البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة
قد تقدم أن رسول الله ﷺ لما توفي ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد، وطيء، وبشر كثير أيضا.
وادعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب وعظم الخطب، واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وراموا أن يهجموا عليها فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس علي ابن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود.
وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة، ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ».
قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا * فواعجبا ما بال ملك أبي بكر
وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك وأباه.
وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجه عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ».
فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقا، وفي رواية: عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لأقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
قلت: وقد قال الله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [التوبة: 5] .
وثبت في الصحيحين: « بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ».
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة ابن سوار، ثنا عيسى بن يزيد المديني، حدثني صالح بن كيسان قال: لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمد ﷺ والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرا لشر عندهم، قد غيروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشا، وأضلهم دينا في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمد وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم حتى قبض الله نبيه ﷺ فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم وبغى هلكتهم { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } [آل عمران: 144] .
إن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم ﷺ وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالا فهداه، وعائلا فأغناه، { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [آل عمران: 103] .
والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدا من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [النور: 55] . ثم نزل.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » الآية
قالوا: المراد بذلك أبو بكر وأصحابه في قتالهم المرتدين ومانعي الزكاة.
وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله ﷺ ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة.
وارتدت أسد، وغطفان، وعليهم طليحة بن خويلد الأسدي الكاهن.
وارتدت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي.
وارتدت مذحج ومن يليها وعليهم الأسود بن كعب العنسي الكاهن.
وارتدت ربيعة مع المعرور ابن النعمان بن المنذر.
وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذاب.
وارتدت سليم مع الفجأة واسمه أنس بن عبد ياليل.
وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة.
وقال القاسم بن محمد: اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة الأسدي، وبعثوا وفودا إلى المدينة، فنزلوا على وجوه الناس فأنزلوهم إلا العباس، فحملوا بهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم، فردهم، فرجعوا إلى عشائرهم فأخبروهم بقلة أهل المدينة وطمعوهم فيها، فجعل أبو بكر الحرس على أنقاب المدينة، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد، وقال: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون ليلا يأتون أم نهارا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يؤملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، فاستعدوا وأعدوا فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة، وخلفوا نصفهم بذي حسى ليكونوا ردءا لهم، وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة، فبعث إليهم أن الزموا مكانكم، وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانفش العدو واتبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء، فالتقوا مع الجمع فكان الفتح، وقد قال:
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا * فيالعباد الله ما لأبي بكر
أيورثنا بكرا إذا مات بعده * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه * وهلا خشيتم حس راعية البكر
وإن التي سألوكمو فمنعتمو * لكالتمر أو أحلى إلي من التمر
وفي جمادى الآخرة ركب الصديق في أهل المدينة وأمراء الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها، فلما تواجه هو وأعداؤه من بني عبس، وبني مرة، وذبيان، ومن ناصب معهم من بني كنانة، وأمدهم طليحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدة وهي أنهم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها، ثم أرسلوها من رءوس الجبال فلما رأتها إبل أصحاب الصديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من أمرها شيئا إلى الليل وحتى رجعت إلى المدينة، فقال في ذلك الخطيل بن أوس:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي * عشية يحدى بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدى بالرجال فهبنه * إلى قدر ما تقيم ولا تسري
ولله أجناد تذاق مذاقه * لتحسب فيما عد من عجب الدهر
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيالعباد الله ما لأبي بكر
فلما وقع ما وقع ظن القوم بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أخر فاجتمعوا، وبات أبو بكر رضي الله عنه قائما ليله يعبي الناس، ثم خرج على تعبئة من آخر الليل وعلى ميمنته النعمان ابن مقرن، وعلى الميسرة أخوه عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة أخوهما سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة وكان أول الفتح، وذل بها المشركون، وعز بها المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي:
غداة سعى أبو بكر إليهم * كما يسعى لموتته حلال
أراح على نواهقها عليا * ومج لهن مهجته حبال
وقال أيضا:
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا * ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها * صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباجها * وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
فكانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الإسلام وأهله، وذلك أنه عز المسلمون في كل قبيلة، وذل الكفار في كل قبيلة، ورجع أبو بكر إلى المدينة مؤيدا منصورا، سالما غانما، وطرقت المدينة في الليل صدقات عدي بن حاتم، وصفوان، والزبرقان: إحداها في أول الليل، والثانية في أوسطه، والثالثة في آخره، وقدم بكل واحدة منهن بشير من أمراء الأنقاب، فكان الذي بشر بصفوان سعد ابن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف، والذي بشر بعدي بن حاتم عبد الله ابن مسعود، ويقال: أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه وذلك على رأس ستين ليلة من متوفى رسول الله ﷺ.
ثم قدم أسامة بن زيد بعد ذلك بليال فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهرهم، ثم ركب أبو بكر في الذين كانوا معه في الوقعة المتقدمة إلى ذي القصة فقال له المسلمون: لو رجعت إلى المدينة وأرسلت رجلا.
فقال: والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي، فخرج في تعبئته إلى ذي حسى، وذي القصة والنعمان وعبد الله وسويد بنو مقرن على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق وهناك جماعة من بني عبس وذبيان وطائفة من بني كنانة فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفا، وأخذ الحطيئة أسيرا فطارت بنو عبس، وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما، وقد غلب بني ذبيان على البلاد، وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله وحمى الأبرق بخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة، ولما فرت عبس وذبيان صاروا إلى مؤازرة طلحة وهو نازل على بزاخة، وقد قال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة: ويوم بالأبارق قد شهدنا * على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسوف * مع الصديق إذ ترك العتابا