الفتاوى الكبرى/كتاب الفضائل/2
7 - 1019 - مسألة: في رجلين اختلفا فقال أحدهما: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أعلم وأفقه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال الآخر: بل علي بن أبي طالب أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر فأي القولين أصوب
وهل هذان الحديثان وهما قوله ﷺ: أقضاكم علي وقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها صحيحان
وإذا كانا صحيحين هل فيهما دليل أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين وإذا ادعى مدع أن إجماع المسلمين على أن عليا رضي الله عنه أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين يكون محقا أو مخطئا
الجواب: الحمد لله لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين إن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر بل ولا من أبي بكر وحده ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس وأكذبهم بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد الأئمة الستة من أصحاب الشافعي ذكر في كتابه تقويم الأدلة على الإمام إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي وما علمت أحدا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك وكيف وأبو الصديق كان بحضرة النبي ﷺ يفتي ويأمر وينهي ويقضي ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا جميعا ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد والنبي ﷺ ساكت يقره على ذلك ويرضى بما يقول ولم تكن هذه المرتبة لغيره
وكان النبي ﷺ في مشاورته لأهل العلم والفقه والرأي من أصحابه يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول عليه السلام على سائر أصحابه مثل قصة مشاورته في أسرى بدر فأول من تكلم في ذلك أبو بكر وعمر وكذلك غير ذلك وقد روي في الحديث أنه قال لهما: [ إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما ] ولهذا كان قولهما حجة في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهذا بخلاف قول عثمان وعلي
وفي السنن: عنه أنه قال: [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ]
ولم يجعل هذا لغيرهما بل ثبت عنه أنه قال: [ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ]
فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين وهذا يتناول الأئمة الأربعة وخص أبا بكر وعمر بالاقتداء بهما ومرتبة المقتدى به في أفعاله وفيما سنه للمسلمين فوق سنة المتبع فيما سنه فقط
وفي صحيح مسلم: أن أصحاب النبي ﷺ كانوا معه في سفر فقال: [ إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا ]
وقد ثبت عن ابن عباس أنه كان يفتي من كتاب الله فإن لم يجد فيما سنه رسول الله ﷺ فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي وابن عباس حبر الأمة وأعلم الصحابة وأفقههم في زمانه وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: [ اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ]
وأيضا فأبو بكر وعمر كان اختصاصهما بالنبي ﷺ فوق اختصاص غيرهما وأبو بكر أكثر اختصاصا فإنه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ومصالح المسلمين كما روى أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عمر قال رسول الله ﷺ يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه
وفي الصحيحين: عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء وأن النبي ﷺ قال: [ من كان عنده طعام اثنين فليذهب ثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو بسادس ]
وأن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله ﷺ بعشرة وأن أبا بكر تعشى عند النبي ﷺ ثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله ﷺ فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله قالت امرأته: ما حسبك عن أضيافك؟ قال أو ما عشيتهم قالت أبوا حتى تجيء عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم وذكر الحديث وفي رواية كان يتحدث إلى النبي ﷺ إلى الليل
وفي سفر الهجرة لم يصحب غير أبي بكر ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره وقال: [ إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ] وهذا من أصح الأحاديث المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة
وفي الصحيحين: عن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي ﷺ إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي ﷺ: أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأتيتك فقال: يغفر الله لك ثلاثا
ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده فأتى النبي ﷺ فجعل وجه النبي ﷺ يتمعر وغضب حتى أشفق أبو بكر وقال: [ أنا كنت أظلم يا رسول الله مرتين فقال النبي ﷺ: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي فما أوذي بعدها ] قال البخاري: غامر سبق بالخير
