البداية والنهاية/الجزء السابع/ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وكانت وقعة نهاوند
وهي وقعة عظيمة جدا لها شأن رفيع، ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح.
قال ابن إسحاق والواقدي: كانت وقعة نهاوند في سنة إحدى وعشرين.
وقال سيف: كانت في سنة سبع عشرة.
وقيل: في سنة تسع عشرة والله أعلم.
وإنما ساق أبو جعفر بن جرير قصتها في هذه السنة فتبعناه في ذلك وجمعنا كلام هؤلاء الأئمة في هذا الشأن سياقا واحدا، حتى دخل سياق بعضهم في بعض.
قال سيف وغيره: وكان الذي هاج هذه الوقعة أن المسلمين لما افتتحوا الأهواز ومنعوا جيش العلاء من أيديهم واستولوا على دار الملك القديم من اصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثا، وهي المدائن، وأخذ تلك المدائن والأقاليم والكور والبلدان الكثيرة، فحموا عند ذلك واستجاشهم يزدجرد الذي تقهقر من بلد إلى بلد حتى صار إلى أصبهان مبعدا طريدا، لكنه في أسرة من قومه وأهله وماله، وكتب إلى ناحية نهاوند وما ولاها من الجبال والبلدان، فتجمعوا وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم قبل ذلك.
فبعث سعد إلى عمر يعلمه بذلك، وثار أهل الكوفة على سعد في غضون هذا الحال، فشكوه في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي كان الذي نهض بهذه الشكوى رجل يقال له: الجراح بن سنان الأسدي في نفر معه، فلما ذهبوا إلى عمر فشكوه، قال لهم عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الحال عليه، وهو مستعد لقتال أعداء الله، وقد جمعوا لكم، ومع هذا لا يمنعني أن أنظر في أمركم.
ثم بعث محمد بن مسلمة - وكان رسول العمال - فلما قدم محمد بن مسلمة الكوفة طاف على القبائل والعشائر والمساجد بالكوفة، فكل يثني على سعد خيرا إلا ناحية الجراح بن سنان، فإنهم سكتوا فلم يذموا، ولم يشكروا حتى انتهى إلى بني عبس.
فقام رجل يقال له: أبو سعدة أسامة بن قتادة، فقال: أما إذ ناشدتنا فإن سعدا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية.
فدعا عليه سعد فقال: اللهم إن كان قالها كذبا ورياءا وسمعة فأعم بصره، وكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن.
فعمى، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيجسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك.
ثم دعا سعد على الجراح وأصحابه فكل أصابته فارعة في جسده، ومصيبة في ماله بعد ذلك.
واستنفر محمد بن مسلمة أهل الكوفة لغزو أهل نهاوند في غضون ذلك عن أمر عمر بن الخطاب.
ثم سار سعد، ومحمد بن مسلمة، والجراح، وأصحابه حتى جاءوا عمر، فسأله عمر: كيف يصلي؟
فأخبره أنه يطول في الأوليين، ويخفف في الأخريين، وما آلوا ما اقتديت به من صلاة رسول الله ﷺ.
فقال له عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق.
وقال سعد في هذه القصة: لقد أسلمت خامس خمسة، ولقد كنا ومالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا، وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله، ولقد جمع لي رسول الله ﷺ أبويه وما جمعهما لأحد قبلي، ثم أصبحت بنو أسد يقولون: لا يحسن يصلي.
وفي رواية: يغرر بي على الإسلام، لقد خبت إذا ضل عملي.
ثم قال عمر لسعد: من استخلفت على الكوفة؟
فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره عمر على نيابته الكوفة - وكان شيخا كبيرا من أشراف الصحابة حليفا لبني الحبلى من الأنصار - واستمر سعد معزولا من غير عجز ولا خيانة ويهدد أولئك النفر، وكان يوقع بهم بأسا، ثم ترك ذلك خوفا من أن لا يشكو أحدا أميرا.
والمقصود: أن أهل فارس اجتمعوا من كل فج عميق بأرض نهاوند.
حتى اجتمع منهم مائة ألف وخمسون ألف مقاتل، وعليهم الفيرزان، ويقال: بندار، ويقال: ذو الحاجب.
وتذامروا فيما بينهم، وقالوا: إن محمدا الذي جاء العرب لم يتعرض لبلادنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده تعرض لنا في دار ملكنا، وإن عمر بن الخطاب هذا لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى أغزانا في عقر دارنا، وأخذ بيت المملكة، وليس بمنته حتى يخرجكم من بلادكم.
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن يقصدوا البصرة والكوفة ثم يشغلوا عمر عن بلاده، وتواثقوا من أنفسهم وكتبوا بذلك عليهم كتابا.
