الفتاوى الكبرى/كتاب الوقف/5
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه مبني على أن الضمير في قوله: على أنه من مات عائد إلى جميع من تقدم وهذا ممنوع فإن من الفقهاء المعتبرين من قال: أن الاستثناء في شروط الواقف إذا تعقب جملا معطوفة وإذا كان الضمير عائدا إلى الجملة الأخيرة فتبقى الجمل الأولى على ترتيبها؟
قيل: هذا باطل من وجوه:
أحدها: إن لازم هذا القول أنه لو قال: على أولادي ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم ثم أولاد أولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده ومن مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن في درجته: لكان هذا الشرط في الطبقة الآخرة وأن الطبقة الأولى والثانية والثالثة إذا مات الميت منهم لم ينتقل نصيبه إلى ولده بل إلى ذوي الطبقة عملا بمقتضى مطلق الترتيب فإن التزم المنازع هذا اللازم وقال: كذلك أقول كان هذا قولا مخالفا لما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا في كل عصر وكل مصر فإن الوقوف المشرطة بهذه الشروط لا يحصي عددها إلا الله تعالى
وما زال المسلمون من قضاتهم ومفتيهم وخاصتهم وعامتهم يجعلون مثل هذا الشرط ثابتا في جميع الطبقات من غير نكير لذلك لا منازع فيه فمن قال خلاف ذلك علم أنه قد ابتدع قولا يخالف ما أجمعت عليه القرون السالفة والعلم بهذا ضروري
ثم لو فرض أن في هذا خلافا لكان خلافا شاذا معدودا من الزلات وبحسب قول من الضعف أن يبني على مثل هذا ومن لوازم هذا القول أنه لو قال وقف على أولادي ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم على أنه من كان منهم فقيرا صرف إليه ومن كان منهم غنيا لم يصرف إليه فإنه يصرف إلى الطبقة الأولى والثانية سواء كانوا أغنياء أو فقراء أو يختص التفصيل بالطبقة الثالثة وكذلك لو قال: على أنه من تزوج منهم أعطي ومن لم يتزوج لم يعط وكذلك لو قال: ومن شرط الوقف على أنه يصرف إلى الفقراء منهم دون الأغنياء أو يشرط أن يصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم
وهكذا صور كثيرة لا يأتي عليها الاحصاء من التزم فيها قياس هذا القول كان قد أتى بدايهة دهياء ! ! وإن قال: بل يعود الشرط إلى جميع الطبقات كما هو المعلوم عند الناس فقد علم بالاضطرار أن مسألتنا واحدة من هذا النوع ليس بينها وبين هذه الصور من الفرق ما يجوز أن يذهب على مميز
الوجه الثاني: أن الناس لا يفهمون من هذا الكلام إلا الاشتراط في جميع الطبقات والدليل عليه ان الوقوف المشروطة بمثل هذا أكثر من أن تحصى ثم لم يفهم الناس منها إلا هذا ولعله لم يخطر الاختصاص بالطبقة الأخيرة ببال واقف ولا كاتب ولا شاهد ولا مستمع ولا حاكم ولا موقوف عليه وإذا كان هذا هو المفهوم من هذا الكلام في عرف الناس وجب حمل كلام المتكلمين على عرفهم في خطابهم سواء كان عرفهم موافقا للوضع اللغوي أو مخالفا له فإن كان موجب اللغة عود الشرط إلى الطبقات كلها فالعرف مقرر له وإن فرض أن موجب اللغة فصره على الطبقة الأخيرة كان العرف مغيرا لذلك الوضع
وكلام الواقفين والحالفين والموصين ونحوهم محمول على الحقائق العرفية دون اللغوية على أنا نقول: هذا هو المفهوم من هذا الكلام في العرف والأصل تقرير اللغة لا تغييرها فيستدل بذلك على أن هذا هو مفهوم اللفظ في اللغة إذ الأصل عدم النقل ومن نازع في أن الناس خاصتهم وعامتهم يفهمون من هذا الكلام عند الإطلاق عود الشرط إلى جميع الطبقات علم أنه مكابر وإذا سلمه ونازع في حمل كلام المتصرف على المعنى الذي يفهمونه علم أنه خارج عن قوانين الشريعة فهاتان مقدمتان يقينيتان والعلم بها مستلزم لعود الشرط إلى جميع الطبقات
الوجه الثالث: أنه إذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الجملة الأخيرة فقط: كانت فائدته عى رأي المنازع أنه لولا هذا الشرط لاشترك العقب في جميع الوقف الذي انتقل إليهم من الطبقة التي فوقهم والذي انتقل إليهم ممن مات منهم عن ولد أو عن غير ولد فإذا قال: فمن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لذوي طبقته أفاد ذلك أن يختص ذوو الطبقة بنصيب المتوفي إذا لم يكن له ولد دون من فوقهم ومن دونهم وهذا لم يكن مفهوما من اللفظ وإذا كان له ولد اشترك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفى ولده وغير ولده وإذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الطبقات كلها أفاد أن ينتقل نصيب المتوفى إلى طبقته إذا لم يكن له ولد وإلى ولده إذا كان له ولد
ومعلوم قطعا من أحوال الخلق أن من شرك بين جميع الطبقات لا ينقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته فقط دون من هو فوقه وإذا كان له ولد لم ينقله إلى ولده بل يجعله كأحدهم فإنه على هذا التقدير يكون قد جعل ذوي الطبقة أولى من ولد الميت مع أنه لم يراع ترتيب الطبقات ومعلوم أن هذا لا يقصده عاقل فإن العاقل إما أن يراعي ترتيب الطبقات فلا يشرك أو ينقل نصيب المتوفي إلى ولده كالارث أما أنه مع التشريك يخص نصيب المتوفى إخوته دون ولده: فهذا خلاف المعلوم من أحوال الناس ولو فرض أن الضمير متردد بين عوده إلى الجميع وعوده إلى الطبقة الأخيرة كانت هذه الدلالة الحالية العرفية معينة لأحد الاحتمالين
فإن قيل: هذا يلزمكم إذا أعدتم الضمير إلى الجميع فإن اللفظ يقتضي الترتيب في أربع طبقات والتشريك في الباقية فأنتم تقولون في بقية الطبقات مثلما نقوله؟
