البداية والنهاية/الجزء السادس/باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة
قصة البعير الناد وسجوده له، وشكواه إليه.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، ثنا خلف بن خليفة عن حفص - هو ابن عمر - عن عمه أنس بن مالك قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل.
فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: « قوموا » فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته، فمشى النبي ﷺ نحوه.
فقالت الأنصار: يا رسول الله إنه قد صار مثل الكلب الكلب وإنا نخاف عليك صولته.
فقال: « ليس علي منه بأس ».
فلما نظر الجمل إلى رسول الله ﷺ أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله ﷺ بناصيته أذل ما كانت قط حتى أدخله في العمل.
فقال له أصحابه: يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن أحق أن نسجد لك.
فقال: « لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تتفجر بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه ».
وهذا إسناد جيد، وقد روى النسائي بعضه من حديث خلف بن خليفة به.
رواية جابر في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام سمعته من أبي مرتين، ثنا الأجلح عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من سفر حتى إذا دفعنا إلى حائط من حيطان بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، قال: فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير فجاء واضعا مشفره إلى الأرض حتى برك بين يديه.
قال: فقال رسول الله ﷺ: « هاتوا خطاما » فخطمه ودفعه إلى صاحبه.
قال: ثم التفت إلى الناس فقال: « إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس ».
تفرد به الإمام أحمد، وسيأتي عن جابر من وجه أخر، بسياق آخر إن شاء الله، وبه الثقة.
رواية ابن عباس:
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا بشر بن موسى، ثنا يزيد بن مهران أخو خالد الجيار، ثنا أبو بكر ابن عياش عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن ابن عباس قال: جاء قوم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إن لنا بعيرا قد ند في حائط.
فجاء إليه رسول الله ﷺ فقال: « تعال » فجاء مطأطئا رأسه حتى خطمه، وأعطاه أصحابه.
فقال له أبو بكر الصديق: يا رسول الله كأنه علم أنك نبي.
فقال رسول الله ﷺ: « ما بين لابتيها أحد إلا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس ».
وهذا من هذا الوجه عن ابن عباس غريب جدا، والأشبه رواية الإمام أحمد عن جابر، اللهم إلا أن يكون الأجلح قد رواه عن الذيال عن جابر عن ابن عباس، والله أعلم.
طريق أخرى عن ابن عباس:
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا أبو عون الزيادي، ثنا أبو عزة الدباغ عن أبي يزيد المديني، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار كان له فحلان فاغتلما فأدخلهما حائطا فسد عليهما الباب، ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فأراد أن يدعو له، والنبي قاعد معه نفر من الأنصار.
فقال: يا نبي الله إني جئت في حاجة فإن فحلين لي اغتلما، وإني أدخلتهما حائطا وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما الله لي.
فقال لأصحابه: « قوموا معنا » فذهب حتى أتى الباب فقال: « افتح » فأشفق الرجل على النبي ﷺ.
فقال: إفتح ففتح الباب فإذا أحد الفحلين قريبا من الباب فلما رأى رسول الله ﷺ سجد له.
فقال رسول الله: « إئت بشيء أشد رأسه وأمكنك منه » فجاء بخطام فشد رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر فلما رآه وقع له ساجدا.
فقال للرجل: « إئتني بشيء أشد رأسه » فشد رأسه وأمكنه منه.
فقال: « إذهب فإنهما لا يعصيانك ».
فلما رأى أصحاب رسول الله ﷺ ذلك قالوا: يا رسول الله هذان فحلان سجدا لك أفلا نسجد لك؟
قال: « لا آمر أحدا أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».
وهذا إسناد غريب، ومتن غريب.
ورواه الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه دلائل النبوة عن أحمد بن حمدان السحري، عن عمر بن محمد بن بجير البحتري، عن بشر بن آدم، عن محمد بن عون أبي عون الزيادي به.
وقد رواه أيضا من طريق مكي بن إبراهيم عن قائد أبي الورقاء، عن عبد الله ابن أبي أوفى، عن النبي ﷺ بنحو ما تقدم، عن ابن عباس.
رواية أبي هريرة:
قال أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه: أخبرنا أحمد بن حمدان، أنا عمر بن محمد بن بجير، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: انطلقنا مع رسول الله ﷺ إلى ناحية، فأشرفنا إلى حائط فإذا نحن بناضح فلما أقبل الناضح رفع رأسه فبصر برسول الله ﷺ فوضع جرانه على الأرض.