فأما كتب سعد بذلك إلى عمر - وكان قد عزل سعدا في غضون ذلك - شافه سعد عمر بما تمالؤا عليه وتصدوا إليه، وأنه قد اجتمع منهم مائة وخمسون ألفا.
وجاء كتاب عبد الله بن عبد الله بن عتبان من الكوفة إلى عمر مع قريب بن ظفر العبدي: بأنهم قد اجتمعوا وهم منحرفون متذامرون على الإسلام وأهله، وأن المصلحة يا أمير المؤمنين أن نقصدهم فنعالجهم عما هموا به وعزموا عليه من المسير إلى بلادنا.
فقال عمر لحامل الكتاب: ما اسمك؟
قال: قريب.
قال: ابن من؟
قال: ابن ظفر.
فتفاءل عمر بذلك، وقال: ظفر قريب، ثم أمر فنودي للصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وكان أول من دخل المسجد لذلك سعد بن أبي وقاص فتفاءل عمر أيضا بسعد، فصعد عمر المنبر حتى اجتمع الناس فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، إني قد رأيت أن أسير بمن قبلي حتى أنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين فاستنفر الناس، ثم أكون لهم ردءا، حتى يفتح الله عليهم.
فقام عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف في رجال من أهل الرأي، فتكلم كل منهم بانفراده، فأحسن وأجاد، واتفق رأيهم: على أن لا يسير من المدينة، ولكن يبعث البعوث ويحصرهم برأيه ودعائه.
وكان من كلام علي رضي الله عنه أن قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم يا أمير المؤمنين مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلا، فهم كثير عزيز بالإسلام، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان ويقيم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم أيضا. - وكان عثمان قد أشار في كلامه أن يمدهم في جيوش من أهل اليمن والشام. ووافق عمر على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة - فرد علي على عثمان في موافقته على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة كما تقدم.
ورد رأي عثمان فيم أشار به من استمداد أهل الشام خوفا على بلادهم إذا قل جيوشها من الروم.
ومن أهل اليمن خوفا على بلادهم من الحبشة.
فأعجب عمر قول علي وسرَّ به - وكان عمر إذا استشار أحدا لا يبرم أمرا حتى يشاور العباس - فلما أعجبه كلام الصحابة في هذا المقام عرضه على العباس، فقال: يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنما اجتمع هؤلاء الفرس لنقمة تنزل عليهم.
ثم قال عمر: أشيروا علي بمن أوليه أمر الحرب وليكن عراقيا.
فقالوا: أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين.
فقال: ما والله لأولين رجلا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدا.
قالوا: من يا أمير المؤمنين؟
قال: النعمان بن مقرن.
فقالوا: هو لها - وكان النعمان قد كتب إلى عمر وهو على كسكر وسأله أن يعزله عنها ويوليه قتال أهل نهاوند - فلهذا أجابه إلى ذلك وعينه له.
ثم كتب عمر إلى حذيفة: أن يسير من الكوفة بجنود منها، وكتب إلى أبي موسى: أن يسير بجنود البصرة، وكتب إلى النعمان - وكان بالبصرة - أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نهاوند، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه، والأمير على الناس كلهم النعمان بن مقرن.
فإذا قتل فحذيفة بن اليمان، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فقيس بن مكشوح، فإن قتل قيس، ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة أحدهم المغيرة بن شعبة، وقيل: لم يسم فيهم. والله أعلم.
وصورة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضةً، فإن رجلا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار، والسلام عليك.
فسر في وجهك ذلك حتى تأتي ماه فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب عمر إلى نائب الكوفة - عبد الله بن عبد الله - أن يعين جيشا، ويبعثهم إلى نهاوند، وليكن الأمير عليهم حذيفة بن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، فإن قتل النعمان فحذيفة، فإن قتل فنعيم بن مقرن.
وولى السائب بن الأقرع قسم الغنائم.
فسار حذيفة في جيش كثيف نحو النعمان بن مقرن ليوافوه بماه، وسار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، وقد أرصد في كل كورة ما يكفيها من المقاتلة، وجعل الحرس في كل ناحية، واحتاطوا احتياطا عظيما، ثم انتهوا إلى النعمان بن مقرن حيث اتعدوا، فدفع حذيفة بن اليمان إلى النعمان كتاب عمر وفيه الأمر له بما يعتمده في هذه الوقعة، فكل جيش المسلمين في ثلاثين ألفا من المقاتلة فيما رواه سيف عن الشعبي، فمنهم: من سادات الصحابة ورءوس العرب خلق كثير وجم غفير.