قلنا: هذا فيه خلاف فإن الطبقات الباقية هل يشرك بينها عملا بما تقتضيه الواو من مطلق التشريك أو يرتب بينها استدلالا بالترتيب فيما ذكره على الترتيب في الباقي كما هو مفهوم عامة الناس من مثل هذا الكلام فإن الواو كما أنها لا تقتضي الترتيب فهي لا تنفيه فإن كان في الكلام قرينة تدل على وجب رعايتها وقد تنازع الناس في هذا فإن قلنا بالثاني فلا كلام وإن قلنا بالأول قلنا أيضا: فإنه يقتضي انتقال نصيب الميت إلى ولده في جميع الطبقات فإن نقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته إذا لم يكن له ولد دون سائر أهل الوقف تنبيه على أنه ينقله إلى ولده إن كان له ولد والتنبيه دليل أقوى من النص حتى في شروط الواقفين
ولهذا لو قال: وقفت على ولدي على أنه من كان فاسقا لا يعطي درهما واحدا فإنه لا يجوز أن يعطي درهمان بلا ريب فإنه نبه بحرمانه القليل على حرمانه الكثير كذلك نبه بنقل نصيب الميت إذا لم يكن له ولد إلى إخوته على نقله إلى الولد إذا كانا موجودين فيكون منع الاخوة مع الولد مستفادا من التقييد وإعطاء الولد مستفادا من تنبيه الخطاب وفحواه
وإيضاح ذلك أن إعطاء نصيب الميت لذوي طبقته دون سائر أهل الوقف ودون تخصيص الأقرب إلى الميت: دليل على أنه جعل سبب الاختصاص القرب إلى الميت لا القرب إلى الواقف ولا مطلق الاستحقاق ومعلوم أن الولد عند وجودهم أقرب إلى الميت فيكون سبب استحقاقهم أوكد فيكون ذلك دليلا على أن الواقف قصد إعطاءهم وسنذكر أن شاء الله ما يرد على هذا
الوجه الرابع: أن الضمير يجب عوده إلى جميع ما تقدم ذكره فإن تعذر عوده إلى الجميع أعيد إلى أقرب المذكورين أو إلى ما يدل دليل على تعيينه فأما اختصاصه ببعض المذكور من غير موجب فمن باب التخصيص المخالف للأصل الذي لا يجوز حمل الكلام عليه إلا بدليل وذلك لأن الأسماء المضمرة إضمار الغيبة هي في الأمر العام موضوعة لما تقدم ذكره من غير أن يكون لها في نفسها دلالة على جنس أو قدر فلو قال: أدخل على بني هاشم ثم بني المطلب ثم سائر قريش وأكرمهم وأجلسهم ونحو هذا الكلام: لكان الضمير عائدا إلى ما تقدم ذكره وليس هذا من باب اختلاف الناس في الاستثناء المتعقب جملا: هل يعود إلى جميعها أو إلى أقربها؟ لأن الخلاف هناك إنما نشأ لأن الاستثناء يرفع بعض ما دخل في اللفظ فقال من قصره على الجملة الأخيرة: إن المقتضى للدخول في الجمل السابقة قائم والمخرج مشكوك فيه فلا يزال عن المقتضى بالشك وهذا المعنى غير موجود في الضمير فإن الضمير اسم موضوع لما تقدم ذكره وهو صالح للعموم على سبيل الجمع فإنه يجب حمله على العموم إذا لم يقم مخصص وعلى هذا فحمل الضمير على العموم حقيقة فيه وحمله على الخصوص مثل تخصيص اللفظ العام
الوجه الخامس: إنه إذا قال: وقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولادهم أولادهم على أنه من توفي منهم عن ولد أو عن غير ولد فإن إعادة الضمير إلى الطبقة الثالثة ترجيح من غير مرجح والظاهر بل المقطوع به من حال العاقل: إنه لا يفعل ذلك فإن العاقل لا يفرق بين المتماثلات من غير سبب: فإما أن يكون مقصوده إعطاء الأقرب إليه فالأقرب في جميع الطبقات إذا نقل نصيب الميت إلى ابنه في جميع الطبقات أما كونه في بعض الطبقات يخص الأقربين إليه وفي بعضها ينقل النصيب إلى ولد الميت أو إلى ذوي طبقته فما يكاد عاقل يقصد هذا وإذا دار حمل اللفظ بين ما الظاهر إرادته وبين ما الظاهر عدم إرادته: كان حمله على ما ظهرت إرادته هو الواجب فإن اللفظ إنما يعمل به لكونه دليلا على المقصود فإن كان في نفسه محتملا وقد ترجح أحد الاحتمالين تعين الصرف إليه فإذا انضم إلى ذلك أنه تخصيص للعموم ببعض الأفراد التي نسبتها ونسبة غيرها إلى غرض الواقف سواء كان كالقاطع في العموم
الوجه السادس: إن هذه الصفة في معنى الشرط والشرط المتعقب جملا يعود إلى جميعها باتفاق الفقهاء ولا عبرة في هذا المقام بمن خالف ذلك من بعض المتأخرين فإن الفقهاء قد نصوا أن رجلا لو قال: والله لأفعلن كذا ولأفعلن كذا إن شاء الله أن كلا الفعلين يكون معلقا بالمشيئة وكذلك لو قال: لأضربن زيدا ثم عمرا ثمر بكرا إن شاء الله وكذلك لو قال: الطلاق يلزمه ليفعلن كذا وعبده حر ليفعلن كذا أو امرأته كظهر أمه ليفعلن كذا إن شاء الله وإنما اختلفوا في الاستثناء المخصص لا في الاستثناء المعلق وهذا من باب الاستثناء المعلق: مثل الشروط لأوجه
أحدها: إن الاستثناء بإلا ونحوها متعلق بالأسماء لا بالكلام والاستثناء بحروف الجزاء متعلق بالكلام وقوله: على أنه ونحوه متعلق بالكلام فهو بحروف الجزاء أشبه منه بحروف الاستثناء: إلا وأخواتها وذلك أن قوله: وقفت على أولادي إلا زيدا الاستثناء فيه متعلق بأولادي وقوله: وقفت على أولادي إن كانوا فقراء الشرط فيه متعلق بقوله: وقفت وهو الكلام وهو المعنى المركب وكذلك قوله على أن يكونوا فقراء حرف الاستعلاء معلق لمعنى الكلام وهو وقفت وهذا قاطع لمن تدبره
الثاني: إن هذا بيان لشروط الوقف التي يقف الاستحقاق عليها ليس المقصود بها إخراج بعض ما دخل في اللفظ فهي شروط معنوية
الثالث: إن قوله: من مات منهم عن غيره ولد كان نصيبه لمن في درجته جملة شرطية جزائية مجعولة خبر أن المفتوحة واسم أن ضمير الشأن وأن وما في خبرها في تأويل المصدر فيصير التقدير: وقفت على هذا
الرابع: إن حرف على للإستعلاء فإذا قال الرجل: وقفت على أن يكون كذا أو بعتك على أن ترهنني كان المعنى وقفت وقفا مستعليا على هذا الشرط فيكون الشرط أساسا وأصلا لما على عليه وصار فوقه والأصل متقدم على الفرع وهذا خاصية الشرك ولهذا فرق من فرق بين الشرط والاستثناء بأن الشرط منزلته التقدم على المشروط فإذا أخر لفظا كان كالمتصدر في الكلام ولو تصدر في الكلام تعلقت به جميع الجمل فكذلك إذا تأخر فلو قال: وقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء كان بمنزلة قوله: على أن يكونوا فقراء وأحد اللفظين موجب لعود الضمير إلى جميع الطبقات فكذلك الآخر
