البداية والنهاية/الجزء السابع/ثم دخلت سنة سبع عشرة
في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم وضعفت أبدانهم، لكثرة ذبابها وغبارها، فكتب سعد إلى عمر في ذلك.
فكتب عمر: أن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها،. فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبا يصلح لإقامتهم.
فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء فأعجبتهما، ووجد هنالك ديرات ثلاث: دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة.
وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة فنزلا فصليا هنالك، وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماء وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت والخصاص وما أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة، واجعلها منزل ثبات.
ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد.
وأمر سعد رجلا راميا شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات، فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصرا تلقاء محراب المسجد للإمارة، وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة، فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد.
وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل، فقدموا عليه فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد أبا هياج الموكل بإنزال الناس فيها أن يعمروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعا.
ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعا، وللأزقة سبعة أذرع.
وبنى لسعد قصر قريب من السوق، فكانت غوغاء الناس تمنع سعدا من الحديث، فكان يغلق بابه، ويقول: سكِّنْ الصويت.
فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده، ويجمع حطبا، ويحرق باب القصر، ثم يرجع من فوره.
فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعدا أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على بابه أحدا يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد، وعرض على محمد بن مسلمة شيئا من المال، فامتنع من قبوله ورجع إلى المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها عمر من غير عجز ولا خيانة.