البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل إيراد هذا الحديث من طرق متفرقة
أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد الحسكاني يصنف فيه تصحيح رد الشمس وترغيم النواصب الشمس وقال: قد روي ذلك من طريق أسماء بنت عميس، وعلي ابن أبي طالب، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، ثم رواه من طريق أحمد بن صالح المصري، وأحمد بن الوليد الأنطاكي، والحسن بن داود، ثلاثتهم عن محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك، وهو ثقة، أخبرني محمد بن موسى الفطري المدني وهو ثقة أيضا عن عون بن محمد قال - وهو ابن محمد بن الحنفية - عن أمه أم جعفر بنت محمد بن جعفر ابن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بالصهباء من أرض خيبر، ثم أرسل عليا في حاجة، فجاء وقد صلى رسول الله العصر، فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غابت غربت الشمس.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيه فرد عليه شرقها ».
قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى رفعت على الجبال، فقام علي فتوضأ، وصلى العصر، ثم غابت الشمس.
وهذا الإسناد فيه من يجهل حاله، فإن عونا هذا وأمه لا يعرف أمرهما بعدالة وضبط يقبل بسببهما خبرهما، فيما دون هذا المقام، فكيف يثبت بخبرهما هذا الأمر العظيم الذي لم يروه أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن ولا المسانيد المشهورة، فالله أعلم، ولا ندري أسمعت أم هذا من جدتها أسماء بنت عميس أو لا.
ثم أورده هذا النص من طريق الحسين بن الحسن الأشقر، وهو شيعي جلد وضعفه غير واحد عن الفضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين الشهيد، عن أسماء بنت عميس، فذكر الحديث.
قال: وقد رواه عن فضيل بن مرزوق جماعة منهم: عبيد الله بن موسى، ثم أورده من طريق أبي جعفر الطحاوي من طريق عبد الله، وقد قدمنا روايتنا له من حديث سعيد بن مسعود، وأبي أمية الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى العبسي وهو من الشيعة، ثم أورده هذا النص من طريق أبي جعفر العقيلي عن أحمد بن داود، عن عمار بن مطر، عن فضيل بن مرزوق والأغر الرقاشي.
ويقال: الرواسي أبو عبد الرحمن الكوفي مولى بني عنزة.
وثقه الثوري وابن عيينة.
وقال أحمد: لا أعلم إلا خيرا.
وقال ابن معين: ثقة.
وقال مرة: صالح، ولكنه شديد التشيع.
وقال مرة: لا بأس به.
وقال أبو حاتم: صدوق، صالح الحديث، يهم كثيرا، يكتب حديثه، ولا يحتج به.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: يقال: إنه ضعيف.
وقال النسائي: ضعيف.
وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به.
وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات، وقد روى له مسلم وأهل السنن الأربعة.
فمن هذه ترجمته لا يتهم بتعمد الكذب، ولكنه قد يتساهل، ولا سيما فيما يوافق مذهبه فيروي عمن لا يعرفه، أو يحسن به الظن فيدلس حديثه ويسقطه، ويذكر شيخه، ولهذا قال في هذا الحديث الذي يجب الاحتراز فيه، وتوقي الكذب فيه: عن بصيغة التدليس، ولم يأت بصيغة التحديث، فلعل بينهما من يجهل أمره على أن شيخه هذا - إبراهيم بن الحسن بن علي ابن أبي طالب - ليس بذلك المشهور في حاله، ولم يرو له أحد من أصحاب الكتب المعتمدة، ولا روى عنه غير الفضيل بن مرزوق هذا، ويحيى بن المتوكل، قاله أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، ولم يتعرضا لجرح ولا تعديل.
وأما فاطمة بنت الحسين ابن علي ابن أبي طالب - وهي أخت زين العابدين - فحديثها مشهور، روى لها أهل السنن الأربعة، وكانت فيمن قدم بها مع أهل البيت بعد مقتل أبيها إلى دمشق، وهي من الثقات، ولكن لا يدري أسمعت هذا الحديث من أسماء أم لا، فالله أعلم.
ثم رواه هذا المصنف من حديث أبي حفص الكناني: ثنا محمد بن عمر القاضي هو الجعابي، حدثني محمد بن القاسم بن جعفر العسكري من أصل كتابه، ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم، ثنا خلف بن سالم، ثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان الثوري عن أشعث أبي الشعثاء، عن أمه، عن فاطمة - يعني: بنت الحسين -، عن أسماء أن رسول الله ﷺ دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس.