واعلم أن هذه الدلائل توجب أن الضمير يعود إلى جميع الطبقات في هذه المسألة عند القائلين بأن الاستثناء المتعقب جملا يعود إلى جميعها والقائلين بأنه يعود إلى الأخيرة منها كما اتفقوا على مثل ذلك في الشرط
الوجه السابع: إن هذا السؤال فاسد على مذهب الشافعي خصوصا وعلى مذهب غيره أيضا: وذلك أن الرجل لو قال لامرأته أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار فإنه لا يقع بها طلاق حتى تدخل الدار فطلق حينئذ ثلاثا إن كان مدخولا بها أو واحدة إن كانت غير مدخول بها هذا قول أبي يوسف ومحمد وقيل عن أبي يوسف ومحمد تطلق غير المدخول بها ثلاثا كالواو عندهما وهو مذهب الشافعي وأقوى الوجهين في مذهب أحمد وقال أبو حنيفة والقاضي أبو يعلي من أصحاب أحمد وطائفة معه: بل تتعلق بالشرط الجملة الأخيرة فقط فإن كانت مدخولا بها تنجز طلقتان وتعلق بالشرط واحدة وإن كانت غير مدخول بها تنجزت طلقة بانت بها فلم يصح إيقاع الآخرتين لا تنجيزا ولا تعليقا
قالوا: لأن ثم للترييب مع التراخي فيصير كأنه قال: أنت طالق: ثم سكت ثم قال: أنت طالق إن دخلت الدار
وأما الأولون فقالوا: ثم حرف عطف يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه كالواو لكن الواو تقتضي مطلق الجمع والتشريك من غير دلالة على تقدم أو تأخر أو مقارنة وثم تقتضي التشريك مع التأخير وافتراقهما في المعنى لا يوجب افتراقهما في نفس التشريك وأما كونها للتراخي فعنه جوابان
أحدهما: إن مقتضاها مطلق الترتيب فيعطف بها المتعقب والمتراخي لكن لما كان للمتعقب حرف يخصه وهو الفاء صارت ثم علامة على المعنى الذي انفردت به وهو التراخي وإلا فلو قال لمدخول بها: أنت طالق ثم طالق أو أنت طالق فطالق: لم يكن بين هذين الكلامين فرق هنا
الثاني: إن ما فيها من التراخي إنما هو في المعنى لا في اللفظ فإذا قال الرجل: جاء زيد ثم عمرو فهذا كلام متصل بعضه ببعض لا يجوز أن يقال هو: بمنزلة من سكت ثم قال: عمرو فمن قال: إن قوله: أنت طالق ثم طالق بمنزلة من سكت ثم قال طالق فقد أخطأ وإنما غايته أن يكون بمنزلة من قال: أنت طالق طلاقا يتراخى عنه طلاق آخر وهذا لا يمنع من تعلق الجميع بالشرط: تقدم أو تأخر
فإذا كان من مذهب الشافعي وهؤلاء أن قوله: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار بمنزلة قوله: أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار وقوله أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار في المدخول بها وكذلك قوله: أنتن طوالق ثم أنتن طوالق: إن دخلتن الدار وإن الشرط تعلق بالجميع فكيف يجوز أن ينسب إلى مذهبه أن العطف بما يقتضي الترتيب يوجب الصرف إلى من يليه الشرط دون السابقين؟ ! وهلا قيل هنا: إذا ثبت وقوع الطلاق نصا باللفظين الأولين ولم يثبت ما يغيره: وجب تقرير الطلاق الواقع بل مسألة الطلاق أولى بقصر الشرط على الجملة الأخيرة لأن إحدى الطلقتين ليس لها تعلق بالأخرى من حيث الوجود بل يمكن إيقاعهما معا بخلاف ولد الولد فإنهم لا يوجدون إلا متعاقبين فالحاجة هنا داعية إلى الترتيب ما لا تدعو إليه في الطلاق
وأيضا فإن جواز تعقيب البيع والوقف ونحوهما بالشروط متفق عليه بخلاف الطلاق فإن مذهب شريح وطائفة معه وهي رواية مرجوحة عن أحمد إن الطلاق لا يصح تعليقة بشرط متأخر كما ذهب بعض الفقهاء من أصحاب وغيرهم إلى أنه لا يصح الاستثناء من الطلاق فإذا كانوا قد أعادوا الشرط إلى جميع الجمل المترتبة بثم فالقول بذلك في غيرها أولى
وهذا الكلام لمن تدبره يجتث قاعدة من نسب إلى مذهب الشافعي ما يخالف هذا
فإن قيل: فقد قال به بعض الفقهاء من الحنفية والحنبلية: فهؤلاء يقولون به هنا؟ قلنا: قد أسلفنا فيما مضى أن الضمير عائد إلى الجميع على أصول الجميع لدليل دل على الرجوع من جهة كون الضمير حقيقة في جميع ما تقدم وإن هذا هو المفهوم من الكلام ثم الذي يقول بهذا يفرق بين هذا وبين الطلاق من وجوه:
أحدها: إن الشرط في الطلاق متعلق بالفعل الذي هو وتلك الأسماء المعطوفة بعضها على بعض كلها داخلة في حيز هذا الفعل وهي من جهة المعنى مفاعيل له بمنزلة الشرط في القسم فإنه إذا قال: والله لأفعلن كذا وكذا ثم كذا: إن شاء الله كان الشرط متعلقا بالفعل في جواب القسم والمفاعيل داخلة في مستثناه وتناول الفعل لمفاعيله على حد واحد فإذا كان قد قيد تناوله لها بقيد تقيد تناوله للجميع بذلك القيد بخلاف قوله: أنت طالق ثم طالق: إن شاء زيد فإن المتعلق بالشرط هنا اسم الفاعل لا نفس المبتدأ والخبر الثاني ليس بداخل في خبر الخبر الآخر بل كلاهما داخل في خبر المبتدأ فلهذا خرج هنا خلاف وهذا فرق بين لمن تأمله
الوجه الثاني: إن الشرط في الطلاق وهو قوله: إن دخلت الدار ليس فيه ما يوجب تعلقه بجميع الجمل بخلاف قوله: على أنه من مات منهم فإن الضمير يقتضي العود إلى جميع المذكور
الثالث: إن إحدى الجملتين في الطلاق لا تعلق لها بالأخرى: فإن الطلقة تقع مع وجود الأولى وعدمها فإذا علقت بالشرط لم تستلزم تعليق الأولى لانفصالها عنها وقد اعتقدوا أن ثم بمنزلة التراخي في اللفظ فيزول التعلق اللفظي والمعنوي فتبقى الجملة الأولى أجنبية عن الشرط على قولهم وأما قوله: ثم على أولادهم فإنه متعلق بالجملة الأولى من جهة الضمير ومن جهة الوجود ومن جهة الاستحقاق فلا يصح اللفظ بهذه الجملة إلا بعد الأولى ولا وجود لمعناها إلا بعد الأولى ولا استحقاق لهم إلا بعد الأولى سواء قدر التراخي في اللفظ أو لم يقدر فلا يمكن أن تجعل الأولى أجنبية عن الثانية حتى تعلق الثانية وحدها بالشرط
والذي تحقق أن النزاع إنما هو في الطلاق فقط: إنه لو قال: والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم بكرا إن شاء الله عاد استثناء إلى الجميع فقوله: وقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء أبلغ من قوله: إن شاء الله من حيث أن هنا تعلق الضمير