وفي الصحيحين: عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي وترحم علي عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله عز وجل بعمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كنت كثيرا ما أسمع النبي ﷺ يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت أرجو أو أظن أن يجعلك الله معهما
وفي الصحيحين وغيرهما: [ أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان لما أصيب المسلمون: أفي القوم محمد أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ فقال النبي ﷺ: لا تجيبوه فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي ﷺ: لا تجيبوه فقال: أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي ﷺ: لا تجيبوه فقال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد بقي لك ما يسوءك ] وذكر الحديث
فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي ﷺ وأبي بكر وعمر دون غيرهم لعلمه بأنهم رؤوس المسلمين: النبي ووزيراه ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي ﷺ في حياته فقال: منزلتهما في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم
أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصا وهذا يدل على غاية البراعة
وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النص لكن تلك النصوص لم تبلغهم والذي وجد من موافقة عمر للنصوص أكثر من موافقة علي وهذا يعرفه من عرف مسائل العلم وأقوال العلماء فيها وذلك مثل: نفقة المتوفي عنها زوجها فإن قول عمر هو الذي وافق النص دون القول الآخر وكذلك مسألة الحرام قول عمر وغيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر
وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: [ قد كان في الأمم قلبكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ]
وفي الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: [ رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر فقالوا: ما أولت يا رسول الله؟ قال: العلم ]
وفي الترمذي وغيره: أنه قال: [ لو لم أبعث فيكم لبعث عمر ]
وأيضا فإن الصديق استخلفه النبي ﷺ على الصلاة التي هي عمود الإسلام وعلى إقامة المناسك التي ليس في مسائل العبادات أشكل منها وأقام المناسك قبل أن يحج النبي ﷺ فنادى: [ أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ] فأردفه بعلي بن أبي طالب لينبذ العهد إلى المشركين فلما لحقه قال: أميرا أو مأمورا؟ قال: بل مأمورا فأمر أبا بكر على علي بن أبي طالب
وكان علي ممن أمره النبي ﷺ أن يسمع ويطيع في الحج وأحكام المسافرين وغير ذلك لأبي بكر وكان هذا بعد غزوة تبوك الذي استخلف عليا فيها على المدينة ولم يكن بقي بالمدينة من الرجال إلا منافق أو معذور أو مذنب فلحقه علي فقال أتخلفني النساء والصبيان؟ فقال: [ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ]
بين بذلك أن استخلاف علي على المدينة لا يقتضي نقص المرتبة فإن موسى قد استخلف هرون وكان النبي ﷺ دائما يستخلف رجالا لكن كان يكون بها رجال وعام تبوك خرج النبي ﷺ بجميع المسلمين ولم يأذن لأحد في التخلف عن الغزاة لأن العدو كان شديدا والسفر بعيدا وفيها أنزل الله سورة براءة
وكتاب أبي بكر في الصدقات وأوجزها ولهذا عمل به عامة الفقهاء وكتاب غيره فيه ما هو متقدم منسوخ فدل ذلك على أنه عدم بالسنة الناسخة
وفي الصحيحين: عن أبي سعيد قال: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله ﷺ
وأيضا فالصحابة في زمن أبي بكر لم يكونوا يتنازعون في مسألة إلا فصلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع فلا يعرف بينهم في زمانه مسألة واحدة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاته ﷺ ومدفنه وفي ميراثه وفي تجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك من المسائل الكبار بل كان خليفة رسول الله ﷺ يعلمهم ويقومهم ويبين لهم ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون وبعده لم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله فصاروا يتنازعون في بعض المسائل كما تنازعوا في الجد والأخوة وفي الحرام وفي الطلاق الثلاث وفي غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر
وكانوا يخالفون عمر وعثمان وعليا في كثير من أقوالهم ولم يعرف أنهم خالفوا أبا بكر في شيء مما كان يفتي فيه ويقضي وهذا يدل على غاية العلم وقام مقام رسول الله ﷺ وأقام الإسلام فلم يخل بشيء منه بل دخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم وكثرة الخاذلين فكل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد حتى قام الدين كما كان
وكانوا يسمون أبا بكر خليفة رسول الله ﷺ ثم بعد هذا سموا عمر وغيره أمير المؤمنين
قال السهيلي وغيره من العلماء: ظهر قوله: { لا تحزن إن الله معنا } في أبي بكر في اللفظ كما ظهر في المعنى فكانوا يقولون: محمد رسول الله وأبو بكر خليفة رسول الله ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته فلم يقولوا لمن بعده خليفة رسول الله
