتاب الله إن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس في كتاب الله فانظر إلى المشروط إن كان فعلا أو حكما فإن كان قد الله أباحه جاز اشتراطه ووجب وإن كان الله تعالى لم يبحه لم يجز اشتراطه فإذا اشترط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله فمضمون الحديث أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال ليس في كتاب الله أي ليس في كتاب الله نفيه كما يقال سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم أي تعرفوا خلافه أو لا يعرف كثير منكم
ثم يقول لم يرد النبي ﷺ أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة بمعنى أنه لا يلزم بها شيء لا إيجاب ولا تحريم فإن هذا خلاف الكتاب والسنة بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام فإن الله حرم عقد الظهار وسماه منكرا من القول وزورا ثم أنه أوجب به على من عاد الكفارة ومن لم يعد جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد
وكذلك النذر فإن النبي ﷺ نهى عن النذر كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر وقال: [ أنه لا يأت بخير ] ثم أوجب الوفاء به إذا كان طاعة في قوله ﷺ: [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم نعم لا يكون سببا لإباحة كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهى بفعله لما نهى عن الإستباحة لأن المنهى عن معصية والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته والإباحة من نعمة الله ورحمته وإن كان قد تكون سببا للآلاء ولفتح أبواب الدنيا لكن ذاك قدر ليس بشرع بل قد يكون سببا لعقوبة الله تعالى والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }
وإن كان قد يكون رحمة أيضا كما جاءت شريعتنا الحنيفية
والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام وكل عقد حرام فوجوده كعدمه وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية إن كان النبي ﷺ أراد أن الشروط التي لم يبحها الله وإن كان لم يحرمها باطلة
فنقول قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما والمقصود هو وجوب الوفاء بها على هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة وذلك لأن قوله ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب لا بعمومه ولا يخصوصه وإنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله على لأن قولنا هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم وعلى هذا معنى قوله تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقوله: { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } وقوله { ما فرطنا في الكتاب من شيء } على قول من جعل الكتاب هو القرآن وأما على قوله من جعله اللوح المحفوظ فلا يخفي هذا
يدل على ذلك أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار لأن جامع الجامع جامع ودليل الدليل دليل فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم فيقال العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص فإن الخاص يفسر العام وهذا المشروط قد نفاه النبي ﷺ بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله: [ من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ]
ودل الكتاب على ذلك بقوله: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } إلى قوله: { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } فأوجب علينا الدعاء لأبيه الذي ولده دون الذي تبناه وحرم التبني ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخا في الدين ومولى كما قال النبي ﷺ لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا وقال ﷺ: [ إخوانكم حولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ] فجعل سبحانه الولاء نظير النسب وبين سبب الولاء في قوله تعالى: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق كما أن سبب النسب هو الأنعام بالإيلاد فإذا كان حرم الأنتقال عن المنعم بالإعتاق لأنه في معناه
فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره وإلى هذا المعنى أشار النبي ﷺ في قوله: [ إنما الولاء لمن أعتق ] وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه فهذا مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي ﷺ لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله
والتحذير من اشتراط شيء لم يبحه الله أو من اشتراط ما ينافي كتاب الله بدليل قوله: [ كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ] وإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أما إذا كان المدرك الإستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون وعلم بالإضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الإستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان أهل ذلك فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغير لهذا الإستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك
وأما إذا كان المدرك هو منصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو المستبقي وهذا أيضا لا خلاف فيه وإنما الخلاف بين العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد في روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانهم ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات التي بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزأ من الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم أو جعل المعارض المانع من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر لكن القرينة مانعة لدلالته كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي أو إطلاق لفظي أو إصطلاح حري لا يرجع لأمر فقهي أو علمي
فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط المثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم والحجج الخاصة في ذلك النوع فهي بأصول الفقه التي هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة فيذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة
من ذلك ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما لما روى جابر وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثنى خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف ومن ذلك أن البائع إذا اشترط على المشتري أن يعتق العبد صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة وإن كان عنهما قول بخلافه ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري كما يجب العتق بالنذر عنهما قوله بخلافه ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع على وجهين في مذهبهما
ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق وذلك مخالف لمقتضي العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا
قالوا: وإنما جوزته السنة لأن للشارع إلى العتق تشوقا لا يوجد في غيره وكذلك أوجب فيه السراية مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير إختياره وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح وإن كان فيه منع من غيره قال أحمد بن القاسم قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها فأجازه قيل له: فإن هؤلاء يعني أصحاب أبي حنيفة يقولون لا يجوز البيع على هذا الشرط قال: لم لا يجوز قد اشترى النبي ﷺ بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة واشترت عائشة بريرة على أنها تعتقها فلم لا يجوز هذا قال: وإنما هذا شرط واحد والنهي إنما هو عن شرطين قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز قال: لا يجوز فقد نازع من منع منه واستدل على جوازه باشتراط النبي ﷺ ظهر بعير جابر وحديث بريرة وبأن النبي ﷺ إنما نهى عن شرطين في بيع مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو يقضي لموجب العقد المطلق
واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقض موجب العقد المطلق فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقض في التصرف أو في المملوك واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ولا استدل عليه بما يشمل له ولغيره وكذلك قال أحمد بن الحسن بن حسان سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حريته بعد موته قال: هذا مدبر فجوز اشتراط التدبير كالعتق
ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف صحح الرافعي أنه لا يصح ولذلك جوز اشتراط التسري فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال: لا بأس فلما كان التسري لبائع الجارية فيه مقصود صحيح جوزه وكذلك جوز أن يشترط على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول كما روي عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب
وجماع ذلك أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه كما قال النبي ﷺ [ من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ] فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق وهو جائز بالإجماع ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي ﷺ عن الشياه إلا أن تعلم فدل على جوازها إذا علمت وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها أو الثياب أو العبيد أو الماشية التي قدر إياها إلا شيئا منها قد عيناه واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكن الدار شهرا أو استخدام العبيد شهرا وركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلدة معينة مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك ينفع إذ اشترى أمة مزوجة فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم يدخل في العقد كما اشتريت عائشة بربرة وكانت مزوجة ولكن هي اشترتها بشرط العتق فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق والعتق لا ينافي نكاحها فكذلك كان ابن عباس وهو ممن روى حديث بريرة يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }
قالوا: فإذا ابتاعها أواتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فيباح له ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة فلم يرض أحمد هذه الحجة لأن ابن عباس رواه وخالفه وذلك والله أعلم لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكا معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع ومن حجتهم أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع والزوج معصوم لا يجوز الإستيلاء على حقه بخلاف الماشية فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه لكون أهل الحرب يباح دماؤهم وأموالهم فكذلك ما ملكوه من الإبضاع
وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدأ ثمره كالنخل المنورة فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح وكذلك بيع العين المؤجرة كالدار والعبد عامتهم يجوزه ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر
وكذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد كما في صور الوفاق كاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا وكذلك يجوز استثناء بعض أجزائه معينا إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة واستثناء شيء منها سوى قطعها من الرأس والجلد والأكارع
وكذلك الإجارة فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا للتجارة فيه أو صناعة أو أجير الخياطة أو بناء ونحو ذلك فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص منه فإنه يجوز بغير خلاف علمه في النكاح فإن العقد المطلق يقتضي ملكه الإستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث ثبت ومتى ثبت فيملكه لكن حيث ثبت أن إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثنى من الإستمتاع المحرم أو كان فيه ضرر فإن العرف لا يقتضيه ويقتضي ملكا للمهر الذي هو مهر المثل وملكها الإستمتاع في الجملة فإنه لو كان مجبوبا أو غنيا ثبت لها الفسخ عند السلف وللفقهاء المشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقة إذا لم يف بالكتاب والإجماع وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء ويبر قسمة الإبتدائي بل يكتفي بالبعث الطبيعي فمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والفسخ كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار وهل يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالإيلاء أو يجب أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره
والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والإستمتاع والمثبت للمرأة وكالإستمتاع للزوج ليس بمقدر بل المرجع في ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } في مثل قوله ﷺ لهند: [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم ذلك باجتهاده كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات متعددة ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة إذ كلاهما مما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار والشافعي رضي الله عنه إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا كذلك
وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب والعنة عند الفقهاء وكذلك عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه ونحو ذلك في إحدى الوجهين في مذهب أحمد وغيره دون الجمال ونحو ذلك وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك
ثم لو شرط أحد الزوجين على الآخر صفة مقصودة كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك وملك بالشرط الفسخ عند فوته في أصح روايتي أحمد وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك والرواية الأخرى لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان وسواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له
وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد مثل أن يشترط الزوج أنه محبوب أو عنين أو المرأة أنها ارتقاء أو مجبوبة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء فقد اتفقوا على صحة شرط النقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضوع كما ذكرته لك فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح
وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص فيه جاز بالاتفاق وكذلك يجوز أكثر أو كثير منهم وفقهاء الحديث ومالك في إحدى الروايتين أن تنقص ملك الزوج فتشترط عليه أن لا ينقلها من ولدها ومن دارها وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق فيزيد عليها نفسه فلا يتزوج عليها ولا يتسرى وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى لا يصح هذا الشرط لكنه عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر والقياس المستقيم في هذا الكتاب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث إن اشتراط زيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع فإذا كانت الزيادة في العين والمنفعة المعقود عليها والنقص من ذلك على ما ذكرته فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقض منه كذلك فإن اشترط على المشتري أن يعتق العبد أو يقف العين على البائع أو غيره أو يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين أو أن يصل به رحمة أو نحو ذلك هو اشتراط تصرف مقصود ومثله التبرع والمفروض والتطوع
وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي تشوفه الشارع فضعيف فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق كما نص عليه أحمد فإن ميمونة زوج النبي ﷺ أعتقت جارية لها فقال النبي ﷺ: [ لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك ] ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق وما أعلم في ذلك خلافا وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية فإن فيه عن أحمد روايتين:
( إحداهما ): تجب كقول طائفة من السلف والخلف
( والثانية ): لا تجب كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم ولو وصى لغيرهم دونهم فهل ترد تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه كما يقسم التركة الورثة والموصى له على روايتين عن أحمد وإن كان المشهور عند أكثر الصحابة هو القول بنفوذ الوصية فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري فعلا كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي فاشترط عليه تأديته وكان بنيته من ذلك المبيع أو اشتراط المشتري على البائع وعاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك فهذا أوكد من اشتراط العتق وأما السراية فإنما كان لتعميد الحرية وقد شرع مثل ذلك في الأموال وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتعميد الملك للمشتري لما في الشركة من الضرر له
ونحن نقول شعر ذلك في جميع المشاركات ليمكن الشريك من المقاسمة وإن أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فيكمل العتق نوع من ذلك إذ الشركة تزول بالقسم تارة وبالتكميل أخرى
وأصل ذلك أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا كما يثبت ذلك حسا ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه وفي منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية بمجموسي مثلا وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا يورث عنه عند جماهير المسلمين ويملك وطئها واستخدامها باتفاقهم وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ويملك المرهون ويجب عليه مؤنته ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا بيعا ولا هبة وفي العتق خلاف مشهور والعبد المنذور عتقه والهواء والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق
فمن قال لم يزل ملكه عنه كما قد يقول أكثر أصحابنا فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهو نظير العبد المشتري بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة أو البدنة المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم ومن قال زال ملكه عنه فإنه يقول هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضوع
وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين هل يصير وقفه ملكا لله أو ينتقل إلى الموقوف عليه أو يكون باقيا على ملك الواقف على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره وعلى كل تقدير فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره في البيع والهبة وكذلك ملك الموهوب له حيث يجوز للواهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد نوع مخالف لغيره حيث يسلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد العاقدين فسخه كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين فهاهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما
وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة في طوائف من السلف وهو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالإستيلاء
وملك الابن ثابت عليه بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا فإذا كان الملك يتنوع أنواعا وفيه من الإطلاق والتقيد ما وصفته وما لم أصفه لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة فيه والشارع لا يخطر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمرا بالمصلحة لم يخطره أبدا