البداية والنهاية/الجزء السابع/اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص بدومة الجندل
وذلك في شهر رمضان كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين.
وقال الواقدي: اجتمعوا في شعبان وذلك أن عليا رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ، ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومنهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح - وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام، بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل - وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي.
وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبي جهم بن حذيفة.
وزعم بعض الناس أن سعد بن أبي وقاص شهدهم أيضا، وأنكر حضوره آخرون.
وقد ذكر ابن جرير أن عمر بن سعد خرج إلى أبيه وهو على ماء لبني سليم بالبادية معتزل: فقال يا أبة: قد بلغك ما كان الناس بصفين، وقد حكم الناس أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وقد شهدهم نفر من قريش، فأشهدهم فإنك صاحب رسول الله ﷺ، وأحد أصحاب الشورى ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة فاحضر إنك أحق الناس بالخلافة.
فقال: لا أفعل! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إنه ستكون فتنة خير الناس فيها الخفي البقي » والله لا أشهد شيئا من هذا الأمر أبدا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، ثنا بكر بن سمار، عن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجا من المدينة فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب.
فلما أتاه قال: يا أبة أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟
فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي »، وهكذا رواه مسلم في صحيحه.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا كثير بن زيد الأسلمي، عن المطلب، عن عمر بن سعد، عن أبيه أنه جاءه ابنه عامر فقال: يا أبة: الناس يقاتلون على الدنيا وأنت ههنا؟
فقال: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا؟ لا والله حتى أعطي سيفا إن ضربت به مؤمنا نبا عنه، وإن ضربت به كافرا قتلته، سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن الله يحب الغني الخفي التقي ».
وهذا السياق كان عكس الأول، والظاهر أن عمر بن سعد استعان بأخيه عامر على أبيه ليشير عليه أن يحضر أمر التحكيم لعلهم يعدلون عن معاوية وعلي ويولونه فامتنع سعد من ذلك وأباه أشد الأباء وقنع بما هو فيه من الكفاية والخفاء.
كما ثبت في (صحيح مسلم) أن رسول الله ﷺ قال: « قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ».
وكان عمر بن سعد هذا يحب الإمارة، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه في موضعه، ولو قنع بما كان أبوه عليه لم يكن شيء من ذلك.
والمقصود أن سعدا لم يحضر أمر التحكيم، ولا أراد ذلك، ولاهم به، وإنما حضره من ذكرنا.
فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين، ونظرا في تقدير أمور، ثم اتفقا على أن يعزلا عليا ومعاوية، ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم منهما أو من غيرهما.
وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له عمرو: فولِّ ابن عبد الله فإنه يقاربه في العلم والعمل والزهد.
فقال له أبو موسى: إنك قد غمست ابنك في الفتن معك، وهو مع ذلك رجل صدق.
قال أبو مخنف: فحدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمرو بن العاص: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم.
وكان ابن عمر فيه غفلة، فقال له ابن الزبير: افطن وانتبه.
فقال ابن عمر: لا والله لا أرشو عليها شيئا أبدا، ثم قال: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتشاكت بالرماح، فلا تردنهم في فتنة مثلها أو أشد منها ثم إن عمرو بن العاص حاول أبا موسى على أن يقر معاوية وحده على الناس فأبى عليه، ثم حاوله ليكون ابنه عبد الله بن عمرو هو الخليفة، فأبى أيضا.
وطلب أبو موسى من عمرو أن يوليا عبد الله بن عمر فامتنع عمرو أيضا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية وعليا ويتركا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على من يختاروه لأنفسهم.
ثم جاءا إلى المجمع الذي فيه الناس - وكان عمرو لا يتقدم بين يدي أبي موسى بل يقدّمه في كل الأمور أدبا وإجلالا - فقال له: يا أبا موسى قم فأعلم الناس بما اتفقنا عليه.
فخطب أبو موسى الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على رسول الله صلى لله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أمرا أصلح لها ولا ألم لشعثها، من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أنا نخلع عليا ومعاوية ونترك الأمر شورى، وتستقبل الأمة هذا الأمر فيولوا عليهم من أحبوه، وإني قد خلعت عليا ومعاوية.
ثم تنحى وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه - وكان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف، فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة، والاجتهاد يخطئ ويصيب.
ويقال: إن أبا موسى تكلم معه بكلام فيه غلظة ورد عليه عمرو بن العاص مثله.
وذكر ابن جرير أن شريح بن هانئ - مقدم جيش علي - وثب على عمرو بن العاص فضربه بالسوط، وقام إليه ابنٌ لعمر فضربه بالسوط، وتفرق الناس في كل وجه إلى بلادهم، فأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية فسلموا عليه بتحية الخلافة.
وأما أبو موسى فاستحيى من علي فذهب إلى مكة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي فأخبراه بما فعل أبو موسى وعمرو، فاستضعفوا رأي أبي موسى وعرفوا أنه لا يوازن عمرو بن العاص.
فذكر أبو مخنف عن أبي جناب الكلبي أن عليا لما بلغه ما فعل عمرو كان يلعن في قنوته معاوية، وعمرو بن العاص، وأبا الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، والضحاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والوليد بن عتبة.
فلما بلغ ذلك معاوية كان يلعن في قنوته عليا، وحسنا وحسينا، وابن عباس، والأشتر النخعي، ولا يصح هذا والله أعلم.
فأما الحديث الذي قال البيهقي في (الدلائل): أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا قتيبة بن سعيد، عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد وحبيب بن يسار، عن سويد بن غفلة قال: إني لأمشي مع علي بشط الفرات.
فقال: قال رسول الله ﷺ: « إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين، فضلا وأضلا، وإن هذه الأمة ستختلف، فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين، فيضلاّن ويضلاّن من اتبعهما ».
فإنه حديث منكر ورفعه موضوع والله أعلم.
إذ لو كان هذا معلوما عند علي لم يوافق على تحكيم الحكمين حتى لا يكون سببا لإضلال الناس، كما نطق به هذا الحديث.
وآفة هذا الحديث هو: زكريا بن يحيى وهو الكندي الحميري الأعمى، قال ابن معين: ليس بشيء.