البداية والنهاية/الجزء السادس/ذكر شعره عليه السلام
قد ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل رسول الله ﷺ ثم فرق بعده.
وقال الإمام أحمد: ثنا حماد بن خالد، ثنا مالك، ثنا زياد بن سعد عن الزهري، عن أنس أن رسول الله ﷺ سدل ناصيته ما شاء أن يسدل، ثم فرق بعد.
تفرد به من هذا الوجه.
وقال محمد بن إسحاق بن جعفر بن الزبير عن عروة، عن عائشة قالت: أنا فرقت لرسول الله رأسه، صدعت فرقه عن يافوخه وأرسلت ناصيته بين عينيه.
قال ابن إسحاق: وقد قال محمد بن جعفر بن الزبير - وكان فقيها مسلما -: ما هي إلا سيما من سيما النصارى تمسكت بها النصارى من الناس.
وثبت في الصحيحين عن البراء أن رسول الله كان يضرب شعره إلى منكبيه.
وجاء في الصحيح عنه وعن غيره: إلى أنصاف أذنيه.
ولا منافاة بين الحالين، فإن الشعر تارة يطول، وتارة يقصر منه، فكل حكى بحسب ما رأى.
وقال أبو داود: ثنا ابن نفيل، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان شعر رسول الله ﷺ فوق الوفرة ودون الجمة.
وقد ثبت أنه عليه السلام حلق جميع رأسه في حجة الوداع، وقد مات بعد ذلك بأحد وثمانين يوما - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن مسلم ويحيى بن عبد الحميد قالا: ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم هانئ: قدم النبي ﷺ مكة قدمة وله أربع غدائر - تعني: ضفائر -.
وروى الترمذي من حديث سفيان بن عيينة، وثبت في الصحيحين من حديث ربيعة عن أنس قال بعد ذكره شعر رسول الله ﷺ أنه ليس بالسبط ولا بالقطط قال: وتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وفي صحيح البخاري من حديث أيوب عن ابن سيرين أنه قال: قلت لأنس: أخضب رسول الله؟
قال: إنه لم ير من الشيب إلا قليلا.
وكذا روى هو ومسلم من طريق حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت: قيل لأنس: هل كان شاب رسول الله؟
فقال: ما شانه الله بالشيب ما كان في رأسه إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة شعرة.
وعند مسلم من طريق المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس أن رسول الله لم يختضب إنما كان شمط عند العنفقة يسيرا، وفي الصدغين يسيرا، وفي الرأس يسيرا.
وقال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا همام عن قتادة قال: سألت أنسا هل خضب رسول الله ﷺ؟
قال: لا، إنما كان شيء في صدغيه.
وروى البخاري عن عصام بن خالد، عن جرير بن عثمان قال: قلت لعبد الله بن بسر السلمي رأيت رسول الله أكان شيخا؟
قال: كان في عنفقته شعرات بيض.
وتقدم عن جابر بن سمرة مثله.
وفي الصحيحين من حديث أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله هذه منه بيضاء - يعني: عنفقته -.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة السكري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي قال: دخلنا على أم سلمة، فأخرجت إلينا من شعر رسول الله فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم.
رواه البخاري عن إسماعيل بن موسى، عن سلام ابن أبي مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أم سلمة به.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا يحيى بن بكير، ثنا إسرائيل عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم فيه من شعر رسول الله، فكان إذا أصاب إنسانا الحمى بعث إليها فحضحضته فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه.
قال: فبعثني أهلي إليها، فأخرجته فإذا هو هكذا - وأشار إسرائيل بثلاث أصابع - وكان فيه خمس شعرات حمر.
رواه البخاري عن مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن إياد، حدثني إياد عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله ﷺ فلما رأيته قال: هل تدري من هذا؟
قلت: لا.
قال: إن هذا رسول الله، فاقشعررت حين قال ذلك، وكنت أظن أن رسول ﷺ شيء لا يشبه الناس، فإذا هو بشر ذو وفرة بها ردع من حناء، وعليه بردان أخضران.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه، عن أبي رمثة - واسمه: حبيب بن حيان - ويقال: رفاعة بن يثربي.
وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث إياد كذا قال.
وقد رواه النسائي أيضا من حديث سفيان الثوري وعبد الملك بن عمير، كلاهما عن إياد بن لقيط به ببعضه.
ورواه يعقوب بن سفيان أيضا عن محمد بن عبد الله المخرمي، عن أبي سفيان الحميري، عن الضحاك بن حمزة بن غيلان بن جامع، عن إياد بن لقيط بن أبي رمثة قال: كان رسول الله ﷺ يخضب بالحناء والكتم، وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه.
وقال أبو داود: ثنا عبد الرحيم بن مطرف بن سفيان، ثنا عمرو بن محمد، أنا ابن أبي داود عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك.
ورواه النسائي عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي، عن عمرو بن محمد المنقري به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا الحسن بن محمد بن زياد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا يحيى بن آدم.
ح وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أنا عبد الله بن جعفر، أنا يعقوب بن سفيان، حدثني أبو جعفر محمد بن عمر بن الوليد الكندي الكوفي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان شيب رسول الله ﷺ نحوا من عشرين شعرة.
وفي رواية إسحاق: رأيت شيب رسول الله نحوا من عشرين شعرة بيضاء في مقدمه.
قال البيهقي: وحدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أحمد بن سلمان الفقيه، ثنا هلال بن العلاء الرقي، ثنا حسين بن عياش الرقي، ثنا جعفر بن برقان، ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قدم أنس بن مالك المدينة، وعمر بن عبد العزيز وال عليها فبعث إليه عمر وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله ﷺ فإني رأيت شعرا من شعره قد لون.
فقال أنس: إن رسول الله ﷺ قد منع بالسواد، ولو عددت ما أقبل على من شيبه في رأسه ولحيته ما كنت أزيد على إحدى عشرة شيبة، وإنما هو الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله ﷺ هو الذي غير لونه.
قلت: ونفي أنس للخضاب معارض بما تقدم عن غيره من إثباته، والقاعدة المقررة أن الإثبات مقدم على النفي، لأن المثبت معه زيادة علم ليست عند النافي، وهكذا إثبات غيره لزيادة ما ذكر من السبب مقدم، لا سيما عن ابن عمر الذي المظنون أنه تلقى ذلك عن أخته أم المؤمنين حفصة، فإن اطلاعها أتم من إطلاع أنس، لأنها ربما أنها فلت رأسه الكريم عليه الصلاة والسلام.