البداية والنهاية/الجزء السابع/وفي هذه السنة أعني سنة ست وثلاثين
ولى علي بن أبي طالب نيابة الديار المصرية لقيس بن سعد بن عبادة، وكان على نيابتها في أيام عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلما توجه أولئك الأحزاب من خوارج المصريين إلى عثمان وكان الذي جهزهم إليه مع عبد الله بن سبأ المعروف: بابن السوداء محمد بن أبي حذيفة بن عتبة.
وكان لما قتل أبوه باليمامة أوصى به إلى عثمان، فكفله ورباه في حجره ومنزله وأحسن إليه إحسانا كثيرا، ونشأ في عبادة وزهادة، وسأل من عثمان أن يوليه عملا، فقال له: متى ما صرت أهلا لذلك وليتك.
فتعتب في نفسه على عثمان، فسأل من عثمان أن يخرج إلى الغزو فأذن له، فقصد الديار المصرية وحضر مع أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزوة الصواري كما قدمنا، وجعل ينتقص عثمان رضي الله عنه، وساعده على ذلك محمد بن أبي بكر.
فكتب بذلك ابن أبي سرح إلى عثمان يشكوهما إليه، فلم يعبأ بهما عثمان ولم يزل ذلك دأب محمد بن أبي حذيفة حتى استنفر أولئك إلى عثمان، فلما بلغه أنهم قد حصروا عثمان تغلب على الديار المصرية، وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وصلى بالناس فيها، فلما كان ابن أبي سرح ببعض الطريق جاءه الخبر بقتل أمير المؤمنين عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وبلغه أن عليا قد بعث على إمرة مصر قيس بن سعد بن عبادة، فشمت بمحمد بن أبي حذيفة، إذ لم يمتع بملك الديار المصرية سنة، وسار عبد الله بن سعد إلى الشام إلى معاوية فأخبره بما كان من أمره بديار مصر، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها، فسار معاوية وعمرو بن العاص ليخرجاه منها لأنه من أكبر الأعوان على قتل عثمان، مع أنه كان قد رباه وكفله وأحسن إليه، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا فلم يزالا يخدعانه حتى خرج إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها.
وجاء عمرو بن العاص فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا، ذكره محمد بن جرير.
ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بولاية من علي، فدخل مصر في سبعة نفر، فرقي المنبر وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
بسم الله الرحمن الرحيم! من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين.
سلام عليكم، فإني أحمد الله كثيرا الذي لا إله إلا هو.
أما بعد، فإن الله بحسن صنيعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده، وخص به من انتخب من خلقه.
فكان مما أكرم الله به هذه الآمة، وخصهم به من الفضيلة أن بعث محمدا ﷺ يعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما يتفرقوا، وزكاهم لكي يتطهروا، ووفقهم لكيلا يجوروا.
فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه، صلوات الله وسلامه عليه وبركاته ورحمته، ثم إن المسلمين استخلفوا بعده أميرين صالحين، عملا بالكتاب و السنة، وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة، ثم توفاهما الله فرحمهما الله.
ثم ولى بعدهما والٍ أحدث أحداثا، فوجدت الأمة عليه مقالا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيروا ﷺ ثم جاؤوني فبايعوني، فأستهدي الله بهداه، وأستعينه على التقوى، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، والقيام عليكم بحقه والنصح لكم بالغيب، والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة أميرا فوازروه، وكاتفوه، وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان على محسنكم، والشدة على مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم.
وهو ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته، أسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين قال: ثم قام قيس بن سعد فخطب الناس ودعاهم إلى البيعة لعلي، فقام الناس فبايعوه.
واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها: خربتا، فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان - وكانوا سادة الناس ووجوههم، وكانوا في نحو من عشرة آلاف وعليهم رجل يقال له: يزيد بن الحارث المدلجي -.
وبعثوا إلى قيس بن سعد فوادعهم، وكذلك مسلمة بن مدلج الأنصاري تأخر عن البيعة فتركه قيس بن سعد ووادعه، ثم كتب معاوية بن أبي سفيان - وقد استوثق له أمر الشام بحذافيره - إلى أقصى بلاد الروم والسواحل، وجزيرة قبرص أيضا تحت حكمه، وبعض بلاد الجزيرة كالرها وحران وقرقيسيا وغيرها، وقد ضوى إليها الذين هربوا يوم الجمل من العثمانية، وقد أراد الأشتر انتزاع هذه البلاد من يد نواب معاوية، فبعث إليه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ففر منه الأشتر.
واستقر أمر معاوية على تلك البلاد، فكتب إلى قيس بن سعد يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان، وأن يكون مؤازرا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تم له الأمر ما دام سلطانا.
فلما بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازما - لم يخالفه ولم يوافقه، بل بعث يلاطف معه الأمر وذلك لبعده عن علي، وقربه من بلاد الشام وما مع معاوية من الجنود، فسالمه قيس وتاركه ولم يواقعه على ما دعاه إليه ولا وافقه عليه.
فكتب إليه معاوية: إنه لا يسعك معي تسويتك بي وخديعتك لي، ولا بد أن أعلم أنك سلم أو عدو - وكان معاوية حازما أيضا - فكتب إليه بما صمم عليه: إني مع علي إذ هو أحق بالأمر منك، فلما بلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان يئس منه ورجع، ثم أشاع بعض أهل الشام أن قيس بن سعد يكاتبهم في الباطن ويمالئهم على أهل العراق.
وروى ابن جرير: أنه جاء من جهته كتاب مزور بمبايعته معاوية، والله أعلم بصحته.
ولما بلغ ذلك عليا فاتهمه وكتب له أن يغزو أهل خربتا الذين تخلفوا عن البيعة، فبعث إليه يعتذر إليه بأنهم عدد كثير، وهم وجوه الناس.
وكتب إليه: إن كنت إنما أمرتني بهذا لتختبرني لأنك اتهمتني، فابعث على عملك بمصر غيري، فبعث علي على إمرة مصر الأشتر النخعي، فسار إليها الأشتر النخعي.
فلما بلغ القلزم شرب شربة من عسل فكان فيها حتفه، فبلغ ذلك أهل الشام فقالوا: إن لله جندا من عسل، فلما بلغ عليا مهلك الأشتر، بعث محمد بن أبي بكر على إمرة مصر.
وقد قيل وهو الأصح: إن عليا ولى محمد بن أبي بكر بعد قيس بن سعد، فارتحل قيس إلى المدينة، ثم ركب هو وسهل بن حنيف إلى علي فاعتذر إليه قيس بن سعد فعذره علي، وشهدا معه صفين كما سنذكره، فلم يزل محمد بن أبي بكر بمصر قائم الأمر مهيبا بالديار المصرية حتى كانت وقعة صفين.
وبلغ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق، وصاروا إلى التحكيم، فطمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر واجترأوا عليه وبارزوه بالعداوة، فكان من أمره ما سنذكره.
وكان عمر بن العاص قد بايع معاوية على القيام بطلب دم عثمان، وكان قد خرج من المدينة حين أرادوا حصره لئلا يشهد مهلكه، مع أنه كان متعتبا عليه بسبب عزله له عن ديار مصر، وتوليته بدله عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فتسرح عن المدينة علي تغضب فنزل قريبا من الأردن، فلما قتل عثمان صار إلى معاوية فبايعه على ما ذكرنا.