وهذا إسناد غريب جدا، وحديث عبد الرزاق وشيخه الثوري محفوظ عند الأئمة لا يكاد يترك منه شيء من المهمات، فكيف لم يرو عن عبد الرزاق مثل هذا الحديث العظيم، إلا خلف بن سالم بما قبله من الرجال الذين لا يعرف حالهم في الضبط والعدالة كغيرهم، ثم إن أم أشعث مجهولة، فالله أعلم.
ثم ساقه هذا النص من طريق محمد بن مرزوق، ثنا حسين الأشقر - وهو شيعي وضعيف كما تقدم - عن علي بن هاشم بن الثريد - وقد قال فيه ابن حبان: كان غاليا في التشيع يروي المناكير عن المشاهير - عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن علي بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس فذكره، وهذا إسناد لا يثبت.
ثم أسنده من طريق عبد الرحمن بن شريك عن أبيه، عن عروة بن عبد الله، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس فذكر الحديث كما قدمنا إيراده من طريق ابن عقدة عن أحمد بن يحيى الصوفي، عن عبد الرحمن بن شريك، عن عبد الله النخعي.
وقد روى عنه البخاري في كتاب الأدب وحدث عنه جماعة من الأئمة.
وقال فيه أبو حاتم الرازي: كان واهي الحديث.
وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: ربما أخطأ، وأرخ ابن عقدة وفاته سنة سبع وعشرين ومائتين.
وقد قدمنا أن الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي قال: إنما أتهم بوضعه أبا العباس ابن عقدة، ثم أورد كلام الأئمة فيه بالطعن والجرح، وأنه كان يسوي النسخ للمشايخ فيرويهم إياها، والله أعلم.
قلت: في سياق هذا الإسناد عن أسماء أن الشمس رجعت حتى بلغت نصف المسجد، وهذا يناقض ما تقدم من أن ذلك كان بالصهباء من أرض خيبر، ومثل هذا يوجب توهين الحديث وضعفه والقدح فيه، ثم سرده من حديث محمد بن عمر القاضي الجعابي، ثنا علي بن العباس بن الوليد، ثنا عبادة بن يعقوب الرواجي، ثنا علي بن هاشم عن صباح، عن عبد الله بن الحسن - أبي جعفر -، عن حسين المقتول، عن فاطمة، عن أسماء بنت عميس قالت: لما كان يوم شغل علي لمكانه من قسم المغنم حتى غربت الشمس، أو كادت.
فقال رسول الله ﷺ: « أما صليت؟ »
قال: لا، فدعا الله فارتفعت الشمس حتى توسطت السماء، فصلى علي فلما غربت الشمس سمعت لها صريرا كصرير الميشار في الحديد.
وهذا أيضا سياق مخالف لما تقدم من وجوه كثيرة، مع أن إسناده مظلم جدا، فإن صباحا هذا لا يعرف، وكيف يروي الحسين بن علي المقتول شهيدا عن واحد عن واحد، عن أسماء بنت عميس؟ هذا تخبيط إسنادا ومتنا، ففي هذا أن عليا شغل بمجرد قسم الغنيمة، وهذا لم يقله أحد، ولا ذهب إلى جواز ترك الصلاة لذلك ذاهب، وإن كان قد جوز بعض العلماء تأخير الصلاة عن وقتها لعذر القتال كما حكاه البخاري عن مكحول، والأوزاعي، وأنس بن مالك في جماعة من أصحابه، واحتج لهم البخاري بقصة تأخير الصلاة يوم الخندق، وأمره - عليه السلام أن لا يصلي أحد منهم العصر إلا في بني قريظة، وذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا نسخ بصلاة الخوف.
والمقصود: أنه لم يقل أحد من العلماء إنه يجوز تأخير الصلاة بعذر قسم الغنيمة، حتى يسند هذا إلى صنيع علي رضي الله عنه وهو الراوي عن رسول الله ﷺ أن الوسطى هي العصر، فإن كان هذا ثابتا على ما رواه هؤلاء الجماعة، وكان علي متعمدا لتأخير الصلاة لعذر قسم الغنيمة وأقره عليه الشارع صار هذا وحده دليلا على جواز ذلك، ويكون أقطع في الحجة مما ذكره البخاري، لأن هذا بعد مشروعية صلاة الخوف قطعا، لأنه كان بخيبر سنة سبع، وصلاة الخوف شرعت قبل ذلك، وإن كان علي ناسيا حتى ترك الصلاة إلى الغروب فهو معذور، فلا يحتاج إلى رد الشمس بل وقتها بعد الغروب، والحالة هذه إذن كما ورد به الحديث، والله أعلم.
وهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث، ثم إن جعلناه قضية أخرى وواقعة غير ما تقدم، فقد تعدد رد الشمس غير مرة، ومع هذا لم ينقله أحد من أئمة العلماء، ولا رواه أهل الكتب المشهورة، وتفرد بهذه الفائدة هؤلاء الرواة الذين لا يخلو إسناد منها عن مجهول ومتروك ومتهم، والله أعلم.
ثم أورد هذا النص من طريق أبي العباس بن عقدة، حدثنا يحيى بن زكريا، ثنا يعقوب بن سعيد، ثنا عمرو بن ثابت قال: سألت عبد الله بن حسن بن حسين بن علي ابن أبي طالب عن حديث رد الشمس على علي ابن أبي طالب هل يثبت عندكم؟
فقال لي: ما أنزل الله في كتابه أعظم من رد الشمس.
قلت: صدقت جعلني الله فداك، ولكني أحب أن أسمعه منك.
فقال: حدثني أبي الحسن، عن أسماء بنت عميس أنها قالت: أقبل علي ابن أبي طالب ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله ﷺ، فوافق رسول الله ﷺ قد انصرف، ونزل عليه الوحي فأسنده إلى صدره، فلم يزل مسنده إلى صدره حتى أفاق رسول الله -ﷺ - فقال: « أصليت العصر يا علي؟ »
قال: جئت والوحي ينزل عليك فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة.
فاستقبل رسول الله ﷺ القبلة - وقد غربت الشمس - وقال: « اللهم إن عليا كان في طاعتك، فارددها عليه ».
قالت أسماء: فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الرحى حتى كانت في موضعها وقت العصر، فقام علي متمكنا فصلى، فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى، اختلط الظلام وبدت النجوم.
وهذا منكر أيضا إسنادا ومتنا، وهو مناقض لما قبله من السياقات، وعمرو بن ثابت هذا هو المتهم بوضع هذا الحديث أو سرقته من غيره، وهو عمرو بن ثابت بن هرمز البكري، الكوفي مولى بكر بن وائل، ويعرف بعمرو بن المقدام الحداد، روى عن غير واحد من التابعين، وحدث عنه جماعة منهم سعيد بن منصور، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان.
قال: تركه عبد الله بن المبارك وقال: لا تحدثوا عنه فإنه كان يسب السلف، ولما مرت به جنازته توارى عنها.
وكذلك تركه عبد الرحمن بن مهدي.
وقال أبو معين والنسائي: ليس بثقة، ولا مأمون، ولا يكتب حديثه.
وقال مرة أخرى هو، وأبو زرعة، وأبو حاتم: كان ضعيفا.
زاد أبو حاتم: وكان رديء الرأي، شديد التشيع، لا يكتب حديثه.
وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم.
وقال أبو داود: كان من شرار الناس، كان رافضيا - قال هنا: - ولما مات لم أصل عليه، لأنه قال لما مات رسول الله ﷺ: كفر الناس إلا خمسة، وجعل أبو داود يذمه.
وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات.
وقال ابن عدي: والضعف على حديثه بين، وأرخوا وفاته في سنة سبع وعشرين ومائة.
ولهذا قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: وكان عبد الله بن حسن وأبوه أجل قدرا من أن يحدثا بهذا الحديث.
قال: هذا المصنف المنصف.
وأما حديث أبي هريرة فأخبرنا عقيل بن الحسن العسكري، أنا أبو محمد صالح بن الفتح النسائي، ثنا أحمد بن عمير بن حوصاء، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبيه، ثنا داود بن فراهيج، وعن عمارة بن برد، وعن أبي هريرة فذكره وقال: اختصرته من حديث طويل، وهذا إسناد مظلم، ويحيى ابن يزيد وأبوه وشيخه داود بن فراهيج كلهم مضعفون، وهذا هو الذي أشار ابن الجوزي إلى أن ابن مردويه رواه من طريق داود ابن فراهيج عن أبي هريرة، وضعف داود هذا شعبة والنسائي وغيرهما، والذي يظهر أن هذا مفتعل من بعض الرواة، أو قد دخل على أحدهم وهو لا يشعر، والله أعلم.
قال: وأما حديث أبي سعيد فأخبرنا محمد بن إسماعيل الجرجاني كتابة أن أبا طاهر محمد بن علي الواعظ أخبرهم، أنا محمد بن أحمد بن متيم، أنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، حدثني أبي عن أبيه محمد، عن أبيه عبد الله، عن أبيه عمر قال: قال الحسين بن علي: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: دخلت على رسول الله - ﷺ - فإذا رأسه في حجر علي، وقد غابت الشمس فانتبه النبي ﷺ وقال: « يا علي أصليت العصر؟ »
قال: لا يا رسول الله ما صليت، كرهت أن أضع رأسك من حجري وأنت وجع.