منهم: عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، وجرير بن عبد الله البجلي، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وطليحة بن خويلد الأسدي، وقيس بن مكشوح المرادي.
فسار الناس نحو نهاوند وبعث النعمان بن مقرن الأمير بين يديه طليعة ثلاثة:
وهم: طليحة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وعمرو بن أبي سلمة.
ويقال له: عمرو بني ثبى أيضا، ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه.
فسارت الطليعة يوما وليلة فرجع عمرو بن ثبى فقيل له: ما رجعك؟
فقال: كنت في أرض العجم، وقتلت أرض جاهلها، وقتل أرض عالمها.
ثم رجع بعده عمرو بن معدي كرب وقال: لم نر أحدا وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ونفذ طليحة ولم يحفل برجوعهما فسار بعد ذلك نحوا من بضعة عشر فرسخا حتى انتهى إلى نهاوند، ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحب، ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك، وأنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه.
فسار النعمان على تعبئته، وعلى المقدمة نعيم بن مقرن، وعلى المجنبتين حذيفة وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، حتى انتهوا إلى الفرس وعليهم الفيرزان، ومعه من الجيش كل من غاب عن القادسية في تلك الأيام المتقدمة، وهو في مائة وخمسين ألفا، فلما تراءى الجمعان كبر النعمان وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، فزلزلت الأعاجم ورعبوا من ذلك رعبا شديدا.
ثم أمر النعمان بحط الأثقال وهو واقف، فحط الناس أثقالهم، وتركوا رحالهم، وضربوا خيامهم وقبابهم.
وضربت خيمة للنعمان عظيمة، وكان الذين ضربوا أربعة عشر من أشراف الجيش، وهم: حذيفة بن اليمان، وعتبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وابن الهوبر، وربعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والأقرع بن عبد الله الحميري، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر، فلم ير بالعراق خيمة عظيمة أعظم من بناء هذا الخيمة.
وحين حطوا الأثقال، أمر النعمان بالقتال، وكان يوم الأربعاء، فاقتتلوا ذلك اليوم والذي بعده والحرب سجال، فلما كان يوم الجمعة انحجزوا في حصنهم، وحاصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله، والأعاجم يخرجون إذا أرادوا ويرجعون إلى حصونهم إذا أرادوا.
وقد بعث أمير الفرس يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطول الناس جوعا، وأقلهم دارا وقدرا.
وقال: ما يمنع هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا مجا من جيفكم، فإن تذهبوا نخل عنكم، وإن تأبوا نزركم مصارعكم.
قال: فتشهدت، وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت، حتى بعث الله رسوله فوعدنا النصر في الدنيا، والخير في الآخرة، وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا، وقد جئناكم في بلادكم وإنا لن نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم أونقتل بأرضكم.
فقال: أما والله إن الأعور لقد صدقكم ما في نفسه.
فلما طال على المسلمين هذا الحال واستمر، جمع النعمان بن مقرن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك وكيف يكون من أمرهم، حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيد واحد، فتكلم عمرو بن أبي سلمة أولا - وهو أسن من كان هناك - فقال: إن بقاءهم على ما هم عليه أضر عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين.
فرد الجميع عليه وقالوا: إنا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا.
وتكلم عمرو بن معدي كرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم.
فردوا جميعا عليه، وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران أعوان لهم علينا.
وتكلم طليحة الأسدي، فقال: إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن تبعث سرية فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم، فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابا فإذا استطردوا وراءهم وانتموا إلينا عزمنا أيضا على الفرار كلنا، فإنهم حينئذ لا يشكون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرة أبيهم، فإذا تكامل خروجهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضي الله بيننا.
فاستجاد الناس هذا الرأي، وأمر النعمان على المجردة القعقاع بن عمرو، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم.
ففعل القعقاع ذلك، فلما برزوا من حصونهم نكص القعقاع بمن معه ثم نكص، ثم نكص، فاغتنمها الأعاجم ففعلوا ما ظن طليحة، وقالوا: هي هي، فخرجوا بأجمعهم، ولم يبق بالبلد من المقاتلة إلا من يحفظ لهم الأبواب حتى انتهوا إلى الجيش، والنعمان بن مقرن على تعبئته، وذلك في صدر نهار جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم فنهاهم النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وتهب الأرواح، وينزل النصر كما كان رسول الله ﷺ يفعل.
وألح الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل - وكان رجلا ثابتا - فلما حان الزوال صلى بالمسلمين، ثم ركب برذونا له أحوى قريبا من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، ويقدم إلى المسلمين أنه يكبر الأولى فيتأهب الناس للحملة، ويكبر الثانية فلا يبقى لأحد أهبة، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة.
