البداية والنهاية/الجزء السابع/فصل ومن مناقبه أيضا
ومن مناقبة الكبار وحسناته العظيمة: أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على الفرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله ﷺ في آخر سني حياته.
وكان سبب ذلك: أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطّأ الآخر أو كفره.
فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيء بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم.
وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت يجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر.
فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان، وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش.
فكتب لأهل الشام مصحفا، ولأهل مصر آخر، بعث إلى البصرة مصحفا، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفا، وإلى اليمين مثله، وأقر بالمدينة مصحفا.
ويقال لهذه المصاحف: الأئمة، وليست كلها بخط عثمان بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت.
وإنما يقال لها المصاحف: العثمانية، نسبة إلى أمره وزمانه وإمارته، كما يقال: دينار هرقلي، أي: ضرب في زمانه ودولته.
قال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
ورواه غيره من وجه آخر: عن أبي هريرة قال: « لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أشد أمتي حبَّا لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق.
فقلت: أي ورق؟
حتى رأيت المصاحف، قال: فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا ﷺ ».
ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف.
فقال أبو بكر بن أبي داود في (كتاب المصاحف): حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن قالا: ثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن رجل، عن سويد بن غفلة. قال: قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته.
وهكذا رواه أبو داود الطيالسي: وعمرو بن مرزوق عن شعبة مثله.
وقد رواه البيهقي وغيره من حديث محمد بن أبان - زوج أخت حسين -، عن علقمة بن مرثد قال: سمعت العيزار بن جرول، سمعت سويد بن غفلة قال:
قال علي: أيها الناس! إياكم والغلو في عثمان، تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب محمد ﷺ، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل.
وقد رُوي عن ابن مسعود: أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [آل عمران: 161] .
فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى إتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال أبو إسحاق: عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال: كم صلى أمير المؤمنين الظهر؟.
قالوا: أربعا.
فصلى ابن مسعود أربعا.
فقالوا: ألم تحدثنا أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين؟.
فقال: نعم، وأنا أحدثكموه الآن، ولكني أكره الاختلاف.
وفي الصحيح: أن ابن مسعود قال: ليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.
وقال الأعمش: حدثني معاوية بن قرة - بواسط -، عن أشياخه قالوا: صلى عثمان الظهر بمنى أربعا، فبلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصر في رحله أربعا، فقيل له: عتبتَ على عثمان وصليت أربعا؟ فقال: إني أكره الخلاف. وفي رواية: الخلاف شر.
فإذا كان هذا متابعة من ابن مسعود إلى عثمان في هذا الفرغ، فكيف بمتابعته إياه في أصل القرآن؟ والاقتداء به في التلاوة التي عزم على الناس أن يقرؤا بها لا بغيرها؟.
وقد حكى الزهري وغيره: أن عثمان إنما أتم خشية على الأعراب أن يعتقدوا أن فرض الصلاة ركعتان، وقيل: بل قد تأهل بمكة.
فروى يعلى وغيره: من حديث عكرمة بن إبراهيم، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذباب، عن أبيه: أن عثمان صلى بهم بمنى أربع ركعات، ثم أقبل عليهم فقال: « إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا تزوج الرجل ببلد فهو من أهله، » وإني أتممت لأني تزوجت بها منذ قدمتها.
وهذا الحديث لا يصح، وقد تزوج رسول الله ﷺ في عمرة القضاء بميمونة بنت الحارث ولم يتم الصلاة.
وقد قيل: إن عثمان تأول أنه أمير المؤمنين حيث كان وهكذا تأولت عائشة فأتمت، وفي هذا التأويل نظر فإن رسول الله ﷺ هو رسول الله حيث كان، ومع هذا ما أتم الصلاة في الأسفار.
ومما كان يعتمده عثمان بن عفان أنه كان يلزم عماله بحضور الموسم كل عام، ويكتب إلى الرعايا: من كانت له عند أحد منهم مظلمة فليواف إلى الموسم فإني آخذ له حقه من عامله.
وكان عثمان قد سمح لكثير من كبار الصحابة في المسير حيث شاءوا من البلاد، وكان عمر يحجر عليهم في ذلك حتى ولا في الغزو، ويقول: إني أخاف أن تروا الدنيا، وأن يراكم أبناؤها.
فلما خرجوا في زمان عثمان اجتمع عليهم الناس، وصار لكل واحد أصحاب، وطمع كل قوم في تولية صاحبهم الإمارة العامة بعد عثمان، فاستعجلوا موته واستطالوا حياته حتى وقع ما وقع من بعض أهل الأمصار كما تقدم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم.
تزوج برقية بنت رسول الله ﷺ، فولد له منها عبد الله، وبه كان يكنى، بعد ما كان يكنى في الجاهلية: بأبي عمرو.