فقال رسول الله: « يا علي! ادع يا علي أن ترد عليك الشمس ».
فقال علي: يا رسول الله ادع أنت، وأنا أؤمن.
فقال: « يا رب إن عليا في طاعتك، وطاعة نبيك، فاردد عليه الشمس ».
قال أبو سعيد: فوالله لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتى رجعت بيضاء نقية، وهذا إسناد مظلم أيضا ومتنه منكر، ومخالف لما تقدمه من السياقات، وكل هذا يدل على أنه موضوع مصنوع مفتعل يسرقه هؤلاء الرافضة بعضهم من بعض، ولو كان له أصل من رواية أبي سعيد لتلقاه عنه كبار أصحابه، كما أخرجا في الصحيحين من طريقه حديث قتال الخوارج، وقصة المخدج، وغير ذلك من فضائل علي.
قال: وأما حديث أمير المؤمنين علي: فأخبرنا أبو العباس الفرغاني، أنا أبو الفضل الشيباني، ثنا رجاء بن يحيى الساماني، ثنا هارون بن سعدان بسامرا سنة أربعين ومائتين، ثنا عبد الله بن عمرو بن الأشعث عن داود بن الكميت، عن عمه المستهل بن زيد، عن أبيه زيد بن سلهب، عن جويرية بنت شهر قالت: خرجت مع علي ابن أبي طالب.
فقال: يا جويرية إن رسول الله ﷺ كان يوحى إليه، ورأسه في حجري، فذكر الحديث.
وهذا الإسناد مظلم، وأكثر رجاله لا يعرفون، والذي يظهر والله أعلم أنه مركب مصنوع مما عملته أيدي الروافض، ولعن من كذب على رسول الله ﷺ وعجل له ما توعده الشارع من العذاب والنكال حيث قال وهو الصادق في المقال: « من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ».
وكيف يدخل في عقل أحد من أهل العلم أن يكون هذا الحديث يرويه علي ابن أبي طالب وفيه منقبة عظيمة له دلالة معجزة باهرة لرسول الله ﷺ ثم لا يروى عنه إلا بهذا الإسناد المظلم، المركب على رجال لا يعرفون، وهل لهم وجود في الخارج أم لا، الظاهر والله أعلم لا، ثم هو عن امرأة مجهولة العين والحال، فأين أصحاب علي الثقات، كعبيدة السلماني، وشريح القاضي، وعامر الشعبي، وأضرابهم، ثم في ترك الأئمة كمالك، وأصحاب الكتب الستة، وأصحاب المسانيد، والسنن، والصحاح، والحسان، رواية هذا الحديث وإيداعه في كتبهم أكبر دليل على أنه لا أصل له عندهم، وهو مفتعل مأفوك بعدهم.
وهذا أبو عبد الرحمن النسائي قد جمع كتابا في خصائص علي ابن أبي طالب ولم يذكره، وكذلك لم يروه الحاكم في مستدركه، وكلاهما ينسب إلى شيء من التشيع، ولا رواه من رواه من الناس المعتبرين إلا على سبيل الاستغراب والتعجب، وكيف يقع مثل هذا نهارا جهرة وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، ثم لا يروى إلا من طرق ضعيفة منكرة وأكثرها مركبة موضوعة، وأجود ما فيها ما قدمناه من طريق أحمد بن صالح المصري عن ابن أبي فديك، عن محمد بن موسى الفطري، عن عون بن محمد، عن أمه أم جعفر، عن أسماء على ما فيها من التعليل الذي أشرنا إليه فيما سلف، وقد اغتر بذلك أحمد بن صالح رحمه الله ومال إلى صحته، ورجح ثبوته.
قال الطحاوي في كتابه مشكل الحديث عن علي بن عبد الرحمن، عن أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول: لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء في رد الشمس لأنه من علامات النبوة.
وهكذا مال إليه أبو جعفر الطحاوي أيضا فيما قيل.
ونقل أبو القاسم الحسكاني هذا عن أبي عبد الله البصري المتكلم المعتزلي أنه قال: عود الشمس بعد مغيبها آكد حالا فيما يقتضي نقله، لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين فإنه من أعلام النبوة، وهو مقارن لغيره في فضائله في كثير من أعلام النبوة.