ثم رجع إلى موقفه. وتعبئت الفرس تعبئة عظيمة واصطفوا صفوفا هائلة في عَدَدٍ وعُدَدٍ لم ير مثله، وقد تغلغل كثير منهم بعضهم في بعض وألقوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهرب ولا الفرار، ولا التحيز.
ثم إن النعمان بن مقرن رضي الله عنه كبر الأولى وهز الراية فتأهب الناس للحملة، ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهبوا أيضا، ثم كبر الثالثة وحمل وحمل الناس على المشركين، وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس كانقضاض العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة، ولا سمع السامعون بوقعة مثلها، قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الأرض دما، بحيث أن الدواب كانت تطبع فيه، حتى قيل: أن الأمير النعمان بن مقرن زلق به حصانه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله، ولم يشعر به أحد سوى أخيه سويد، وقيل: نعيم، وقيل: غطاه بثوبه وأخفى موته ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، فأقام حذيفة أخاه نعيما مكانه، وأمر بكتم موته حتى ينفصل الحال لئلا ينهزم الناس.
فلما أظلم الليل انهزم المشركون مدبرين، وتبعهم المسلمون، وكان الكفار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقا، فلما انهزموا وقعوا في الخندق، وفي تلك الأودية نحو مائة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة، ولم يفلت منهم إلا الشريد.
وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة، فانفلت وانهزم واتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع بين يديه وقصد الفيرزان همدان، فلحقه القعقاع وأدركه عند ثنية همدان، وقد أقبل منها بغال كثير، وحمر تحمل عسلا فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجل وتعلق في الجبل فاتبعه القعقاع حتى قتله.
وقال المسلمون يومئذ: إن لله جنودا من عسل، ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال، وسميت تلك الثنية: ثنية العسل.
ثم لحق القعقاع بقية المنهزمين منهم إلى همدان وحاصرها وحوى ما حولها، فنزل إليه صاحبها - وهو خسرشنوم - فصالحه عليها.
ثم رجع القعقاع إلى حذيفة ومن معه من المسلمين، وقد دخلوا بعد الوقعة نهاوند عنوة، وقد جمعوا الأسلاب والمغانم إلى صاحب الأقباض وهو: السائب بن الأقرع.
ولما سمع أهل ماه بخبر أهل همدان بعثوا إلى حذيفة وأخذوا لهم منه الأمان.
وجاء رجل يقال له: الهرند - وهو صاحب نارهم - فسأل من حذيفة الأمان ويدفع إليهم وديعة عنده لكسرى، ادخرها لنوائب الزمان، فأمنه حذيفة وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءتين جوهرا ثمينا لا يقوم، غير أن المسلمين لم يعبأوا به.
واتفق رأيهم على بعثه لعمر خاصة، وأرسلوه صحبة الأخماس السائب بن الأرقع، وأرسل قبله بالفتح مع طريف بن سهم، ثم قسم حذيفة بقية الغنيمة في الغانمين، ورضخ ونفل لذوي النجدات، وقسم لمن كان قد أرصد من الجيوش لحفظ ظهور المسلمين من ورائهم، ومن كان رداءا لهم، ومنسوبا إليهم.
وأما أمير المؤمنين فإنه كان يدعو الله ليلا ونهارا، لهم دعاء الحوامل المقربات، وابتهال ذوي الضرورات، وقد استبطأ الخبر عنهم فبينا رجل من المسلمين ظاهر المدينة إذا هو براكب فسأله: من أين أقبل؟.
فقال: من نهاوند.
فقال: ما فعل الناس؟.
قال: فتح الله عليهم وقتل الأمير، وغنم المسلمون غنيمةً عظيمةً أصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان.
ثم فاته وقدم ذلك الرجل المدينة فأخبره الناس وشاع الخبر حتى بلغ أمير المؤمنين، فطلبه فسأله عمن أخبره
فقال: راكب.
فقال: إنه لم يجئني، وإنما هو رجل من الجن بريدهم، واسمه: عثيم.
ثم قدم طريف بالفتح بعد ذلك بأيام، وليس معه سوى الفتح، فسأله عمن قتل النعمان فلم يكن معه علم حتى قدم الذين معهم الأخماس فأخبروا بالأمر على جليته، فإذا ذلك الجني قد شهد الوقعة، ورجع سريعا إلى قومه نذيرا.
ولما أخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل السائب عمن قتل من المسلمين، فقال: فلان، وفلان، وفلان لأعيان الناس وأشرافهم.
ثم قال: وآخرون من أفناد الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين، فجعل يبكي ويقول: وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين؟ لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر.