فقال أصحاب رسول الله ﷺ: فنحن أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة.
فقال: « سبحان الله أدون الله؟ ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله، ولو أمرت أحد أن يسجد لشيء من دون الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».
رواية عبد الله بن جعفر في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا مهدي بن ميمون عن محمد ابن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر.
ح، وثنا بهز وعفان قالا: ثنا مهدي، ثنا محمد ابن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا لا أخبر به أحدا أبدا، وكان رسول الله ﷺ أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، فدخل يوما حائطا من حيطان الأنصار فأتى جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه.
وقال بهز وعفان: فلما رأى رسول الله حن وذرفت عيناه فمسح رسول الله سراته وذفراه فسكن فقال: « من صاحب الجمل؟ »
فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله.
فقال: « أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله لك إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه ».
وقد رواه مسلم من حديث مهدي بن ميمون به.
رواية عائشة أم المؤمنين في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد وعفان قالا: ثنا حماد - هو ابن سلمة - عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له.
فقال أصحابه: يا رسول الله تسجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك.
فقال: « اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبل أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أبيض كان ينبغي لها أن تفعله ».
وهذا الإسناد على شرط السنن.
وإنما روى ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد به: « لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » إلى آخره.
رواية يعلى بن مرة الثقفي أو هي قصة أخرى:
قال الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة الخزاعي، ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن حبيب ابن أبي جبيرة، عن يعلى بن سيابة قال: كنت مع النبي ﷺ في مسير له فأراد أن يقضي حاجته فأمر وديتين فانضمت إحداهما إلى الأخرى، ثم أمرهما فرجعتا إلى منابتهما، وجاء بعير فضرب بجرانه إلى الأرض ثم جرجر حتى ابتل ما حوله.
فقال رسول الله -ﷺ -: « أتدرون ما يقول البعير؟ إنه يزعم أن صاحبه يريد نحره ».
فبعث إليه رسول الله ﷺ فقال: « أواهبه أنت لي؟ »
فقال: يا رسول الله مالي مال أحب إلي منه.
فقال: « استوص به معروفا ».
فقال: لا جرم لا أكرم مالا لي كرامته يا رسول الله.
قال: وأتى على قبر يعذب صاحبه.
فقال: « إنه يعذب في غير كبير » فأمر بجريدة فوضعت على قبره وقال: « عسى أن يخفف عنه ما دامت رطبة ».
طريق أخرى عنه:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن جعفر، عن يعلى بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله ﷺ: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه، فوقف عليه النبي ﷺ فقال: « أين صاحب هذا البعير؟ »
فجاء فقال: « بعنيه »
فقال: لا بل أهبه لك.
فقال: « لا بل بعنيه ».
قال: لا بل نهبه لك إنه لأهل بيت مالهم معيشة غيره.
قال: « أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكى لكثرة العمل، وقلة العلف فأحسنوا إليه ».
قال: ثم سرنا فنزلنا منزلا فنام رسول الله ﷺ فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له فقال: « هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم على رسول الله ﷺ فأذن لها ».
قال: فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة فأخذ النبي ﷺ بمنخره فقال: « أخرج إني محمد رسول الله ».
قال: ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته امرأة بجزر ولبن، فأمرها أن ترد الجزر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبي.
فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك.
طريق أخرى عنه:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نمير، ثنا عثمان بن حكيم، أخبرني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن يعلى بن مرة قال: لقد رأيت رسول الله ﷺ ثلاثا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي: لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة.
قال: « ناولينيه » فرفعته إليه فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا وقال: « بسم الله أنا عبد الله إخسأ عدو الله » ثم ناولها إياه.
فقال: « إلقينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل ».
قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث.
فقال: « ما فعل صبيك؟ »
فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة فاجترر هذه الغنم.
قال: « إنزل فخذ منها واحدة ورد البقية ».
قال: وخرجت ذات يوم إلى الجبانة حتى إذا برزنا قال: « ويحك انظر هل ترى من شيء يواريني؟ »
قلت: ما أرى شيئا يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك.
قال: « فما بقربها؟ »
قلت: شجرة مثلها، أو قريب منها.
