هداية الحيارى/من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار
من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار
وأذكر لك مسألة من مسائل شرعهم المبدل، أو المنسوخ، تعرف بمسألة البياما والجالوس وهي أن عندهم في التوارة:
إذا أقام أخوان في موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل حموها ينكحها، وأول ولد يولدها ينسب إلى أخيه الدارج. فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية إلى مشيخة قومه، قائلة: قد أبى حموي أن يستبقي اسما لأخيه في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، فيحضره ويكلفه أن يقف، ويقول: ما أردت نكاحها، فتتناول المرأة نعله فتخرجه من رجله، وتمسكه بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه: كذا فيلصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه.
ويدعى فيما بعد: بالمخلوع النعل، وينتبز بنوه بهذا اللقب، وفي هذا كالتلجئة له إلى نكاحها، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك، فربما استحيا، وخجل من شيل نعله من رجله، والبصق في وجهه، ونبزه باللقب المستكره الذي يبقى عليه وعلى أولاده عاره، ولم يجد بدا من نكاحها.
فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها، بحيث يرى أن هذا كله أسهل عليه من أن يبتلى بها، وهان عليه هذا كله، في التخلص منها لم يكره على نكاحها، هذا عندهم في التوارة.
ونشأ لهم من ذلك، فرع مرتب عليه وهو: أن يكون مريدا للمرأة، محبا لها، وهي في غاية الكراهة له، فأحدثوا لهذا الفرع حكما في غاية الظلم والفضيحة، فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها، ولقنوها أن تقول: إن حموي لا يقيم لأخيه اسما في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، وهو عاشق لها - فيلزمونها بالكذب عليه، وأنها أرادته فامتنع - فإذا قالت ذلك، ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها - ونكاحها غاية سؤله، وأمنيته، فيأمرونه بالكذب عليها - فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مَسْكٌ هنا، ولا ضَرْب، بل يبصق في وجهه، وينادى عليه: هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه.
فلم يكفهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي، وألزموه بالكذب، والبصاق في وجهه، والعتاب على ذنب جره غيره، كما قيل:
وجرم جره سفهاء قوم وحل بغير جارمه العذاب
أفلا يستحي من تعيير المسلمين من هذا شرعه ودينه؟ ولا يستبعد اصطلاح أمة اليهود على المحال، واتفاقهم على أنواع من الكفر والضلال. فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذ بلادها انطمست حقائق سالف أخبارها، ودرست معالم دينها، وآثارها، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أولوها وأسلافها؛ لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات، وخراب البلاد، وإحراقها، وجلاء أهلها عنها، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها، إلى أن تستحيل رسوم دياناتها، وتضمحل أصول شرعها، وتتلاشى قواعد دينها.
وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصغار، كان حظها من اندراس دينها أوفر، وهذه أمة اليهود أوفر الأمم حظا من ذلك، فإنها أقدم الأمم عهدا، واستولت عليها سائر الأمم من الكندانيين، والكلدانيين، والبابليين، والفرس، واليونان، والنصارى، وما من هذه الأمم أمة إلا وقصدت استئصالهم، وإحراق كتبهم، وتخريب بلادهم، حتى لم يبق لهم مدينة، ولا جيش، ولا حصن، إلا بأرض الحجاز وخيبر، فأعز ما كانوا هناك.
فلما قام الإسلام، واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى، وصادف هذه الشرذمة بخيبر والمدينة، فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل، والسبي، وتخريب الديار، ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم.
وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء، فكتب الله عليهم الجلاء، وشتتهم ومزقهم بالإسلام كل ممزق، ومع هذا فلم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين، ولا آمن، فإن الذي نالهم من النصارى، والفرس، وعباد الأصنام، لم ينلهم من المسلمين مثله.
وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في طلبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنة للأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة، وبنوا لها البيع والهياكل، وعكفوا على عبادتها، وتركوا لها أحكام التوراة، وشرع موسى أزمنة طويلة، وأعصارا متصلة.
فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم، فما الظن بشأنهم مع أعدائهم أشد الأعداء عليهم، كالنصارى الذين عندهم أنهم قتلوا المسيح وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه، وكالفرس والكلدانيين وغيرهم.
وكثيرا ما منعهم ملوك الفرس من الختان وجعلوهم قلفا، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء على الأمم بالبوار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة.
فرأت اليهود أن الفرس قد جدوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم، سموها الخزانة وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها، والفرق بين الخزانة والصلاة أن الصلاة بغير لحن ويكون المصلي فيها وحده، والخزانة بلحن يشاركه غيره فيه.
فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم، قالت اليهود: نحن نغني وننوح على أنفسنا، فيخلون بينهم وبين ذلك، فجاءت دولة الإسلام فأمنوا فيها غاية الأمن، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرت الخزانة سنة فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح، وتعوضوا بها عن الصلاة.
والعجب أنهم مع ذهاب دولتهم وتفرق شملهم وعلمهم بالغضب الممدود المستمر عليهم ومسخ أسلافهم قردة لقتلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة وتعطيلهم لأحكامها، يقولون في كل يوم في صلاتهم محبة الدهر: أحبنا يا إلهنا! يا أبانا! أنت أبونا منقذنا! ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه، وأنهم سيقيم الله لهم نبيا من آل داود إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود. وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم وينخونه ويحمونه، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا. وضلال هذه أمة اليهود وكذبها وافتراؤها على الله ودينه وأنبيائه لا مزيد عليه.
وأما أكلهم الربا والسحت والرشا واستبدادهم دون العالم بالخبث والمكر والبهت وشدة الحرص على الدنيا وقسوة القلوب والذل والصغار والخزي والتحيل على الأغراض الفاسدة ورمي البرآء بالعيوب والطعن على الأنبياء: فأرخص شيء عندهم، وما عيروا به المسلمين مما ذكروه ومما لم يذكروه، فهو في بعضهم وليس في جميعهم، ونبيهم وكتابه ودينه وشرعه بريء منه، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.