وحاصل هذا الكلام يقتضي أنه كان ينبغي أن ينقل هذا نقلا متواترا، وهذا حق لو كان الحديث صحيحا، ولكنه لم ينقل كذلك، فدل على أنه ليس بصحيح في نفس الأمر، والله أعلم.
قلت: والأئمة في كل عصر ينكرون صحة هذا الحديث ويردونه، ويبالغون في التشنيع على رواته، كما قدمنا عن غير واحد من الحفاظ: كمحمد، ويعلى بن عبيد الطنافسيين، وكإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه، وكالحافظ أبي القاسم بن عساكر، والشيخ أبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، وممن صرح بأنه موضوع شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي، والعلامة أبو العباس ابن تيمية.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، ثنا عبد الله بن الحسين بن موسى، ثنا عبد الله بن علي بن المديني قال: سمعت أبي يقول: خمسة أحاديث يروونها ولا أصل لها عن رسول الله ﷺ: حديث لو صدق السائل ما أفلح من رده، وحديث لا وجع إلا وجع العين، ولا غم إلا غم الدين، وحديث أن الشمس ردت على علي ابن أبي طالب، وحديث أنا أكرم على الله من أن يدعني تحت الأرض مائتي عام، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم إنهما كانا يغتابان.
والطحاوي رحمه الله وإن كان قد اشتبه عليه أمره، فقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله إنكاره، والتهكم بمن رواه.
قال أبو العباس بن عقدة: ثنا جعفر بن محمد بن عمير، ثنا سليمان بن عباد سمعت بشار بن دراع قال: لقي أبو حنيفة محمد بن النعمان فقال: عمن رويت حديث رد الشمس؟
فقال: عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل.
فهذا أبو حنيفة رحمه الله وهو من الأئمة المعتبرين، وهو كوفي لا يتهم على حب علي ابن أبي طالب، وتفضيله بما فضله الله به ورسوله، وهو مع هذا منكر على راويه، وقول محمد بن النعمان له ليس بجواب بل مجرد معارضة بما لا يجدي، أي: أنا رويت في فضل علي هذا الحديث، وهو وإن كان مستغربا فهو في الغرابة نظير ما رويته أنت في فضل عمر بن الخطاب في قوله: يا سارية الجبل، وهذا ليس بصحيح، من محمد ابن النعمان فإن هذا ليس كهذا، إسنادا ولا متنا، وأين مكاشفة إمام قد شهد الشارع له بأنه محدث بأمر خبر من رد الشمس طالعة بعد مغيبها الذي هو أكثر علامات الساعة؟ والذي وقع ليوشع بن نون ليس ردا للشمس عليه، بل حبست ساعة قبل غروبها بمعنى تباطأت في سيرها حتى أمكنهم الفتح، والله تعالى أعلم.
وتقدم ما أورده هذا النص من طرق هذا الحديث عن علي، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأسماء بنت عميس، وقد وقع في كتاب أبي بشر الدولابي في الذرية الطاهرة من حديث الحسين بن علي، والظاهر أنه عنه عن أبي سعيد الخدري كما تقدم، والله أعلم.
وقد قال شيخ الرافضة جمال الدين يوسف بن الحسن الملقب بابن المطهر الحلي في كتابه في الإمامة الذي رد عليه فيه شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية.
قال ابن المطهر: التاسع من رجوع الشمس مرتين: إحداهما في زمن النبي ﷺ، والثانية بعده.
أما الأولى: فروى جابر، وأبو سعيد أن رسول الله ﷺ نزل عليه جبريل يوما يناجيه من عنده الله، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المؤمنين، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، فصلى علي العصر بالإيماء، فلما استيقظ رسول الله ﷺ قال له: سل الله أن يرد عليك الشمس فتصلي قائما، فدعا فردت الشمس، فصلى العصر قائما.
وأما الثانية: فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل، اشتغل كثير من الصحابة بدوابهم، وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفات كثير منهم فتكلموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت.
قال: وقد نظمه الحميري فقال:
ردت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هوي الكوكب
وعليه قد ردت ببابل مرة * أخرى وما ردت لخلق مقرب
قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: فضل علي وولايته وعلو منزلته عند الله معلوم، ولله الحمد بطرق ثابتة، أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى ما لا يعلم صدقه، أو يعلم أنه كذب، وحديث رد الشمس قد ذكره طائفة كأبي جعفر الطحاوي، والقاضي عياض وغيرهما، وعدوا ذلك من معجزات رسول الله ﷺ، لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع.