قال: « فاذهب إليهما فقل: إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا بإذن الله ».
قال: فاجتمعتا فبرز لحاجته، ثم رجع فقال: « اذهب إليهما فقل لهما: إن رسول الله يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها » فرجعت.
قال: وكنت معه جالسا ذات يوم إذ جاء جمل نجيب حتى صوى بجرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه فقال: « ويحك أنظر لمن هذا الجمل، إن له لشأنا؟ »
قال: فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إليه.
فقال: « ما شأن الجمل هذا؟ »
فقال: وما شأنه؟
قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه.
قال: « فلا تفعل هبه لي أو بعنيه »
قال: بل هو لك يا رسول الله، فوسمه بسمة الصدقة، ثم بعث به.
طريق أخرى عنه:
قال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا الأعمش بن المنهال عن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن النبي ﷺ أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم.
فقال رسول الله ﷺ: « أخرج عدو الله، أنا رسول الله ».
قال: فبرأ، فأهدت إليه كبشين وشيئا من أقط، وشيئا من سمن.
قال: فقال رسول الله: « خذ الأقط والسمن وأحد الكبشين، ورد عليها الآخر ».
ثم ذكر قصة الشجرتين كما تقدم.
وقال أحمد: ثنا أسود، ثنا أبو بكر ابن عياش عن حبيب ابن أبي عمرة، عن المنهال بن عمرو، عن يعلى قال: ما أظن أن أحدا من الناس رأى رسول الله ﷺ إلا دون ما رأيت، فذكر أمر الصبي، والنخلتين، وأمر البعير إلا أنه قال: « ما لبعيرك يشكوك؟ زعم أنك سانيه حتى إذا كبر تريد نحره »
قال: صدقت والذي بعثك بالحق، قد أردت ذلك والذي بعثك بالحق لا أفعل.
طريق أخرى عنه:
روى البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، ثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا حمدان بن الأصبهاني، ثنا يزيد عن عمرو بن عبد الله بن يعلى بن مرة، عن أبيه، عن جده قال: رأيت من رسول الله ﷺ ثلاثة أشياء ما رآها أحد قبلي: كنت معه في طريق مكة فمر بامرأة معها ابن لها به لمم ما رأيت لمما أشد منه.
فقالت: يا رسول الله ابني هذا كما ترى.
فقال: « إن شئت دعوت له » فدعا له.
ثم مضى فمر على بعير ناد جرانه يرغو فقال: « علي بصاحب هذا البعير » فجيء به فقال: « هذا يقول: نتجت عندهم فاستعملوني حتى إذا كبرت عندهم أرادوا أن ينحروني ».
قال: ثم مضى ورأى شجرتين متفرقتين فقال لي: « إذهب فمرهما فليجتمعا لي ».
قال: فاجتمعتا فقضى حاجته.
قال: ثم مضى، فلما انصرف مر على الصبي وهو يلعب مع الغلمان وقد ذهب ما به وهيأت أمه أكبشا فأهدت له كبشين وقالت: ما عاد إليه شيء من اللمم.
فقال النبي ﷺ: « ما من شيء إلا ويعلم أني رسول الله إلا كفرة أو فسقة الجن والإنس ».
فهذه طرق جيدة متعددة تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين، أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة، وقد تفرد بهذا كله الإمام أحمد دون أصحاب الكتب الستة، ولم يرو أحد منهم شيئا سوى ابن ماجه فإنه روى عن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن يحيى بن سليم، عن خيثم، عن يونس بن خباب، عن يعلى بن مرة أن رسول الله ﷺ كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد.
وقد اعتنى الحافظ أبو نعيم بحديث البعير في كتابه: دلائل النبوة وطرقه من وجوه كثيرة، ثم أورد حديث عبد الله بن قرط اليماني قال: جيء رسول الله ﷺ بست زود فجعلن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ.
وقد قدمت الحديث في حجة الوداع.
قلت: قد أسلفنا عن جابر بن عبد الله نحو قصة الشجرتين، وذكرنا آنفا عن غير واحد من الصحابة نحوا من حديث الجمل لكن بسياق يشبه أن يكون غير هذا، فالله أعلم.
وسيأتي حديث الصبي الذي كان يصرع ودعاؤه عليه السلام له وبرؤه في الحال من طرق أخرى.
