الفتاوى الكبرى/كتاب الجهاد/2
7 - 778 - مسألة: في أجناد يمتنعون عن قتال التتار ويقولون ان فيهم من يخرج مكرها معهم وإذا هرب أحدهم هل يتبع أم لا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين قتال التتار الذين قدموا إلى بلاد الشام واجب بالكتاب والسنة فإن الله يقول في القرآن { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } والدين هو الطاعة فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله ولهذا قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله }
وهذه الآية نزلت في أهل الطائف لما دخلوا في الإسلام والتزموا الصلاة والصيام لكن امتنعوا من ترك الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا والربا هو آخر ما حرمه الله وهو مال يؤخذ برضا صاحبه فإذا كان في هؤلاء محاربين لله ورسوله يجب جهادهم فكيف بمن يترك كثيرا من شرائع الإسلام أو أكثرها كالتتار
وقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها إذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة أو صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة أو عن تحريم الفواحش أو الخمر أو نكاح ذوات المحارم أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق أو الربا أو الميسر أو الجهاد للكفار أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب ونحو ذلك من شرائع الإسلام فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله
وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر لما ناظر أبا بكر في مانعي الزكاة قال له أبو بكر: كيف لا أقاتل من ترك الحقوق التي أوجبها الله ورسوله وإن كان قد أسلم كالزكاة وقال له: فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها قال عمر: فما هو إلا أن رأيت قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق
وقد ثبت في الصحيح من غير وجه [ أن النبي ﷺ ذكر الخوارج وقال فيهم: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن ادركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء وأول من قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما زال المسلمين يقاتلون في صدر خلافة بني أمية وبني العباس مع الأمراء وإن كانوا ظلمة وكان الحجاج ونوابه ممن يقاتلونهم فكل أئمة المسلمين يأمرون بقتالهم والتتار وأشباههم أعظم خروجا عن شريعة الإسلام من مانعي الزكاة والخوارج من أهل الطائف الذين امتنعوا عن ترك الربا فمن شك في قتالهم فهو أجهل الناس بدين الإسلام وحيث وجب قتالهم قوتلوا وإن كان فيهم المكره باتفاق المسلمين كما قال العباس لما أسر يوم بدر: يا رسول الله إني خرجت مكرها فقال النبي ﷺ: أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله
وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم وإن لم يخف على المسلمين ففي جواز القتال المفضي إلى قتل هؤلاء المسلمين قولان مشهوران للعلماء وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيدا فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيدا ومن قتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيدا
وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل: يا رسول الله وفيهم المكره فقال: يبعثون على نياتهم فإذا كان العذاب الذي ينزله الله بالجيش الذي يغزوا المسلمين ينزله بالمكره فكيف بالعذاب الذي يعذبهم الله به أو بأيدي المؤمنين كما قال تعالى: { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا }
ونحن لا نعلم المكره ولا نقدر على التمييز فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين وكانوا هم على نياتهم فمن كان مكرها لا يستطيع الامتناع فإنه يحشر على نيته يوم القيامة فإذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قتل من يقتل من عسكر المسلمين
وأما إذا هرب أحدهم فإن من الناس من يجعل قتالهم بمنزلة قتال البغاة المتأولين وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فهل يجوز اتباع مدبرهم وقتل أسيرهم والإجهاز على جريحهم على قولين للعلماء مشهورين فقيل: لا يفعل ذلك لأن منادي علي بن أبي طالب نادى يوم الجمل: لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسير وقيل: بل يفعل ذلك لأنه يوم الجمل لم يكن لهم طائفة ممتنعة وكان المقصود من القتال دفعهم فلما اندفعوا لم يكن إلى ذلك حاجة بمنزلة دفع الصائل
وقد روي أنه يوم الجمل وصفين كان أمرهم بخلاف ذلك فمن جعلهم بمنزلة البغاة المتأولين جعل فيهم هذين القولين
والصواب أن هؤلاء ليسوا من البغاة المتأولين فإن هؤلاء ليس لهم تأويل سائغ أصلا وإنما هم من جنس الخوارج المارقين ومانعي الزكاة وأهل الطائف والحرمية ونحوهم ممن قوتلوا على ما خرجوا عنه من شرائع الإسلام وهذا موضع اشتبه على كثير من الناس من الفقهاء المصنفين في قتال أهل البغي جعلوا قتال مانعي الزكاة وقتال الخوارج وقتال علي لأهل البصرة وقتاله لمعاوية وأتباعه من قتال أهل البغي وذلك كله مأمور به وفرعوا مسائل ذلك تفريع من يرى ذلك بين الناس وقد غلطوا بل الصواب ما عليه أئمة الحديث والسنة وأهل المدينة النبوية كالأوزاعي والثوري ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه يفرق بين هذا وهذا فقتال علي للخوارج ثابت بالنصوص الصريحة عن النبي ﷺ باتفاق المسلمين