ثم أورد طرقه واحدة واحدة كما قدمنا، وناقش أبا القاسم الحسكاني فيما تقدم، وقد أوردنا كل ذلك وزدنا عليه ونقصنا منه، والله الموفق، واعتذر عن أحمد بن صالح المصري في تصحيحه هذا الحديث بأنه اغتر بسنده، وعن الطحاوي بأنه لم يكن عنده نقل جيد للأسانيد كجهابذة الحفاظ وقال في عيون كلامه: والذي يقطع به أنه كذب مفتعل.
قلت: وإيراد ابن المطهر لهذا الحديث من طريق جابر غريب، ولكن لم يسنده، وفي سياقه ما يقتضي أن عليا هو الذي دعا برد الشمس في الأولى، والثانية، وأما إيراده لقصة بابل فليس لها إسناد، وأظنه والله أعلم من وضع الشيعة ونحوهم، فإن رسول الله ﷺ وأصحابه يوم الخندق قد غربت عليهم الشمس ولم يكونوا صلوا العصر، بل قاموا إلى بطحان وهو واد هناك فتوضئوا، وصلوا العصر بعد ما غربت الشمس، وكان علي أيضا فيهم ولم ترد لهم، وكذلك كثير من الصحابة الذين ساروا إلى بني قريظة فاتتهم العصر يومئذ حتى غربت الشمس ولم ترد لهم، وكذلك لما نام رسول الله ﷺ وأصحابه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس صلوها بعد ارتفاع النهار ولم يرد لهم الليل، فما كان الله عز وجل ليعطي عليا وأصحابه شيئا من الفضائل لم يعطها رسول الله ﷺ وأصحابه.
وأما نظم الحميري فليس فيه حجة، بل هو كهذيان ابن المطهر، هذا لا يعلم ما يقول من النثر، وهذا لا يدري صحة ما ينظم، بل كلاهما كما قال الشاعر:
إن كنت أدري فعلى بدنه * من كثرة التخليط أني من أنه
والمشهور عن علي في أرض بابل ما رواه أبو داود رحمه الله في سننه عن علي أنه مر بأرض بابل وقد حانت صلاة العصر، فلم يصل حتى جاوزها وقال: نهاني خليلي ﷺ أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة.
وقد قال أبو محمد بن حزم في كتابه الملل والنحل - مبطلا لرد الشمس على علي، بعد كلام ذكره رادا على من ادعى باطلا من الأمر - فقال: ولا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل، وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي ابن أبي طالب مرتين، حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال:
فردت علينا الشمس والليل راغم * بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى * لبهجتها نور السماء المرجع
فوالله ما أدري علي بدا لنا فردت * له أم كان في القوم يوشع
هكذا أورده ابن حزم في كتابه، وهذا الشعر تظهر عليه الركة والتركيب، وأنه مصنوع، والله أعلم.
ومما يتعلق بالآيات السماوية في باب دلائل النبوة استسقاؤه - عليه السلام ربه - عز وجل - لأمته حين تأخر المطر، فأجابه إلى سؤاله سريعا بحيث لم ينزل عن منبره إلا والمطر يتحادر على لحيته -عليه السلام -، وكذلك استصحاؤه.
قال البخاري: ثنا عمرو بن علي، ثنا أبو قتيبة، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال البخاري: وقال أبو عقيل الثقفي عن عمرو بن حمزة، ثنا سالم عن أبيه: ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه رسول الله ﷺ يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب تفرد به البخاري، وهذا الذي علقه قد أسنده ابن ماجه في سننه فرواه عن أحمد بن الأزهر، عن أبي النضر، عن أبي عقيل، عن عمر بن حمزة، عن سالم، عن أبيه.
وقال البخاري: ثنا محمد - هو ابن سلام - ثنا أبو ضمرة، ثنا شريك بن عبد الله ابن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يذكر أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله ﷺ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله ﷺ قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله لنا يغيثنا.
قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه فقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».
قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار.
قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت.
قال: والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله ﷺ قائم يخطب، فاستقبله قائما وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، ادع الله يمسكها.
قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال، والظراب، ومنابت الشجر ».
قال: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس.
قال شريك: فسألت أنسا أهو الرجل الذي سأل أولا؟
قال: لا أدري.
وهكذا رواه البخاري أيضا، ومسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن شريك به.
وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا أبو عوانة عن قتادة، عن أنس قال: بينما رسول الله ﷺ يخطب يوم جمعة إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله قحط المطر، فادع الله أن يسقينا، فدعا، فمطرنا فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة.