وقد روى الحافظ البيهقي عن أبي عبد الله الحاكم وغيره، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: خرجت مع رسول الله ﷺ في سفر، وكان رسول الله ﷺ إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه أحد فنزلنا منزلا بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر.
فقال لي: يا جابر خذ الأداوة وانطلق بنا، فملأت الأداوة ماء وانطلقنا فمشينا حتى لا نكاد نرى فأتى شجرتان بينهما أذرع فقال رسول الله ﷺ: « يا جابر انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله: الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما » ففعلت فرجعت فلحقت بصاحبتها فجلس خلفها حتى قضى حاجته، ثم رجعنا فركبنا رواحلنا فسرنا كأنما على رؤسنا الطير تظلنا، وإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات لا يدعه، فوقف رسول الله ﷺ فتناوله فجعله بينه وبين مقدمة الرحل فقال: « إخسأ عدو الله، أنا رسول الله » وأعاد ذلك ثلاث مرات ثم ناولها إياه، فلما رجعنا وكنا بذلك الماء عرضت لنا تلك المرأة ومعها كبشان تقودهما والصبي تحمله.
فقالت: يا رسول الله إقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق إن عاد إليه بعد.
فقال رسول الله ﷺ: « خذوا أحدهما وردوا الآخر ».
قال: ثم سرنا ورسول الله ﷺ بيننا فجاء جمل ناد فلما كان بين السماطين خر ساجدا.
فقال رسول الله ﷺ: « يا أيها الناس من صاحب هذا الجمل؟ »
فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله.
قال: « فما شأنه؟ »
قالوا: سنونا عليه منذ عشرين سنة، فلما كبرت سنه وكانت عليه شحيمة أردنا نحره لنقسمه بين غلمتنا.
فقال رسول الله ﷺ: « تبيعونيه؟ »
قالوا: يا رسول الله هو لك.
قال: « فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله ».
قالوا: يا رسول الله نحن أحق أن نسجد لك من البهائم.
فقال رسول الله ﷺ: « لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن ».
وهذا إسناد جيد رجاله ثقات.
وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث إسماعيل بن عبد الملك ابن أبي الصفراء عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله كان إذا ذهب المذهب أبعد.
ثم قال البيهقي: وحدثنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا الحسين بن علي بن زياد، ثنا أبو حمنة، ثنا أبو قرة عن زياد - هو ابن سعد - عن أبي الزبير أنه سمع يونس بن خباب الكوفي يحدث أنه سمع أبا عبيدة يحدث: عن عبد الله بن مسعود، عن النبي ﷺ أنه كان في سفر إلى مكة فذهب إلى الغائط وكان يبعد حتى لا يراه أحد.
قال: فلم يجد شيئا يتوارى به، فبصر بشجرتين، فذكر قصة الشجرتين، وقصة الجمل بنحو من حديث جابر.
قال البيهقي: وحديث جابر أصح.
قال: وهذه الرواية ينفرد بها زمعة بن صالح، عن زياد - أظنه ابن سعد - عن أبي الزبير.
قلت: وقد يكون هذا أيضا محفوظا ولا ينافي حديث جابر ويعلى بن مرة بل يشهد لهما، ويكون هذا الحديث عند أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر، وعن يونس بن خباب، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، والله أعلم.
وروى البيهقي من حديث معاوية بن يحيى الصيرفي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أسامة بن زيد حديثا طويلا نحو سياق حديث يعلى بن مرة، وجابر بن عبد الله، وفيه قصة الصبي الذي كان يصرع ومجيء أمه بشاة مشوية فقال: « ناوليني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « ناوليني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « ناوليني الذراع ».
فقلت: كم للشاة من ذراع؟
فقال: « والذي نفسي بيده لو سكت لناولتيني ما دعوت ».
ثم ذكر قصة النخلات واجتماعهما وانتقال الحجارة معهما حتى صارت الحجارة رجما خلف النخلات، وليس في سياقه قصة البعير فلهذا لم يورده بلفظه وإسناده، وبالله المستعان.