وأيضا فعلي بن أبي طالب تعلم من أبي بكر بعض السنة بخلاف أبي بكر فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب كما في الحديث المشهور الذي في السنن: حديث صلاة التوبة عن علي قال: كنت إذا سمعت من النبي ﷺ حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر عن النبي ﷺ أنه قال: [ ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له ]
ومما يبين لك هذا أن أئمة علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا: كعلقمة والأسود وشريح القاضي وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي
وأما تابعوا أهل المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر وإنما الكوفة ظهر فيها فقه علي وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلافته وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه علي أبي بكر وعمر لا في فقه ولا علم ولا غيرهما بل كل شيعته الذين قاتلوا معه عدوه كانوا مع سائر المسلمين يقدمون أبا بكر طائفة غلت فيها كالتي ادعت فيه الإلهية وهولاء حرقهم علي بالنار وطائفة كانت تسب أبا بكر وكان رأسهم عبد الله بن سبأ فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله فهرب وطائفة كانت تفصله على أبي بكر وعمر قال: لا يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري
وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من رواية رجال همدان خاصة التي يقول فيها علي:
( ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان أدخلي بسلام )
من رواية سفيان الثوري عن منذر الثوري وكلاهما من همدان رواه البخاري عن محمد بن كثير قال: ثنا سفيان الثوري ثنا جامع بن شداد ثنا أبو يعلى بن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله ﷺ فقال: يا بني أو ما تعرف؟ فقلت: لا فقال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه ولخاصته ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما والمتواضع لا يجوز له أن يتقدم بعقوبة كل من قال الحق ولا يجوز أن يسميه مفتريا ورأس الفضائل العلم وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه
قال تعالى: { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }
والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير
وأما قوله: أقضاكم علي فلم يروه أحد من أهل الكتب الستة ولا أهل المسانيد المشهورة لا أحمد ولا غيره بإسناد صحيح ولا ضعيف وإنما يروي من طريق من هو معروف بالكذب ولكن قال عمر بن الخطاب أبي أقرؤنا وعلي أقضانا وهذا قاله بعد موت أبي بكر
والذي في الترمذي وغيره: أن النبي ﷺ قال: [ أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ] وليس فيه ذكر علي
والحديث الذي فيه ذكر علي مع ضعفه فيه أن معاذ بن جبل أعلم بالحلال والحرام وزيد بن ثابت أعلم بالفرائض فلو قدر صحة هذا الحديث لكان الأعلم بالحلال والحرام أوسع علما من الأعلم بالقضاء لأن الذي يختص بالقضاء إنما هو فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون الباطل بخلافه
كما قال النبي ﷺ: [ إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ]
فقد أخبر سيد القضاة أن قضاءه لا يحل الحرام بل يحرم على المسلم أن يأخذ بقضائه ما قضى له به من حق الغير وعلم الحلال والحرام يتناول الظاهر والباطن فكان الأعلم به أعلم بالدين
وأيضا فالقضاء نوعان:
أحدهما: الحكم عند تجاحد الخصمين مثل أن يدعي أحدهما أمرا يكذبه الآخر فيه فيحكم فيه بالبينة ونحوهما
والثاني: ما لا يتجاحدان فيه يتصادقان ولكن لا يعلمان ما يستحق لكل منهما كتنازعهما في قسم فريضة أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر أو فيما يستحقه كل من الشريكين ونحو ذلك فهذا الباب هو من أبواب الحلال والحرام فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك ولم يحتاجا إلى من يحكم بينهما وإنما يحتاجان إلى حاكم عند التجاحد وذاك إنما يكون في الأغلب مع الفجور وقد يكون مع النسيان فأما الحلال والحرام فيحتاج إليه كل أحد من بر وفاجر وما يختص بالقضاء لا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار
ولهذا لما أمر أبو بكر وعمر أن يقضي بين الناس مكث حولا لم يتحاكم إثنان في شيء ولو عد مجموع ما قضى النبي ﷺ من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات فأين هذا من كلامه في الحلال والحرام الذي هو قوام دين الإسلام يحتاج إليه الخاص والعام
وقوله: [ أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ] أقرب إلى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله: أقضاكم علي لو كان مما يحتج به وإذا كان ذلك أصح إسنادا وأظهر دلالة علم أن المحتج بذلك على أن عليا أعلم من معاذ بن جبل جاهل فكيف من أبي بكر وعمر اللذين هما أعلم من معاذ بن جبل مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد يضعفه بعضهم ويحسنه بعضهم وأما الحديث الذي فيه ذكر علي فإنه ضعيف