الوجه الثامن: إن هذا الفرق الذي ذكره بعض الفقهاء بين العطف بالحرف المرتب والحرف الجامع إنما ذكره في الاستثناء ثم قال: وكذلك القول في الصفة والصفة إذا أطلقت فكثيرا ما يراد بها الصفة الصناعية النحوية وهو الاسم التابع لما قبله في إعرابه: مثل أن تقول: وقفت على أولادي ثم على الفقراء العدول فإن اختصاص الجملة هنا بالصفة الآخرة قريب ومسألتنا شروط حكمية وهي إلى الشروط اللفظية أقرب منها إلى الاستثناء وإن سميت صفات من جهة المعنى
والدليل على أنه قصد هذا أنه قال: وإن كان العطف بالواو ولا فاصل فمذهب الشافعي رجوع الاستثناء إلى الجميع وكذلك القول في الصفة فعلم أنه قصد أن هذا مذهب الشافعي مشيرا إلى خلاف أبي حنيفة فإنه إنما يعيد ذلك إلى الجملة الأخيرة وهذا إنما يقوله أبو حنيفة في الاستثناء والصفات التابعة لا يقوله في الشروط والصفات التي تجري مجرى الشروط فصار هنا أربعة أقسام:
أحدها: الاستثناء بحرف إلا المتعقب جملا والخلاف فيه مشهور
الثاني: الاستثناء بحروف الشرط فالاستثناء هنا عائد إلى الجميع
الثالث: الصفات التابعة للاسم الموصوف بها وما أشبهها وعطف البيان فهذه توابع مخصصة للأسماء المتقدمة فهي بمنزلة الاستثناء
الرابع: الشروط المعنوية بحرف الجر: مثل قوله: على أنه أو: تشرط أن يفعل أو بحروف العطف: مثل قوله: ومن شرطه كذا ونحو ذلك فهذه مثل الاستثناء بحروف الجزاء والضابط أن كل ما كان من تمام الاسم فهو من جنس الاستثناء بإلا وكلما كان متعلقا بنفس الكلام وهو النسبة الحكمية التي بين المبتدأ والخبر وبين الفعل والفاعل فهو في معنى الاستثناء بحرف الشرط ومعلوم أن حروف الجر وحروف الشرط المتأخرة إنما تتعلق بنفس الفعل المتقدم وهو قوله: وقفت وهو الكلام والجملة والاستثناء والبدل والصفة النحوية وعطف البيان متعلق بنفس الأسماء التي هي مفاعيل هذا الفعل
ويجوز كلام من فرق على جمل أجنبيات مثل أن تقول: وقفت على أولادي ثم على ولد فلان ثم على المساكين: على أنه لا يعطي منهم إلا صاحب عيال ففي مثل هذا قد يقوي اختصاص الشرط بالجملة الأخيرة لكونها أجنبية من الجملة الأولى ليست من جنسها بخلاف الأولاد وأولاد الأولاد فإنهم من جنس واحد
وحمل الكلام على أحد هذين المعنيين أو نحوهما متعين مع ما ذكرنا مع دليل إرادة ذلك على أنه لو كان فيه تخصيص لكلامه فإنه واجب لما ذكرناه فإنه إذا كان قد جاء إلى كلام الأئمة الذين قالوا: الاستثناء أو الصفة إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض عاد إلى جميع الجمل فخص ذلك ببعض حروف العطف لما رآه من الدليل فلأن نخص نحن كلامه بما ذكرناه من نصوص كلامهم الموجب للتسوية بين الواو وثم بطريق الأولى فإن سلم أن كلامه محمول على ما ذكرناه وإلا تكلمنا معه بالوجه التاسع
وهو أن هذا الفرق المدعي بين الحرف الجامع جمعا مطلقا والحرف المرتب فرق لا أصل له في اللغة ولا في العرف ولا في كلام الفقهاء ولا في كلام الأصوليين ولا في الأحكام الشرعية والدليل المذكور على حصته فاسد فيجب أن يكون فاسدا
أما الأول فإن أهل اللغة قالوا: حروف العطف هي التي تشرك بين ما قبلها وما بعدها في الإعراب وهو نوعان: نوع يشرك بينهما في المعنى أيضا وهي: الواو والفاء وثم فأما الواو فتدل على مطلق التشريك والجمع إلا عند من يقول: إنها للترتيب وأما ثم فإنها تدل على مطلق الترتيب وقد يقال: إنها للتراخي وأما الفاء فإنها تدل على نوع من التريب وهو التعقيب فهذه الحروف لا يخالف بعضها بعضا في نفس اجتماع المعطوف والمعطوف عليه في المعنى واشتراكهما فيه وإنما تفترق في زمان الاجتماع
فلو قيل: إن العطف بالواو يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما يلحق الجمل من استثناء ونعت ونحو ذلك والعطف بثم لا يقتضي اشتراكهما في هذه اللواحق: للزم من ذلك أن لا تكون ثم مشتركة حيث تكون الواو مشتركة ومعلوم أن هذا مخالف لما عليه أهل اللغة بل هو خلاف المعلوم من لغة العرب والأحكام اللغوية التي هي دلالات الألفاظ تستفاد من استعمال أهل اللغة والنقل عنهم فإذا كان النقل والاستعمال قد اقتضينا أنهما للاشتراك في المعنى: كان دعوى انفراد أحدها بالتشريك دون الآخر خروجا عن لغة العرب وعن المنقول عنهم
وأما العرف فقد أسلفنا أن الناس لا يفهمون من مثل هذا الكلام إلا عود الشرط إلى الجميع والعلم بهذا من عرف الناس ضروري وأما كلام العلماء من الفقهاء والأصوليين فإنهم تكلموا في الاستثناء المتعقب جملا فقال قوم: أنه يعود إلى جميعها وقال قوم: يعود إلى الأخيرة منها وقال قوم: إن كان بين الجملتين تعلق عاد الاستثناء إلى جميعها وإن كانتا أجنبيتين عاد إلى الأخيرة ثم فصلوا الجمل المتعلق بعضها ببعض من الأجنبية وذكروا عدة أنواع من التفصيل وقال قوم: العطف مشترك بين الجميع وقال قوم: بالوقف في جميع هذه المذاهب ثم ليس أحد من هؤلاء فرق بين العطف بالواو والفاء أو ثم: بل قولهم المعطوف بعضها على بعض يعم الجميع
وكذلك الفقهاء ذكروا هذا في باب الأيمان وباب الوقف ثم بنوه على أصلهم فقالوا: الاستثناء أو الوصف إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها أو إلى بعضها وقد اعترف من فصل بأن الأئمة أطلقوا هذا الكلام وأنه هو الذي فصل فلا يجوز أن ينسب إلى الأئمة إلى ما قالوه
وأما الأحكام فإنه لو قال: والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم بكرا إن شاء الله عاد الاستثناء إلى الجميع وكذلك لو قال: الطلاق يلزمني لأضربن هذا ثم هذا ثم هذا أو قال: لآخذن المدية لأذبحن الشاة لأطبخها إلى غير ذلك من الصور