وأما القتال يوم صفين ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة بل صد عنه أكابر الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وغيرهم
ولم يكن بعد علي بن أبي طالب في العسكرين مثل سعد بن أبي وقاص والأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ تقتضي أنه كان يجب الاصلاح بين تينك الطائفتين لا الاقتتال بينهما
كما ثبت عنه في صحيح البخاري: أنه خطب الناس والجيش معه فقال: [ إن إبني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين ] فأصلح الله بالحسن بين أهل العراق وأهل الشام فجعل النبي ﷺ الإصلاح به من فضائل الحسن مع أن الحسن نزل عن الأمر وسلم الأمر إلى معاوية فلو كان القتال هو المأمور به دون ترك الخلافة ومصالحة معاوية لم يمدحه النبي ﷺ على ترك ما أمر به وفعل ما لم يؤمر به ولا مدحه على ترك الأولى وفعل الأدنى فعلم أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله لا القتال
وقد ثبت في الصحيح: أن النبي ﷺ كان يضعه وأسامة على فخذيه ويقول: [ اللهم إني أحبهم فأحبهما وأحب من يحبهما ]
وقد ظهر أثر محبة رسول الله ﷺ لهما بكراهتهما القتال في الفتنة فإن أسامة امتنع عن القتال مع واحدة من الطائفتين وكذلك الحسن كان دائما يشير على علي بأنه لا يقاتل ولما صار الأمر إليه فعل ما كان يشير به على أبيه رضي الله عنهم أجمعين
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال: [ تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ]
فهذه المارقة هم الخوارج وقاتلهم علي بن أبي طالب وهذا يصدقه بقية الأحاديث التي فيها الأمر بقتال الخوارج وتبين أن قتلهم مما يحبه الله ورسوله وأن الذين قاتلوهم مع علي أولى بالحق من معاوية وأصحابه مع كونهم أولى بالحق فلم يأمر النبي ﷺ بالقتال لواحدة من الطائفتين كما أمر بقتال الخوارج بل مدح الاصلاح بينهما
وقد ثبت عن النبي ﷺ من كراهة القتال في الفتن والتحذير منها من الأحاديث الصحيحة ما ليس هذا موضعه كقوله: [ ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي ]
وقال [ يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ]
فالفتن مثل الحروب التي تكون بين ملوك المسلمين وطوائف المسلمين مع أن كل واحدة من الطائفتين ملتزمة لشرائع الإسلام مثل ما كان أهل الجمل وصفين وإنما اقتتلوا لشبه وأمور عرضت
وأما قتال الخوارج ومانعي الزكاة وأهل الطائف الذين لم يكونوا يحرمون الربا فهؤلاء يقاتلون حتى يدخلوا في الشرائع الثابتة عن النبي ﷺ وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلا ريب أنه يجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والاجهاز على جريحهم فإن هؤلاء إذا كانوا مقيمين ببلادهم على ما هم عليه فإنه يجب على المسلمين أن يقصدوهم في بلادهم لقتالهم حتى يكون الدين كله لله فإن هؤلاء التتار لا يقاتلون على دين الإسلام بل يقاتلون الناس حتى يدخلوا في طاعتهم فمن دخل في طاعتهم كفوا عنه وإن كان مشركا أو نصرانيا أو يهوديا ومن لم يدخل كان عدوا لهم وإن كان من الأنبياء والصالحين وقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الكفار ويوالوا عباده المؤمنين فيجب على المسلمين من جند الشام ومصر واليمن والمغرب جميعهم أن يكونوا متعاونين على قتال الكفار وليس لبعضهم أن يقاتل بعضا بمجرد الرياسة والأهواء فهؤلاء التتار أقل ما يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من المسلمين ويتعاونون هم وهم على قتال الكفار
وأيضا لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق أو مبتدع أو زنديق كالملاحدة القرامطة الباطنية وكالرافضة السبابة وكالجهمية المعطلة من النفاة الحلولية ومعهم ممن يقلدونه من المنتسبين إلى العلم والدين من هو شر منهم فإن التتار جهال يقلدون الذين يحسنون به الظن وهم لضلالهم وغيهم يتبعونه في الضلال الذي يكذبون به على الله ورسوله ويبدلون دين الله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ولو وصفت ما أعلمه من أمورهم لطال الخطاب
وبالجملة: فمذهبهم ودين الإسلام لا يجتمعان ولو أظهروا دين الإسلام الحنيفي الذي بعث رسول به لاهتدوا وأطاعوا مثل الطائفة المنصورة فان النبي ﷺ قد ثبت عنه أنه قال: [ لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضربهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ]
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: [ لايزال أهل الغرب ظاهرين وأول الغرب ما يسامت النثرة ونحوها ]
فإن النبي ﷺ تكلم بهذا الكلام وهو بالمدينة النبوية فما يغرب عنها فهو غرب كالشام ومصر وما شرق عنها فهو شرق كالجزيرة والعراق وكان السلف يسمون أهل الشام أهل المغرب ويسمون أهل العراق أهل المشرق
وهذه الجملة التي ذكرتها فيها من الآثار والأدلة الشرعية فيها ما هو مذكور في غير هذا الموضع والله أعلم