وأما حديث مدينة العلم فأضعف وأوهي ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات وإن كان الترمذي قد رواه ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبين أنه موضوع من سائر طرقه والكذب يعرف من نفس متنه لا يحتاج إلى النظر في إسناده فإن النبي ﷺ إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحدا بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن وتلك القرائن إما أن تكون منتفية وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس أو أكثرهم فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة بخلاف النقل المتواتر الذي يحصل به العلم للخاص والعام
وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل ظنه مدحا وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله ﷺ من غير طريق علي رضي الله عنه
أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهم ظاهر وكذلك أهل الشام والبصرة فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا وإنما غالب كان في أهل الكوفة ومع هذا فقد كانوا تعلموا القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلا عن خلافة علي وكان أفقه أهل المدينة وأعلمهم تعلموا الدين في خلافة عمر وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي شيئا إلا من تعلم منه لما كان باليمن كما تعلموا حينئذ من معاذ بن جبل وكان مقام معاذ بن جبل أكثر مما رووه عن علي وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ
ولما قد م على الكوفة كان شريح قاضيا فيها قبل ذلك وعلي وجد على القضاء في خلافته شريحا وعبيدة السلماني وكلاهما تفقه على غيره
فإذا كان علم الإسلام انتشر في مدائن الإسلام بالحجاز والشام واليمن والعراق وخراسان ومصر والمغرب قبل أن يقدم إلى الكوفة لما صار إلى الكوفة عامة ما بلغه من العلم بلغه غيره من الصحابة ولم يختص علي بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه فالتبليغ العام الحاصل بالولاية حصل لأبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي وأما الخاص فابن عباس كان أكثر فتيا منه وأبو هريرة أكثر رواية منه وعلي أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان أعلم منهما أيضا فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص
وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفراد به عن الصحابة فكله باطل وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قيل له: هل عندكم من رسول الله ﷺ شيء؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها عقول الديات أي أسنان الإبل التي تجب فيه الدية وفيها فكاك الأسير وفيها لا يقتل مسلم بكافر
وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس فنفى ذلك إلى غير ذلك من الأحاديث عنه التي تدل على أن كل من ادعى أن النبي ﷺ خصه بعلم فقد كذب عليه
وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غسل النبي ﷺ فأورثه علم الأولين والآخرين من أقبح الكذب البارد فإن شرب غسل الميت ليس بمشروع ولا شرب علي شيئا ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من حضر ولم يرو هذا أحد من أهل العلم
وكذلك ما يذكر أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية ونحوهم الذين هم أكفر منهم بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود والنصارى كالذين يعتقدون إلهيته ونبوته وأنه كان أعلم من النبي ﷺ وأنه كان معلما للنبي ﷺ في الباطن ونحو هذه المقالات التي إنما يقولها الغلاة في الكفر والإلحاد والله سبحانه وتعالى أعلم
1019 - 8 - مسألة: عن قول الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد في آخر عقيدته: وأن خير القرون القرن الذي رأوا رسول الله ﷺ وآمنوا به ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر وتفضيل عمر على عثمان وعثمان على علي فإذا تبين ذلك فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم لا بينوا لنا ذلك بيانا مبسوطا مأجورين إن شاء الله تعالى
الجواب: الحمد لله رب العالمين وأما تفضيل أبي بكر ثم عمر علي عثمان وعلي فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهو مذهب مالك وأهل المدينة والليث بن سعد وأهل مصر والأوزاعي وأهل الشام وسفيان الثوري وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم من أهل العراق وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحق وأبي عبيد وغير هؤلاء أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة
وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: ما أدركت أحدا ممن اقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: با أبت من خير الناس بعد رسول الله ﷺ؟ قال: يا بني أو ما تعرف؟ قلت: لا قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال عمر
ويروي هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها وأنه كان يقول على منبر الكوفة بل قال: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري
فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطا
وكان سفيان يقول من فضل عليا على أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين وما أرى أنه يصعد له إلى الله عمل وهو مقيم على ذلك
وفي الترمذي وغيره روى هذا التفضيل عن النبي ﷺ وأنه قال: [ يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ]
