البداية والنهاية/الجزء السابع/فصل الاختلاف في فتح دمشق صلحا أو عنوة
واختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحا أو عنوة؟
فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكوا في المتقدم على الآخر أفتحت عنوة، ثم عدل الروم إلى المصالحة، أو فتحت صلحا، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسرا؟ فلما شكوا في ذلك جعلوها صلحا احتياطا.
وقيل: بل جعل نصفها صلحا، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها. والله أعلم.
ثم قيل: أن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتاب الصلح، وهذا هو الأنسب والأشهر، فإن خالدا كان قد عزل عن الإمرة.
وقيل: بل الذي كتب لهم الصلح خالد بن الوليد، ولكن أقره على ذلك أبو عبيدة فالله أعلم.
وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر: أن الصديق توفي قبل فتح دمشق، وأن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق، وأنه قد استنابه على من بالشام، وأمره أن يستشير خالدا في الحرب، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة.
فقال له خالد: يرحمك الله ما منعك أن تعلمني حين جاءك؟
فقال: إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريد، ولا للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ودنياه.
ومن أعجب ما يذكر ههنا: ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الملك بن محمد، حدثنا راشد بن داود الصنعاني، حدثني أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد قال: بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام، فذكر الراوي.
فقال خالد لأهل اليمامة إلى أن قال: ومات أبو بكر واستخلف عمر، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر، فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام، فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم.
وهذا غريب جدا، فإن الذي لا يشك فيه أن الصديق هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مددا لمن به، وأميرا عليهم ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميع الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقال محمد بن عائذ: قال الوليد بن مسلم: أخبرني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير: أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافدا إلى أبي بكر بشيرا بالفتح، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي، واستخلف عمر بن الخطاب، فأعظم أن يتأمر أحد من الصحابة عليه، فولاه جماعة الناس فقدم عليهم، فقالوا: مرحبا بمن بعثناه بريدا، فقدم علينا أميرا.
وقد روى الليث، وابن لهيعة، وحيوة بن شريح، ومفضل بن فضالة، وعمر بن الحارث، وغير واحد، عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر: أنه بعثه أبو عبيدة بريدا بفتح دمشق، قال: فقدمت على عمر يوم الجمعة، فقال لي: منذ كم لم تنزع خفيك؟
فقلت: من يوم الجمعة، وهذا يوم الجمعة.
فقال: أصبت السنة.
قال الليث: وبه نأخذ، يعني: أن المسح على الخفين للمسافر لا يتأقت بل له أن يمسح عليهما ما شاء، وإليه ذهب الشافعي في القديم.
وقد روى أحمد، وأبو داود، عن أبي بن عمارة مرفوعا مثل هذا.
والجمهور على ما رواه مسلم، عن علي في تأقيت المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة.
ومن الناس من فصل بين البريد ومن في معناه وغيره، فقال في الأول: لا يتأقت، وفيما عداه يتأقت لحديث عقبة وحديث علي والله أعلم.