وأما ما استدل به فإنه قال: إذا كان العطف بما يقتضي ترتيبها فالصرف إلى جميع المتقدمين فيه بعض النظر والغموض فإن انصرف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به وانعطافه على جميع السابقين والعطف بالحرف المرتب محتمل غير مقطوع به وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره: وجب تقرير الاسحقاق ولم يجز تغييره لمحتمل متردد
فنقول: الجواب من وجوه
أحدهما: إن هذا بعينه موجود في العطف بالواو فإن انعطافه على جميع السابقين محتمل غير مقطوع سواء كان العطف بحرف مرتب أو مشترك غير مرتب وهذا بعينه دليل من أوجب قصر الاستثناء على الجملة الأخيرة
فإن قال: قد ثبت العموم في الجمل المتقدمة فلا يجوز تخصيصه بمحتمل متردد وليس غرضنا هنا إفساد هذا الدليل بل نقول موجب هذا الدليل اختصاص التوابع بالجملة الأخيرة مطلقا أما التفريق بين عاطف وعاطف فليس هذا الدليل ما يقتضيه أصلا وأي فرق عند العقلاء بين أن يقول: وقفت على أولادي وعلى المساكين إلا أن يكونوا فساقا؟ ! نعم ! صاحب هذا القول ربما قوي عند اختصاص الاستثناء بالجملة الآخرة وهاب مخالفة الشافعي فغاظ ما عنده من الرجحان مع إنا قد بينا أن مسألتنا ليست من موارد الخلاف وإنما الخلاف في الاستثناء أو الصفة الاعرابية فأما الشرط والصفة الشرطية فلا خلاف فيهما بين الفقهاء
وبالجملة من سلم أن الجمل المعطوفة بالواو يعود الاستثناء إلى جميعها كان ذكره لهذا الدليل مبطلا لما سلمه فلا يقبل منه فإن تسليم الحكم مستلزم تسليم بطلان ما يدل على نقيضه فلا يقبل منه دليل على عدم عود الاستثناء إلى الجميع
الوجه الثاني: إن قوله: إنصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به فمنوع بل يجوز أن يعود الاستثناء إلى الجملة الأولى فقط إذا دل على ذلك دليل ويجوز للمتكلم أن ينوي ذلك ويقصده وإن كان حالفا أو مظلوما فإنه لو قال: قاتل أهل الكتاب ودعاهم وأبغضهم إلا أن يعطوا الجزية كان الاستثناء عائدا إلى الجملة الأولى فقط وقد قال سبحانه: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } وهذا الاستثناء في الظاهر عائد إلى الجملة الأولى وقال سبحانه: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } إلى قوله: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } وليس هذا مستثنى مما يليه بل من أول الكلام
وقد قال جماعة من أهل العلم في قوله: { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } إن { قليلا } عائد إلى قوله: { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } { إلا قليلا } وهذا الاستثناء عائد إلى جملة بينها وبين الاستثناء جمل أخرى والمقدم في القرآن والمؤخر باب من العلم وقد صنف فيه العلماء: منهم الامام أحمد وغيره وهو متضمن هذا وشبهه أن يكون الاستثناء مؤخرا في اللفظ مقدما في النية
ثم التقديم والتأخير في لغة العرب والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة معترضة وبين غيرهما: لا ينكره إلا من لم يعرف اللغة وقد قال سبحانه: { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } فقوله: { أن يؤتي } من تمام قول أهل الكتاب أي: كراهة أن يؤتي فهو مفعول تؤمنوا وقد فصل بينهما بقوله { قل إن الهدى هدى الله } وهي جملة أجنبية ليست من كلام أهل الكتاب فأيما أبلغ الفصل بين الفعل والمفعول أو بين المستثنى والمستثنى منه؟ ! وإذا لم يكن عود الاستثناء إلى الأخيرة مقطوعا به لم يجب عود الاستثناء إليها بل ربما كان في سياقه ما يقتضي أن عوده إلى الأولى أوكد ومسألتنا من هذا الباب كما تقدم
الثالث قوله: إذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره وجب تقرير الاستحقاق
قلنا أولا: مسألتنا ليست من هذا الباب فإن قوله: على أولاده ثم على أولادهم ليس نصا في ترتيب الطبقة على الطبقة فإنه صالح لترتيب الأفراد على الأفراد لكن هذا يجب في خصوص مسألتنا مع من يريد أن يدخلها تحت عموم هذا الكلام ثم من يقول من رأس: لا نسلم ثبوت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا في شيء من الصور التي يعقبها استثناء أو شرط فإن اللفظ إنما يكون نصا إذا لم يتصل بما يغيره والتغيير متحمل فشرط كونه نصا مشكوك فيه ومتى كان شرط الحكم مشكوكا فيه لم يثبت فإنه لا نص مع إحتمال التغيير لا سيما مثل هذا الاحتمال القوي الذي هو عند أكثر العلماء راجح
فإن قال: المقتضى لدخولهم قائم والمانع من خروجهم مشكوك فيه
قلت على قول من يمنع تخصيص العلة لا أسلم قيام المقتضى لدخولهم فإن المقتضى لدخولهم هو اللفظ الذي لم يوصل به ما يخرجهم فلا أعلم أن هذا اللفظ لم يوصل به ما يخرجهم حتى أعلم أن هذا الاستثناء لا يخرجهم وهذا الشرط مشكوك فيه وأما على قول من يقول بتخصيصها فأسلم قيام المقتضى لكن شرط اقتضائه عدم المانع المعارض وهنا ما يصلح أن يكون مانعا معارضا فما لم يقم دليل يبقى صلاحه للمعارضة وإلا لم يعمل عمله والصلاح للمعارضة لا مزية فيه
وهذا البحث بعينه وهو بحث القائلين بعود الاستثناء إلى جميع الجمل مع القاصرين على الجملة الأخيرة ثم يقول من رأس: إذا قال مثلا وقفت على أولادي ثم على الفقراء إلا الفساق المنازع يقول: ولدي نص في أولاده والفساق يجوز أن يختص بالفقراء
فنقول له: هذا معارض بمثله فإن الفساق نص في جميع الفساق فإنه اسم جميع معرف باللام وإذا كان عاما وجب شموله لكل فاسق فدعوى اختصاصه بفساق الفقراء دون الأولاد يحتاج إلى مخصص فليست المحافظة على عموم الأولاد لعدم العلم بالتخصيص بأولى من المحافظة على عموم الفساق لعدم العلم بالمخصص بل الراجح إخراجهم لأسباب:
أحدها: أن الأصل عدم دخولهم في الوقف وقد تعارض عمومان في دخولهم وخروجهم فيسلم النافي لدخولهم عن معارض راجح
الثاني: أنا قد تيقنا خروجهم من إحدى الجملتين فكان إحدى العمومين المعطوفين مخصوصا فإلحاق شريكه في التخصيص أولى من إدخال التخصيص على مال ليس بشريكه