وقد روى الحافظ ابن عساكر ترجمة غيلان بن سلمة الثقفي بسنده إلى يعلى بن منصور الرازي عن شبيب بن شيبة، عن بشر بن عاصم، عن غيلان بن سلمة قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ فرأينا عجبا، فذكر قصة الشجرتين واستتاره بهما عند الخلاء، وقصة الصبي الذي كان يصرع وقوله: « بسم الله أنا رسول الله أخرج عدو الله » فعوفي، ثم ذكر قصة البعيرين النادين وأنهما سجدا له بنحو ما تقدم في البعير الواحد فلعل هذه قصة أخرى، والله أعلم.
وقد ذكرنا فيما سلف حديث جابر وقصة جمله الذي كان قد أعيي وذلك مرجعهم من تبوك، وتأخره في أخريات القوم فلحقه النبي ﷺ فدعا له وضربه فسار سيرا لم يسر مثله حتى جعل يتقدم أمام الناس.
وذكرنا شراءه عليه السلام منه، وفي ثمنه اختلاف كثير وقع من الرواة لا يضر أصل القصة كما بيناه.
وتقدم حديث أنس في ركوبه عليه السلام على فرس أبي طلحة حين سمع صوتا بالمدينة فركب ذلك الفرس وكان يبطئ، وركب الفرسان نحو ذلك الصوت فوجدوا رسول الله ﷺ قد رجع بعد ما كان كشف ذلك الأمر فلم يجد له حقيقة، وكان قد ركبه عريا لا شيء عليه وهو متقلد سيفا فرجع وهو يقول: « لن تراعوا، لن تراعوا، ما وجدنا من شيء، وإن وجدناه لبحرا ».
أي: لسابقا وكان ذلك الفرس يبطأ قبل تلك الليلة فكان بعد ذلك لا يجارى ولا يكشف له غبار، وذلك كله ببركته عليه الصلاة والسلام.
حديث آخر غريب في قصة البعير:
قال الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه دلائل النبوة - وهو مجلد كبير حافل كثير الفوائد -: أخبرني أبو علي الفوارسي، حدثنا أبو سعيد عن عبد العزيز بن شهلان القواس، حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن خالد الراسبي، حدثنا عبد الرحمن بن علي البصري، حدثنا سلامة بن سعيد بن زياد ابن أبي هند الرازي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، حدثنا غنيم بن أوس - يعني: الرازي - قال: كنا جلوسا مع رسول الله ﷺ إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على رسول الله ﷺ فزعا.
فقال رسول الله ﷺ: « أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، مع أن الله تعالى قد أمن عائذنا، ولا يخاف لائذنا ».
قلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟
قال: « هذا بعير هم أهله بنحره فهرب منهم، فاستغاث بنبيكم ».
فبينا نحن كذلك إذ أقبل أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله ﷺ.
فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منا منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك.
فقال رسول الله ﷺ: « يشكو مر الشكاية ».
فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟
قال: « يقول: إنه ربي في إبلكم جوارا وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء رحلتم إلى موضع الدفء ».
فقالوا: قد كان ذلك يا رسول الله.
فقال: ما جزاء العبد الصالح من مواليه؟
قالوا: يا رسول الله فإنا لا نبيعه ولا ننحره.
قال: « فقد استغاث فلم تغيثوه وأنا أولى بالرحمة منكم لأن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين وأسكنها في قلوب المؤمنين ».
فاشتراه النبي ﷺ بمائة درهم ثم قال: « أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه الله ».
فرغا على هامة رسول الله ﷺ.
فقال رسول الله: « آمين ».
ثم رغا الثانية.
فقال: « آمين ».
ثم رغا الثالثة.
فقال: « آمين ».
ثم رغا الرابعة، فبكى رسول الله ﷺ.
فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟
قال: يقول: جزاك الله أيها النبي عن الإسلام والقرآن خيرا.
قلت: « آمين ».
قال: سكن الله رعب أمتك يوم القيامة كما سكنت رعبي.
قلت: « آمين ».
قال: حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي.
قلت: « آمين ».
قال: لا جعل الله بأسها بينها.
فبكيت وقلت: « هذه خصال سألت ربي فأعطانيها ومنعني واحدة، وأخبرني جبريل عن الله أن فناء أمتك بالسيف فجرى القلم بما هو كائن ».
قلت: هذا الحديث غريب جدا لم أر أحدا من هؤلاء المصنفين في الدلائل أورده سوى هذا المصنف، وفيه غرابة ونكارة في إسناده ومتنه أيضا، والله أعلم.