ثم أمر بقسمة الخمس على عادته، وحملت ذانك السفطان إلى منزل عمر، ورجعت الرسل، فلما أصبح عمر طلبهم فلم يجدهم، فأرسل في إثرهم البُرُد فما لحقهم البريد إلا بالكوفة.
قال السائب بن الأقرع: فلما أنخت بعيري بالكوفة، أناخ البريد على عرقوب بعيري، وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: لماذا؟
فقال: لا أدري، فرجعنا على أثرنا حتى انتهيت إليه.
قال: مالي ولك يا ابن أم السائب، بل ما لابن أم السائب ومالي؟.
قال فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟.
فقال: ويحك، والله إن هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة الله تسحبني إلى ذينك السفطين وهما يشتعلان نارا، ويقولون: لنكوينك بهما.
فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فاذهب بهما لا أبالك فبعهما فاقسمهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فإنهم لا يدرون ما وهبوا ولم تدر أنت معهم.
قال السائب: فأخذتهما حتى جئت بهما مسجد الكوفة، وغشيتني التجار فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف.
ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف. فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد ذلك.
قال سيف: ثم قسم ثمنهما بين الغانمين، فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين.
قال الشعبي: وحصل للفارس من أصل الغنيمة ستة آلاف، وللراجل ألفان وكان المسلمون ثلاثين ألفا.
قال: وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة لسبع سنين من إمارة عمر.
رواه سيف عن، عمرو بن محمد عنه.
وبه عن الشعبي قال: لما قدم سبي نهاوند إلى المدينة جعل أبو لؤلؤة - فيروز غلام المغيرة بن شعبة - لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى، وقال: أكل عمر كبدي - وكان أصل أبي لؤلؤة من نهاوند فأسرته الروم أيام فارس وأسرته المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبى -.
قالوا: ولم تقم للأعاجم بعد هذه الوقعة قائمة، وأتحف عمر الذين أبلوا فيها بألفين تشريفا لهم، وإظهارا لشأنهم.
وفي هذه السنة: افتتح المسلمون أيضا بعد نهاوند مدينة جَيّ، وهي - مدينة أصبهان - بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين، وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح، وفر منهم ثلاثون نفرا إلى كرمان لم يصالحوا المسلمين.
وقيل: إن الذي فتح أصبهان هو النعمان بن مقرن، وإنه قتل بها، ووقع أمير المجوس وهو ذو الحاجبين عن فرسه فانشق بطنه ومات، وانهزم أصحابه.
والصحيح: أن الذي فتح أصبهان: عبد الله بن عبد الله بن عتبان - الذي كان نائب الكوفة -.
وفيها: افتتح أبو موسى قم وقاشان، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كرمان.
وذكر ابن جرير عن الواقدي: أن عمرو بن العاص سار في جيش معه إلى طرابلس قال: وهي برقة فافتتحها صلحا على ثلاثة عشر ألف دينار في كل سنة.
قال: وفيها: بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري إلى زويلة ففتحها بصلح، وصار ما بين برقة إلى زويلة سِلما للمسلمين.
قال: وفيها: ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة بدل زياد بن حنظلة الذي ولاه بعد عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وجعل عبد الله بن مسعود على بيت المال فاشتكى أهل الكوفة من عمار، فاستعفي عمار من عمله فعزله، وولى جبير بن مطعم، وأمره أن لا يعلم أحدا.
وبعث المغيرة بن شعبة امرأته إلى امرأة جبير يعرض عليها طعاما للسفر.
فقالت: اذهبي فأتيني به.
فذهب المغيرة إلى عمر فقال: بارك الله يا أمير المؤمنين فيمن وليت على الكوفة.
فقال: وما ذاك؟.
وبعث إلى جبير بن مطعم فعزله وولي المغيرة بن شعبة ثانية، فلم يزل عليها حتى مات عمر رضي الله عنهم.
قال: وفيها: حج عمر واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وكان عما له على البلدان المتقدمون في السنة التي قبلها سوى الكوفة.
قال الواقدي: وفيها: توفي خالد بن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
وقال غيره: توفي سنة ثلاث وعشرين.
وقيل: بالمدينة، والأول أصح وقال غيره.
وفيها: توفي العلاء بن الحضرمي فولى عمر مكانه أبا هريرة، وقد قيل أن العلاء توفي قبل هذا كما تقدم. والله أعلم.
وقال ابن جرير فيما حكاه عن الواقدي: وكان أمير دمشق في هذه السنة عمير بن سعيد، وهو أيضا على حمص وحوران وقنسرين والجزيرة، وكان معاوية على البلقاء، والأردن، وفلسطين، والسواحل، وإنطاكية، وغير ذلك.