قال: فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله ادع الله أن يصرفه عنا.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
قال: فلقد رأيت السحاب ينقطع يمينا، وشمالا، يمطرون ولا يمطر أهل المدينة.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: هلكت المواشي، وتقطعت السبل فادع الله، فدعا فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة.
ثم جاء فقال: تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فادع الله أن يمسكها.
فقال: « اللهم على الآكام والظراب، والأودية ومنابت الشجر »
فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.
وقال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، ثنا عبد الله، ثنا الأوزاعي، ثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة الأنصاري، حدثني أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله ﷺ فبينا رسول الله ﷺ يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا.
قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه، وما في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته.
قال: فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره - فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا.
فرفع رسول الله ﷺ يديه فقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
قال: فما جعل رسول الله ﷺ يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوية، وسال الوادي - قناة - شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ورواه البخاري: أيضا في الجمعة، ومسلم من حديث الوليد عن الأوزاعي.
وقال البخاري: وقال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال قال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس بن مالك قال: أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله ﷺ يوم الجمعة فقال: يا رسول الله هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس.
فرفع رسول الله ﷺ يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله ﷺ يدعون.
قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى.
فأتى الرجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله بشق المسافر، ومنع الطريق.
قال البخاري: وقال الأويسي - يعني: عبد الله -: حدثني محمد بن جعفر - هو ابن كثير - عن يحيى بن سعيد وشريك سمعا أنسا عن النبي ﷺ رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.
هكذا علق هذين الحديثين، ولم يسندهما أحد من أصحاب الكتب الستة بالكلية.
وقال البخاري: ثنا محمد ابن أبي بكر قال: حدثنا معتمر عن عبيد الله، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا: يا رسول الله قحط المطر، واحمرت الشجر، وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا.
فقال: « اللهم اسقنا » مرتين، وأيم الله ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة وأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها.
فلما قام النبي ﷺ يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله يحبسها عنا.
قال: فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا » فتكشطت المدينة فجعلت تمطر حولها، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وأنها لفي مثل الإكليل.
وقد رواه مسلم من حديث معتمر بن سليمان عن عبيد الله - وهو ابن عمر العمري - به وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد قال: سئل أنس هل كان رسول الله ﷺ يرفع يديه؟
فقال: قيل له يوم الجمعة: يا رسول الله قحط المطر، وأجدبت الأرض، وهلك المال.
قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه فاستسقى، ولقد رفع يديه فاستسقى، ولقد رفع يديه وما نرى في السماء سحابة، فما قضينا الصلاة حتى أن الشاب قريب الدار ليهمه الرجوع إلى أهله.
قال: فلما كانت الجمعة التي تليها قالوا: يا رسول الله تهدمت البيوت، واحتبست الركبان.
فتبسم رسول الله - ﷺ - من سرعة ملالة ابن آدم وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
قال: فتكشطت عن المدينة، وهذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجوه.
وقال البخاري، وأبو داود واللفظ له: ثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، وعن يونس بن عبيد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله ﷺ، فبينا هو يخطب يوم جمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلكت الكراع، هلكت الشاء، فادع الله يسقينا.
فمد يده ودعا قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت الريح أنشأت سحابا ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عزاليها، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل - أو غيره - فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت، فادع الله يحبسه، فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: « حوالينا ولا علينا » فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة، كأنه إكليل.
فهذه طرق متواترة، عن أنس بن مالك، لأنها تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن.
وقال البيهقي بإسناده من غير وجه إلى أبي معمر سعيد ابن أبي خيثم الهلالي عن مسلم الملائي، عن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله والله لقد أتيناك وما لنا بعير يبسط ولا صبي يصطبح، وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمي لبانها * وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى لاستكانة * من الجوع ضعفا قائما وهو لا يخلي
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
قال: فقام رسول الله ﷺ وهو يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم رفع يديه نحو السماء وقال: « اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا سريعا، غدقا طبقا، عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون ».
قال: فوالله ما رد يده إلى نحره حتى ألقت السماء بأوراقها، وجاء أهل البطانة يصيحون: يا رسول الله الغرق الغرق، فرفع يديه إلى السماء وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل، فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه ثم قال: « لله در أبي طالب لو كان حيا قرت عيناه، من ينشد قوله؟ »
فقام علي ابن أبي طالب فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله:
وأبيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله يبزى محمد * ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
قال: وقام رجل من بني كنانة فقال:
لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة * إليه وأشخص منه البصر
فلم يك إلا كلف الرداء * وأسرع حتى رأينا الدرر
رقاق العوالي عم البقاع * أغاث به الله عينا مضر
وكان كما قاله عمه * أبو طالب أبيض ذو غرر
به الله يسقي بصوب الغمام * وهذا العيان كذاك الخبر
فمن يشكر الله يلقى المزيد * ومن يكفر الله يلقى الغير
قال: فقال رسول الله ﷺ: « إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت ».