وقد استفاض في الصحيحين وغيرهما عن النبي ﷺ من غير وجه من حديث أبي سعيد وابن عباس وجندب بن عبد الله بن الزبير وغيرهم أن النبي ﷺ قال: [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ] يعني بنفسه
وفي الصحيح: أنه قال على المنبر: [ إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ألا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ]
وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض من يستحق المخالة لو كانت ممكنة من المخلوقين إلا أبا بكر فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه ولا أحب إليه منه وكذلك في الصحيح أنه قال عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها
وكذلك في الصحيح: أنه قال لعائشة [ ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ] ثم قال [ يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ]
وفي الصحيح عنه أن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك كأنها تعنى الموت قال فأتى أبا بكر
وفي السنن عنه: أنه قال: [ اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ]
وفي الصحيح عنه إنه كان في سفر فقال [ أن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا ]
وفي السنن عنه: قال [ رأيت كأني وضعت في كفة والأمة في كفة فرجحت بالأمة ثم وضع أبو بكر في كفة والأمة في كفة فرجح أبو بكر ثم وضع عمر في كفة والأمة في كفة فرجح عمر ]
وفي الصحيح أنه: كان بين أبي بكر وعمر كلام فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل فجاء أبو بكر إلى النبي ﷺ فذكر ذلك فقال اجلس يا أبا بكر يغفر الله لك وندم عمر فجاء إلى منزل أبي بكر فلم يجده فجاء إلى النبي ﷺ فغضب النبي ﷺ وقال: [ يا أيها الناس إني جئت إليكم فقلت إني رسول الله فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل انتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي ] فما أوذي بعدها
فقد تواتر في الصحيح والسنن: أن النبي ﷺ لما مرض قال: [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] مرتين أو ثلاثا حتى قال: [ إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ]
فهذا التخصيص والتكرير والتوكيد في تقديمه في الإمامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلي وغيرهم مما بين للأمة تقدمه عنده على غيره
وفي الصحيح: أن جنازة عمر لما وضعت جاء علي بن أبي طالب يتخلل الصفوف ثم قال: لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك فإني كثيرا ما كنت أسمع النبي ﷺ يقول: [ دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ]: فهذا يبين ملازمتهما للنبي ﷺ في مدخله ومخرجه وذهابه
ولذلك قال مالك للرشيد لما قال له: يا أبا عبد الله أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي ﷺ فقال يا أمير المؤمنين منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته فقال شفيتني يا مالك وهذا يبين أنه كان لهما من اختصاصهما بصحبته ومؤازرتهما له على أمره ومباطنتهما مما يعلمه بالاضطرار كل من كان عالما بأحوال النبي ﷺ وأقواله وأفعاله وسيرته مع أصحابه ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلاقه وإنما ينفي هذا أو يقف فيه من لا يكون عالما بحقيقة أمور النبي ﷺ وإن كان له نصيب من كلام أو فقه أو حساب أو غير ذلك أو من يكون قد سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه الأمور المعلومة بالاضطرار عند الخاصة من أهل العلم فتوقف في الأمر أو رجح غير أبي بكر
وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول الله ﷺ وإن كان غيرهم يشك فيها أو ينفيها كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته وحوضه وخروج أهل الكبائر من النار والأحاديث المتواترة عندهم في الصفات والقدر والعلوم والرؤية وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته لما تواترت عندهم عنه وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك كما تواترت عند الخاصة من أهل العلم عنه الحكم بالشفعة وتحليف المدعي عليه ورجم الزاني المحصن واعتبار النصاب في السرقة وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع
ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين وفي القسامة والقرعة وغير ذلك من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ
وأما عثمان وعلي فهذه دون تلك فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع فإن سفيان الثوري وطائف من أهل الكوفة رجحوا عليا على عثمان ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلي وهي إحدى الروايتين عن مالك لكن الرواية الآخرى عنه تقديم عثمان على علي كما هو مذهب سائر الأئمة كالشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وغيره هؤلاء من أئمة الإسلام حتى إن هؤلاء تنازعوا فيمن يقدم عليا على عثمان هل يعد من أهل البدعة على قولين هما روايتان عن أحمد وقد قال أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار
وأيوب هذا إمام أهل السنة وإمام أهل البصرة روى عنه مالك في الموطأ وكان لا يروي عن أهل العراق وروى أنه سئل عن الرواية عنه فقال ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه وذكره أبو حنيفة فقال: لقد رأيته مقعدا في مسجد رسول الله ﷺ ما ذكرته إلا اقشعر جسمي
والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما:: عن ابن عمر أنه قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله ﷺ كنا نقول أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وفي بعض الطرق: يبلغ ذلك النبي ﷺ فلا ينكره
وأيضا فقد ثبت بالنقل الصحيح في صحيح البخاري وغير البخاري أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شورى في ستة أنفس: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ولم يدخل معهم سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وكان من بني عدي قبيلة عرم وقال عن ابنه عبد الله: يحضركم عبد الله وليس له في الأمر شيء ووصى أن يصلي صهيب بعد موته حتى يتفقوا على واحد فلما توفي عمر واجتمعوا عند المنبر قال طلحة: وما كان من هذا الأمر فهو لعثمان وقال الزبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف فخرج ثلاثة وبقي ثلاثة فاجتمعوا فقال عبد الرحمن: أنا أخرج
وروى أنه قال: عليه عهد الله وميثاقه أن يولي أفضلهما ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ويشاور أمهات المؤمنين ويشاور أمراء الأمصار فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته حتى قال عبد الرحمن: إن لي ثلاثا ما اغتمضت بنوم فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان: عليك عهد الله وميثاقه إن وليتك لتعدلن ولئن وليت عليا لتسمعن ولتطيعن قال: نعم وقال لعلي: عليك عهد الله وميثاقه إن وليتك لتعدلن ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن قال: نعم فقال: إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر المسلمين بيعة رضى واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها ولا رهبة خوفهم بها
وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي فلهذا قال أيوب وأحمد بن حنبل والدارقطني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار فإنه لو لم يكن هو أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا جاهلين بفضله وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم
ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمان لضغن كان في نفس بعضهم على علي وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة ونحو ذلك مما يقوله أهل الأهواء فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق هذا وهم في أعز ما كانوا وأقوى ما كانوا فإنه حين مات عمر كان الإسلام من القوة والعز والظهور والإجتماع والإئتلاف فيما لم يصيروا في مثله قط وكان عمر أعز أهل الإيمان وأذل أهل الكفر والنفاق إلى حد بلغ في القوة والظهور مبلغا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم وجعل خير أمة أخرجت للناس على خلاف ما شهد الله به لهم
وهذا هو أصل مذهب الرافضة فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديا أظهر الإسلام نفاقا ودس إلى الجهاد دسائس يقدح بها في أصل الإيمان ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة فإن يكون الرجل واقفا ثم يصير مفضلا ثم يصير سبابا ثم يصير غاليا ثم يصير جاحدا معطلا ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدرزية وأمثالهم من طوائف الزندقة والنفاق فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قدح في الرسول عليه السلام كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله ﷺ إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين
وأيضا فهؤلاء الذين نقلوا القرآن والإسلام وشرائع النبي ﷺ وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره فالقدح فيهم يوجب أن لا يوثق بما نقلوه من الدين وحينئذ فلا تثبت فضيلة لا لعلي ولا لغيره والرافضة جهال ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين ولا دنيا منصورة فإنه لو طلب منهم الناصبي الذي يبغض عليا ويعتقد فسقه أو كفره كالخوارج وغيرهم أن يثبتوا إيمان علي وفضله لم يقدروا على ذلك بل تغلبهم الخوارج فإن فضائل علي إنما نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة فلا يتتقن له فضيلة معلومة على أصلهم فإذا طعنوا في بعض الخلفاء بما يتفرونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة وقاتلوا على ذلك كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من دعوى ذلك على من أطيع بلا قتال ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة
القرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع كقوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }
وقوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى }
وقال تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }
وقال تعالى: { لقد رضي الله عنها المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا }
وقد ثبت في صحيح مسلم: عن النبي ﷺ أنه قال [ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال: [ لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه ]
وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه: أنه قال: [ خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]
وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع والله سبحانه وتعالى أعلم
9 - 1020 - مسألة: عن الروح المؤمنة أن الملائكة تتلقاها وتصعد بها من سماء إلى السماء التي فيها الله وعن الشيخ عبد القادر أنه أفضل المشايخ والإمام أحمد أنه أفضل الأئمة فهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب: أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره كما يرجح الشيخ عبد القادر أو الشيخ أبا مدين أو أحمد أو غيرهم فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ ولا يقصدون اتباع الحق المطلق بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وتقاتلهم وتفرقهم
وهذا مما حرمه الله ورسوله كما قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه }
قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة
فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف التكلم بغير علم فإنه يجب النهي عنه فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله
وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون أيما أفضل الترجيع في الأذان أو تركه وإفراد الإقامة أو إثناؤها وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها والقنوت في الفجر أو تركه والجهر بالتسمية أو المخافتة بها أو ترك قراءتها ونحو ذلك فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده من كان فيها أصاب الحق فله أجران ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر وخطأه مغفور له فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على ترجح عنده تقليد مالك ومن ترجح عنده تقليد أحمد ولم ينكر على من ترجح عند تقليد الشافعي ونحو ذلك
ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام أن فلانا أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه كما أن من يرجح قولا أو عملا لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك لكن إن كان الرجل مقلدا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق وإن كان مجتهدا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
وقد قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }
لكن عليه أن لا يتبع هواه ولا يتكلم بغير علم
قال تعالى: { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم }
وقال تعالى: { يجادلونك في الحق بعد ما تبين }
وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره ولا يعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم
وأما الحديث المذكور في قبض روح المؤمن وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها الله فهذا حديث معروف جيد الإسناد وقوله فيها الله بمنزلة قوله تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير }
وبمنزلة ما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لجارية معاوية بن الحكم: أين الله؟ قالت: في السماء قال من أنا؟ قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة: وليس المراد بذلك أن السماء تحصر الرب وتحويه كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما فإن هذا لا يقوله مسلم ولا يعتقده عاقل فقد قال سبحانه وتعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض } والسموات في الكرسي كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة والرب سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته
وقال تعالى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وقال: { فسيحوا في الأرض } وقال: { يتيهون في الأرض } وليس المراد أنهم في جوف النخل وجوف الأرض بل معنى ذلك أنه فوق السموات وعليها بائن من المخلوقات كما أخبر في كتابه عن نفسه أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقال: { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } وقال تعالى: { تعرج الملائكة والروح إليه } وقال: { بل رفعه الله إليه } وأمثال ذلك في الكتاب والسنة وجواب هذه المسألة مبسوط في غير هذا الموضع
10 - 1021 - مسألة: أيما أفضل يوم عرفة أو الجمعة أو الفطر أو النحر؟
فأجاب: الحمد لله أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء وأفضل أيام العام هو يوم النحر وقد قال بعضهم يوم عرفة والأول هو الصحيح لأن في السنن: عن النبي ﷺ أنه قال: [ أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم الفطر ]
لأنه يوم الحج الأكبر في مذهب مالك والشافعي وأحمد كما ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: [ يوم النحر هو يوم الحج الأكبر ] وفيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة ورمي جمرة العقبة وحدها والنحر والحلق وطواف الإفاضة فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنة واتفاق العلماء والله أعلم