الثالث: أن المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة فإذا ورد التخصيص عليها ضعفت بخلاف عموم المستثنى فإنه لم يرد عليه تخصيص
الرابع: كون الفسق مانعا يقتضي رجحانه عند الواقف على المقتضى للاعطاء فإذا تيقنا رجحانه في موضع كان ترجيحه في موضع آخر أولى من ترجيح ما لم يعرف رجحانه بحال
الخامس: إن قوله: نص الواقف ان عنى ظاهر لفظه فعود الاستثناء إلى جميع الجمل ظاهر لفظه أيضا عند هذا القول فلا فرق بينهما وإن عنى به النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فمعلوم أن كل لفظ يقبل الاستثناء فلا بد أن يكون إما عددا أو عموما والعمومات ظواهر ليست نصوصا
السادس: قوله: لا يجوز تغييره بمحتمل متردد نقول بموجبه فإن عود الاستثناء عندنا إلى جميع الجمل ليس بمحتمل متردد بل هو نص أيضا بالتفسير الأول والدليل على ذلك غلبته على الاستعمال قال تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى قوله: { ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب } وهو عائد إلى قوله: { يلق } و{ يضاعف } و{ يخلد } وقال سبحانه: { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } وقال تعالى: { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وقال تعالى: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } إلى قوله: { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فهذا استثناء قد تعقب عدة جمل
فإن معنى الجملة في هذا الباب هو اللفظ الذي يصح إخراج بعضه وهو الاسم العام أو اسم العدد ليس معناه الجملة التي هي الكلام المركب من اسمين أو اسم وفعل أو اسم وحرف وقد ثبت بما روي عن الصحابة أن قوله: { إلا الذين تابوا } في آية القذف عائد إلى الجملتين وقال النبي ﷺ: [ لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] وقال النبي ﷺ [ لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ] وهذا كثير في الكتاب والسنة بل من تأمل غالب الاستثناءات الموجودة في الكتاب والسنة التي تعقبت جملا وجدها عائدة إلى الجميع هذا في الاستثناء فأما في الشروط والصفات فلا يكاد يحصيها إلا الله
وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود الاستثناء إلى جمعي الجمل فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب لأن الاستثناء إما أن يكون موضوعا لهما حقيقة فالأصل عدم الاشتراك أو يكون موضعا للأقل فقط فيلزم أن يكون استعمال في الباقي مجازا والمجاز على خلاف الأصل فكثرته على خلاف الأصل فإذا جعل حقيقة فيما غلب على استعماله فيه مجازا فيما قل استعماله فيه: كنا قد عملنا بالأصل النافي للاشتراك وبالأصل النافي للمجاز في صور التفاوت وهو أولى من تركه مطلقا
وإذا ثبت أن عود الاستثناء إلى جميع الجمل نص بمعنى أنه ظاهر اللفظ فهو المطلوب وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة وإنما الغرض التنبيه على مواضع المنع
وهذا البحث الذي ذكره وارد في كل تخصيص متصل فإنه ليس المحافظة على عموم المخصوص بأولى من المحافظة على عموم المخصص بل هذا أولى لأنه عام باق على عمومه ولأن ذكر التخصيص عقب كل جملة مستقبح فلو قال: وقفت على أولادي على أنه من مات منهم عن ولد أو عن غير ولد كان نصيبه لولده أو لذوي طبقته ثم على ولد ولدي على هذا الشرط ثم على ولد ولد ولدي على هذا الشرط لعد هذا من الكلام الذي غيره أفصح منه وأحسن
ثم يقال من نازعنا: ومعلوم قطعا أن عامة الواقفين يقصدون الاشتراط في جميع الطبقات ولا يعبرون بهذه العبارة المستغربة بل يقتصرون على ما ذكره أولا
فلولا أن ذلك كاف في تبليغ ما في نفوسهم لما اقتصروا عليه والله يشهد وكفى بالله شهيدا أنا نتيقن أن الكلام في مسألتنا يقيني وأنه ليس من مسالك المظنون لكن في قدرة الله سبحانه أنه يجعل اليقين عند قوم جهلا عند آخرين ويعد الكلام على هذا تكلفا ولولا أن الحاجة مست إلى ذلك بظن من يظن أن لمن ينازع في هذه المسألة متعلقا أو أنها مسألة عن مسائل الاجتهاد [ لما أطلنا هذه الاطالة ]
فإن قيل: الذي يرجح عود الضمير إلى الجملة الأخيرة هنا: أن الجملة الأخيرة عطفت بالواو وعطفت عليها بالواو فاقتضى ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب إذ الوقف ههنا مشترك بين البطون فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمى الوقفية على الجميع والكيفية مختلفة فاقتضى ذلك استقلالهما بنفسها واختصاصها بما يعقبها: فإنه إذا تخلل الجمل الفصل بشرط كل جملة أوجب ذلك اختصاص الشرط الأخير وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام حينئذ والاختلاف موجود ههنا
قيل عنه وجوه:
أحدها: أن قوله: عطفت بالواو وعطف عليها بالواو يقتضي أنها هي لفظ النسل فإن كان لفظ النسل والعقب بمعنى واحد فلم يعطف عليها في المعنى شيء وإن كانا بمعنيين فيجب أن يكون الضمير عائدا إلى الجملة المعطوفة لا المعطوف عليها
الثاني: قوله: فاقتضى ذلك مخالفتها للأولى في حكم الترتيب قد تقدم منع ذلك وذكرنا أن من الفقهاء من يجعل هذا الوقف مرتبا إلى يوم القيامة فإن قوله: ثم على أولاد أولاده ونسله وعقبه لم يتعرض فيه للترتيب بنفي ولا إثبات لكن لما كان الأصل عدم الترتيب نفيناه عند الانطلاق فلما رتب هنا في كلامه الأول مع العلم بأن العاقل لا يفرق في مثل هذا بل يكتفي بما ذكره أولا كان إعادة الشرط تسمح ولكن غرضنا هنا تقرير هذا