وهذا السياق فيه غرابة، ولا يشبه ما قدمنا من الروايات الصحيحة المتواترة عن أنس فإن كان هذا هكذا محفوظا فهو قصة أخرى غير ما تقدم، والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو بكر ابن الحارث الأصبهاني، ثنا أبو محمد ابن حبان، ثنا عبد الله بن مصعب، ثنا عبد الجبار، ثنا مروان بن معاوية، ثنا محمد ابن أبي ذئب المدني عن عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب الجمحي، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السلمي قال: لما قفل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك، أتاه وفد بني فزارة فيهم بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن الحصين، والحر بن قيس - وهو أصغرهم - ابن أخي عيينة بن حصن، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل ضعاف عجاف وهم مسنتون، فأتوا رسول الله ﷺ مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله ﷺ عن بلادهم.
قالوا: يا رسول الله أسنتت بلادنا وأجدبت أحياؤنا، وعريت عيالنا، وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك.
فقال رسول الله ﷺ: « سبحان الله، ويلك هذا ما شفعت إلى ربي فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا الله وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرجل الجديد ».
قال رسول الله ﷺ « إن الله يضحك من شفقتكم وأزلكم وقرب غياثكم ».
فقال الأعرابي: ويضحك ربنا يا رسول الله؟
قال: نعم!
فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرا.
فضحك رسول الله ﷺ من قوله، فقام رسول الله ﷺ فصعد المنبر، وتكلم بكلام ورفع يديه - وكان رسول الله ﷺ لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء - ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: « اللهم اسق بلدك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا مريعا، طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، ولا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء ».
فقام أبو لبابة ابن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا ».
فقال أبو لبابة: التمر في المرابد ثلاث مرات.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا فيسد ثعلب مربده بإزاره ».
قال: فلا والله ما في السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت وهم ينظرون ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس ستا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.
فقال رجل: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل.
فصعد النبي ﷺ المنبر فدعا ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر ».
فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب، وهذا السياق يشبه سياق مسلم الملائي عن أنس.
ولبعضه شاهد في سنن أبي داود، وفي حديث أبي رزين العقيلي شاهد لبعضه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن علي بن المؤمل، أنا أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ، أنا عبد الرحمن ابن أبي حاتم، ثنا محمد بن حماد الظهراني، أنا سهل بن عبد الرحمن المعروف بالسدي بن عبدويه عن عبد الله بن عبد الله ابن أبي أويس المدني، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي لبابة، عن عبد المنذر الأنصاري قال: استسقى رسول الله ﷺ يوم الجمعة وقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».
فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد وما في السماء من سحاب نراه.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا ».
فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة يسد ثعلب مربدة بإزاره ».
فاستهلت السماء أمطرت، وصلى بنا رسول الله ﷺ فأتى القوم أبا لبابة يقولون له: يا أبا لبابة إن السماء والله لن تقلع حتى تقوم عريانا فتسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله ﷺ.
قال: فقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره فأقلعت السماء.
وهذا إسناد حسن، ولم يروه أحمد، ولا أهل الكتب، والله أعلم.
وقد وقع مثل هذا الاستسقاء في غزوة تبوك في أثناء الطريق، كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة.
فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يجده حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده.
فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا.
فقال: « أوتحب ذلك؟ ».
قال: نعم!
قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وهذا إسناد جيد قوي، ولم يخرجوه.
وقد قال الواقدي: كان مع المسلمين في هذه الغزوة إثنا عشر ألف بعير، ومثلها من الخيل، وكانوا ثلاثين ألفا من المقاتلة قال: ونزل من المطر ماء أغدق الأرض حتى صارت الغدران تسكب بعضها في بعض، وذلك في حمأة القيظ - أي شدة الحر البليغ - فصلوات الله وسلامه عليه، وكم له عليه السلام من مثل هذا في غير ما حديث صحيح ولله الحمد، وقد تقدم أنه لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعا كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز، ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم.
وقد قال البخاري: ثنا الحسن بن محمد، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.
قال: فيسقون.
تفرد به البخاري.