البداية والنهاية/الجزء السابع/فصل فراغ علي رضي الله عنه من أمر الجمل
ولما فرغ علي من أمر الجمل، أتاه وجوه الناس يسلمون عليه، فكان ممن جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد - وكانوا قد اعتزلوا القتال - فقال له علي: تربعت - يعني بنا - فقال: ما كنت أراني إلا قد أحسنت وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت إلي غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستبق مودتي لغدٍ، ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحا.
قالوا: ثم دخل علي البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم، حتى الجرحى والمستأمنة.
وجاءه عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي فبايعه، فقال له علي: أين المريض؟ - يعني: أباه -.
فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص.
فقال: امش أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكر فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع.
وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد، - وكان زياد معتزلا -.
ثم جاء علي إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة فاستأذن ودخل، فسلم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على من قتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له: صفية امرأة عبد الله، أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها علي شيئا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضا فسكت.
فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟
فقال: ويحك! إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟.
فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما من ثيابهما.
وقد سألت عائشة عمن قتل معها من المسلمين، ومن قتل من عسكر علي، فجعلت كلما ذكر لها واحد منهم ترحمت عليه ودعت له.
ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة، بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر.
فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس، وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس، ودعت لهم، وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الأخيار.
فقال علي: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة.
وسار علي معها ودعا ومشيعا أميالا، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم - وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين - وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك، ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها.
وأما مروان بن الحكم فإنه لما فر استجار بمالك بن مسمع فأجاره ووفى له، ولهذا كان بنو مروان يكرمون مالكا ويشرفونه، ويقال: إنه نزل دار بني خلف، فلما خرجت عائشة خرج معها، فلما سارت هي إلى مكة سار إلى المدينة.
قالوا: وقد علم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة يوم الوقعة، وذلك مما كانت النسور تخطفه من الأيدي والأقدام فيسقط منها هنالك، حتى أن أهل المدينة علموا بذلك يوم الجمل قبل أن تغرب الشمس، وذلك أن نسرا مر بهم ومعه شيء فسقط، فإذا هو كف فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب.
هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، وليس فيما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلفة على الصحابة، والأخبار الموضوعة التي ينقلونها بما فيها. وإذا دعوا إلى الحق الواضح اعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم، فنحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.