الثالث: [ لو ] سلمنا أنه يوجب الاشتراك بين المعطوف فلا يوجب ذلك اختلافهما في الحكم الذي اشتركا فيه بحرف العطف فإن غاية ما في هذا أنه جعل البطن الرابع وما بعده طبقة واحدة كما جعل في البطن الأول ولد الكبير والصغير والولد الكبير والصغير طبقة واحدة ولم يرتب بعضهم على بعض باعتبار الأسنان فقوله: فاقتضى ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب فيه إبهام فإنه إن عنى به أن هذه الجملة بالنسبة إلى إفرادها مخالفة لتلك الجمل: فليس كذلك بل جملة فإنها حاوية لأفرادها على سبيل الاشتراك لا على سبيل الترتيب وإن عنى به أن هذه الجملة لم يرتب عليها غيره فالجملة الأولى لم تترتب على غيرها وهذا إنما جاء من ضرورة كونها آخر الجمل وليس ذلك بفرق مؤثر كما لم يكن كون الأولى غير مرتبة فرقا مؤثرا
وإن عنى به أن هذه الجملة مشتملة على طبقات متفاوتة بخلاف الجمل الأولى فذلك فرق لا يعود إلى دلالة اللفظ ولا إلى الحكم المدلول عليه باللفظ مع أن الجمل الأولى قد يحصل فيها من التفاوت أكثر من ذلك فقد يكون أولاد الأولاد عشرين بين الأول والآخر سبعون سنة ويكون للأول أولاده قبل وجود إخوته فيموت أولاده وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده قبل انقراض إخوته وربما لم يكن قد بقي من النسل والعقب إلا نفر يسير فينقرضون ثم هذه فروق عادت إلى الموجود لا إلى دلالة اللفظ
الرابع: قوله: فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمى الوقفية قيل: ليس بينهما فرق أصلا بل تناول الجملة الأولى لأفرادها كتناول الثانية لأفرادها لكن الجملة الثانية أكثر في الغالب وهذا غير مؤثر وقوله: الكيفية مختلفة ممنوع فإن كيفية الوقف على الأولاد مثل كيفية الوقف على النسل والعقب: يشترك هؤلاء فيه وهؤلاء فيه
الخامس: لو سلم أن بينهما فرقا خارجا عن دلالة اللفظ فذلك لا يقدح في اشتراكهما في العطف فإن هذا الاختلاف في الكيفية لو كان صحيحا كان بمنزلة قوله: { كل نفس ذائقة الموت } فإن ذوق الميت يختلف اختلافا متباينا لكن هذا الاختلاف لا دلالة للفظ عليه فلم يمنع من الاشتراك الذي دل عليه العموم
السادس: أن الكيفية المختلفة مدلول عليها بالعطف وذلك لا يوجب الاستقلال والاختصاص بما يعقبها كما لو قال: وقفت على أولادي الذكور والاناث وأولاد بني وأولاد أولاد أولادي: على أنه من توفي منهم وإنما الفصل الذي يقطع الثانية عن الأولى أن يفصل بين الجملتين بشرط: مثل أن يقول: وقفت على أولادي على أن يكونوا فقراء ثم على أولاد أولادي على أن يكونوا عدولا فإن الشرط الثاني مختص عما قبله لكون الأول قد عقب بشرطه والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بشرط يفصله عن مشاركة الثاني في جميع أحكامه بخلاف ما إذا كان الاختلاف من غير فصل لفظي
السابع: قوله: وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام قلنا لا نسلم بل ذاك لأجل الفصول اللفظية المانعة من الاشتراك فيما ذكر من الأحكام للفظ أما إذا كان الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه لمعنى يرجع إلى لفظ المعطوف: فهذا شأن كل معطوف ومعطوف عليه من جنسين وفرق بين أن يفصل بين الجملتين بشرط مذكور وبين أن يكون مفهوم لفظ إحدى الجملتين غير مفهوم الأخرى وهذا بين لمن تدبره
فإن قيل: هنا مرجع ثان وهو أن جعله مختص بالجملة الأخيرة يفيد ما لم يدل اللفظ عليه وهو منع اشتراك النسل في نصيب من مات عن غير ولد فإنه لولا هذا الشرط لاشتركوا في جميع حقهم المتلقى عمن فوقهم وعمن مات عن ولد أو غير ولد بخلاف ما إذا عاد إلى جميع الجمل فإنه يكون مؤكدا فقط فإنا كنا نجعل نصيب الميت عن غير ولد لطبقته
قيل عنه وجوه:
أحدها: أنا قدمنا أن هذه الفائدة باطلة فإن العاقل لا يقول: هؤلاء أعلاهم وأسفلهم مشتركون في الوقف فمن مات عن غير ولد اختص بنصيبه إخوته دون آبائه وأعمامه ومن مات عن ولد لم يختص بنصيبه أحد لا ولده ولا غيره فإن هذا لم يفعله أحد ولا يفعله من يستحضره فإنه بمنزلة [ من يقول: ] أعطوا البعيد مني ومن الميت واحرموا القريب مني ومن الميت وقول القائل: يقصد مثل هذا في العادات فما علمنا أحدا قصد هذا
الثاني: أنا قد منعنا كون هذا مقتضاه التشريك فتبطل الفائدة
الثالث: أن في عوده إلى جميع الجمل فوائد:
أحدها: أنه يدل بنطقه على نقل نصيب الميت عن غير ولد إلى ذوي طبقته وتنبيهه الذي هو أقوى من النطق على نقل نصيب المتوفي عن ولد إلى ولده كما تقدم ذكره
الفائدة الثانية: أن قوله: على أولاده ثم أولاد أولاده إلى قوله دائما ما تناسلوا وأبدا ما تعاقبوا يقتضي استحقاق ذريته للوقف فإذا مات الميت وليس له إلا ذوي طبقته وأولاد أولاده: أفاد الشرط إخراج الطبقة فيبقى الأولاد داخلين في اللفظ الأول مع الثاني فمجموع قوله: على أولادي ثم أولاد أولادي مع قوله: على أن نصيب الميت عن غير ولد ينتقل إلى إخوته دلنا على أن نصيب الميت عن ولد ينتقل إلى ولده لأنهم في عموم قوله: أولاد أولادي ودخلت الطبقة في العموم فلما خرجت الطبقة بالشرط بقي ولد الولد وهكذا كل لفظ عام لنوعين أخرج أحدهما فإنه يتعين الآخر وهذه دلالة ثانية على انتقال نصيب الميت عن ولد إلى ولده من جهة اللفظ العام الذي لم يبق فيه إلا هم وهي غير دلالة التنبيه
وإن شئت عبرت عن ذلك بأن تقول: نصيب الميت أما للأولاد أو لأولاد الأولاد كما دل على انحصار الوقف فيهما قوله: على أولادي ثم على أولادهم فكما منع الأولاد أن ينتقل إليهم نصيب الميت عن ولد: تعين أن يكون للنوع الآخر
يبقى أن يقال: فقد يكون هناك من ليس من الطبقة ولا من الولد قلنا: إذا ظهرت الفائدة في بعض الصور حصل المقصود وهي صورة مسألتنا فإنا لم نتكلم إلا في نصيب الميت: هل يصرف إلى إخوته أو ولده؟ أما لو كان للميت عم مثلا فنقول: حرمان طبقة الميت تنبيه على حرمان من هم أبعد عنه فإن طبقته لم يحرمهم لبعدهم من الوقف فإن الولد أبعد منهم وقد بينا أن ذلك يقتضي إعطاء الولد في أكثر الصور فعلم أنه حرمهم لبعدهم عن الميت وهذا المعنى في أعمام الميت أقوى فيكونون بالمنع مع الولد أحرى
الفائدة الثالثة: أنه دليل على أنه قصد ترتيب الأفراد على الأفراد لا ترتيب المجموع على المجموع كما لو قال: على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده
فإن قيل: هذا حمل اللفظ الواحد على مفهومين مختلفين فإن فائدته في الأول بيان ترتيب الأفراد على الأفراد وفي الثاني بيان اختصاص الطبقة بنصيب المتوفى فمن منع من أن يراد باللفظ الواحد حقيقتان أو مجازان أو حقيقة ومجاز: يمنع منه ومن جوزه قلنا: على هذا التقدير: إذا ثبت أمر بلفظ الواقف نصا لم يجز تغييره بمحتمل متردد قيل هذا السؤال ضعيف جدا لوجوه:
أحدها: أن مورده جعله مقررا لوجه ثان في بيان عود الضمير إلى الجملة الأخيرة غير ما ذكر أولا من عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ثم إنه في آخر الأمر على قول المجوزين لأن يراد باللفظ الواحد معنياه اعتمد على ذلك الجواب فما صار وجها آخر
الثاني: أنا نقول: هذا مبني على أن الشرط أفاد في الطبقة الأخيرة عدد نصيب المتوفى عن غير ولد إلى ذوي طبقته والمتوفي عن ولد يشترك فيه جميع الطبقة وهذا ممنوع من وجهين تقدما
الثالث: لو سلمنا ذلك فليس هذا من باب استعمال اللفظ في معنيين مختلفين إنما هو من باب استعمال اللفظ الواحد في معنى واحد وذلك معدود من الألفاظ المتواطئة وذلك أن فائدة اللفظ بمنطوقه نقل نصيب المتوفي عن غير ولد إلى طبقته وهذه فائدة متجددة في جميع الجمل ثم إن تقيد الإنتقال إلى الطبقة بوجود الولد دليل على أنه عنى ترتيب الأفراد وهذه دلالة لزومية واللفظ إذا دل بالمطابقة على معنى وبالالتزام على معنى آخر لم يكن هذا من القسم المختلف فيه كعامة الألفاظ فإن كونه دليلا على ترتيب الأفراد إنما جاء من جهة أنه شرط في استحقاق الطبقة نصيب المتوفي عدم ولده ثم علم بالعقل أنه لو قصد ترتيب المجموع لم يشرطه بهذا الشرط فإن ترتيب المجموع واشتراط هذا الشرط متنافيان وكون هذين المعنيين يتنافيان قضية عقلية فهمت بعد تصور كل واحد من المعنيين لأن أحد اللفظين دل عليهما بالوضع وهذا كما فهموا من قوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } مع قوله تعالى: { يرضعن أولادهن حولين كاملين } إن أقل الحمل ستة أشهر ونظائره كثيرة
الرابع: لو فرض أن هذا من باب استعمال اللفظ الواحد في معنييه فلا نسلم أن منع ذلك هو الحق بل ليس ذلك مذهب أحد من الأئمة المعتبرين وإنما هو قول طائفة من المتكلمين والذي يدل عليه كلام عامة الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء وعامة أهل اللغة وأكثر المتكلمين جواز ذلك فلم يجوز أن يحمل كلامه على ما يعتقد هو صحته ويناظر عليه؟ !
الخامس: إن ما ادعوه من أن النص لا يدفع بمحتمل تقدم جوابه وبينا أنه لا نص هنا بل يدفع المحتمل بالنص وذكرنا أن هذا البحث المنصوص عن الأئمة الكبار
الفائدة الرابعة: أنه قصد بهذا الشرط نفي انقطاع الوقف ونفي اشتراك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفي عن غير ولد ونبه بذلك على أنه عنى بقوله عن: ولده ترتيب الأفراد
فإن قيل: عوده إلى جميع الجمل يوجب انقطاع الوقف في الوسط فحمل اللفظ على ما ينفي الانقطاع أولى لأن من مات عن ولد لا يصرف نصيبه إلى الطبقة عملا بموجب الشرط ولا إلى الولد عملا بموجب الترتيب المطلق
فإن قلتم: إذا جعلناه مبنيا لترتيب الأفراد لم يكن موجبا للانقطاع فنجيب عنه بالبحث المتقدم وهو أن استحقاق الطبقة مستحق لظاهر اللفظ فلا يترك بمتردد محتمل
قيل: أولا هذا الوجه لا يتم إلا بهذا البحث وهو إنما ذكر ليكون مؤيدا له والمؤيد للشيء يجب أن يكون غيره ولا يكون معتمدا عليه فإن كان الوجه لا يتم إلا بذلك البحث كانت صحته موقوفة على صحته والفرع لا يكون أقوى من أصله ولا يكسبه قوة بل يكون تقوية ذلك الوجه به تقوية الشيء بنفسه وهذا نوع من المصادرة وإذا كان هذا مبنيا على ذلك الوجه وقد أجبنا عنه فيما مضى: فقد حصل الجواب عن هذا
ثم نقول: الانتفاع ينتفي من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الوقف محصور في الأولاد ثم أولادهم فإذا مات الميت عن ولد فنصيبه إما لأخوته أو لبنيهم أو لبنيه أو لعمومته لأن الشرط يقتضي انحصار الوقف في الأولاد ثم أولاد الأولاد وهم إما ذو طبقته أو من هو أعلى منه: عمومته ونحوهم فإنه لا يستحق شيئا مع وجود أبيه ومن هو أسفل منه: ولده وولد إخوته وطبقتهم فأما طبقته فانتقوا بالقيد المذكور في استحقاقهم وأما بنوهم فانتفوا لثلاثة أسباب:
أحدها: بطريق التنبيه فإن أباهم أقرب إلى الميت وإلى الواقف فإذا لم ينقل إلى الأقرب فإلى الأبعد أولى
والثاني: أنه سواء عنى بالتريب ترتيب المجموع أو ترتيب الأفراد لا يستحقون في هذه الحال فإن الطبقة العليا لم تنقرض وآباؤهم لم يموتوا
الثالث: أنهم في هذه الحال ليسوا من أهل الوقف ولم ينتقل إليهم ما هم أصل فيه فلا ينتقل إليهم ما هم فروع فيه وأما العمومة فإنه لا يتصور أن يستحق الميت شيئا مع وجود عمومته إلا على قولنا ففرض هذه الصورة على رأي المنازع محال وإذا كان وجود العمومة مستلزما لصحة هذا القول: فمحال أنه يستلزم ذلك ما يفسده فإن الشيء الواحد لا يستلزم صحة الشيء وفساده ولكن يقال: لكن يقال قد كان الميت أولا لم يخلف إلا إخوة وولدا ثم مات ولده عن ولد وأعمامه فنقول: حرمان الأخوة مع الولد تنبيه على حرمان العمومة وهذا حقيقة الجواب: أن نفي إخوته تنبيه على نفي عمومته كما تقدم
الوجه الثاني: - النافي للانقطاع أن إعطاء الأخوة نصيب الميت دون سائر أهل الوقف تنبيه على إعطاء الولد كما تقدم
الثالث: أن ذلك دليل على أن الترتيب المتقدم: ترتيب الأفراد على الأفراد وقد قدمنا تقرير هذا
والله سبحانه يوفقنا لما يحبه ويرضاه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما