هداية الحيارى/كتب اليهود
كتب اليهود
وهذه الأمة الغضيبة وإن كانوا متفرقين افتراقا كثيرا فيجمعهم فرقتان: القراؤون والربانيون وكان لهم أسلاف فقهاء، وهم صنفوا لهم كتابين: أحدهما يسمى المشنا ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة.
والثاني يسمى التلمود ومبلغه قريب من نصف حمل بغل، ولم يكن المؤلفون له في عصر واحد، وإنما ألفوه في جيل بعد جيل.
فلما نظر متأخروهم إلى ذلك، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيرا من أوله علموا أنهم إن لم يقفلوا باب الزيادة، وإلا أدى إلى الخلل الفاحش فقطعوا الزيادة، وحظروها على فقهائهم، وحرموا من يزيد عليه شيئا فوقف الكتاب على ذلك المقدار.
وكان فقهاؤهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة من كان على غير ملتهم، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبائح من لم يكن على دينهم، لأنهم علموا أن دينهم لا يبقى عليهم مع كونهم تحت الذل، والعبودية، وقهر الأمم لهم، إلا أن يصدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم، وحرموا عليهم مناكحتهم، والأكل من ذبائحهم، ولم يمكنهم ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون فيها على الله.
فإن التوارة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله، وإنما حرمت عليهم أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا للأصنام، لأنه سمى عليها اسم الله.
فأما ما ذكر عليه اسم الله وذبح لله، فلم تنطق التوارة بتحريمه البتة، بل نطقت بإباحة أكلهم من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى إنما نهاهم عن مناحكة عباد الأصنام وأكل ما يذبحونه باسم الأصنام، قالوا: التوارة حرمت علينا أكل الطريفا، قيل لهم: الطريفا هي: الفريسة التي يفترسها الأسد، أو الذئب، أو غيرهما من السباع.
كما قال في التوارة: «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا وللكلب ألقوه» فلما نظر فقهاؤهم إلى أن التوارة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وصرحت التوارة بأن تحريم مؤاكلتهم، ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة، والمناكحة قد تستتبع الانتقال من دينهم إلى أديانهم، وموافقتهم في عبادة الأوثان، ووجدوا جميع هذا واضحا في التوارة، اختلقوا كتابا سموه: «هلكث شحيطا» وتفسيره علم الذباحة.
ووضعوا في هذا الكتاب من الآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والصغار والخزي فأمروهم فيه أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملونها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حرموه، وإن كانت بعض أطراف الرئة لاصقة ببعض لم يأكلوه.
وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة حرموه ولم يأكلوه وسموه: طريفا ومعنى هذه اللفظة عندهم: أنه نجس حرام، وهذه التسمية عدوان منهم؛ فإن معناها في لغتهم هي: الفريسة التي يفترسها السبع، ليس لها معنى في لغتهم سواه.
ولذلك عندهم في التوارة: أن إخوة يوسف لما جاؤا بقميصه ملطخا بالدم قال يعقوب في جملة كلام: «طاروف طوارف يوسف» تفسيره: وحش ردي أكله افتراسا افترس يوسف، وفي التوارة: «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا» فهذا الذي حرمته التوارة من الطريفا، وهذا نزل عليهم وهم في التيه، وقد اشتد قرمهم إلى اللحم، فمنعوا من أكل الفريسة والميتة.
ثم اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة، وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من هذه الشروط فهو دخيا وتفسيره: طاهر.
وما كان خارجا عن ذلك فهو طريفا وتفسيره: نجس حرام، ثم قالوا: معنى قوله في التوارة: «ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه، للكلب ألقوه» يعني: إذا ذبحتم ذبيحة، ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم، قالوا: ومعنى قوله: «للكلب ألقوه» أي: لمن ليس على ملتكم فهو الكلب فأطعموه إياه بالثمن.
فتأمل هذا التحريف والكذب على الله وعلى التوراة وعلى موسى، ولذلك كذبهم الله على لسان رسوله في تحريم ذلك فقال في السورة المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب: (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) الآية.
وقال في سورة الأنعام: (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم. وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) فهذا تحريم زائد على تحريم الأربعة المتقدمة.
وقال في سورة النحل، وهي بعد هذه السورة نزولا: (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) فهذا المحرم عليهم بنص التوارة ونص القرآن.
فلما نظر القراؤون منهم وهم أصحاب عايان، وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة، والافتراء الفاحش والكذب البارد على الله وعلى التوارة وعلى موسى، وأن أصحاب التلمود والمشنا كذابون على الله وعلى التوارة وعلى موسى، وأنهم أصحاب حماقات ورقاعات وأن أتباعهم ومشايخهم يزعمون أن الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان ويسمون هذا الصوت بث قول.
فلما نظر القراؤون إلى هذا الكذب المحال قالوا: قد فسق هؤلاء ولا يجوز قبول خبر فاسق ولا فتواه، فخالفوهم في سائر ما أصلوه من الأمور التي لم ينطق بها نص التوارة.
وأما تلك الترهات التي ألفها فقهاؤهم الذين يسمونهم الحخاميم في علم الذباحة، ورتبوها ونسبوها إلى الله فأطرحها القراؤون كلها وألغوها، وصاروا لا يحرمون شيئا من الذبائح التي يتولون ذبحها البتة، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف إلا أنهم يبلغون في الكذب على الله، وهم أصحاب ظواهر مجردة والأولون أصحاب استنباط وقياسات.
والفرقة الثانية يقال لهم: الربانيون وهم أكثر عددا، وفيهم الحخاميم الكذابون على الله الذين زعموا أن الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه بث قول.
وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، فإن الحخاميم أوهموهم بأن الذبائح لا يحل منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها، فإن سائر الأمم لا تعرف هذا، وأنه شيء خصوا به وميزوا بهم عمن سواهم، وأن الله شرفهم به كرامة لهم، فصار الواحد منهم ينظر إلى من ليس على نحلته كما ينظر إلى الدابة، وينظر إلى ذبائحه كما ينظر إلى الميتة.
وأما القراؤون فأكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام ونفعهم تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها إلى أن لم يبق منهم إلا القليل، لأنهم أقرب استعدادا لقبول الإسلام لأمرين:
أحدهما: إساءة ظنهم بالفقهاء الكذابين المفترين على الله، وطعنهم عليهم.
الثاني: تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها، وإبطال معانيها.
وأما أولئك الربانيون فإن فقهاءهم وحخاميمهم حصروا في مثل سم الخياط بما وضعوا لهم من التشديدات والآصار والأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبة لهم، وكان لهم في ذلك مقاصد
منها أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم، حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطهم بهم إلى موافقتهم والخروج من السبت واليهودية.
القصد الثاني أن اليهود مبدون في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها، كما قال تعالى: (وقطعناهم في الأرض أمما).
وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في الاحتياط، فإن كان فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهمهم قلة دينهم وعلمهم، وكلما شدد عليهم قالوا: هذا هو العالم، فأعلمهم أعظمهم تشديدا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذباح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول: لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون: هذا عالم غريب قدم علينا، فلا يزال ينكر عليهم الحلال، ويشدد عليهم الآصار والأغلال، ويفتح لهم أبواب المكر، والاحتيال، وكلما فعل هذا، قالوا: هذا العالم الرباني، والحخيم الفاضل، فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله، وقبل بينهم مقاله، وزن نفسه معه، فإذا رأى أنه ازدرى به، وطعن عليه لم يقبل منه، فإن الناس في الغالب يميلون مع الغريب، وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين، ولا يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدد عليهم وضيق.
وكلما كان الرجل أعظم تضييقا وتشديدا، كان أفقه عندهم، فينصرف عن هذا الرأي، فيأخذ في مدحه وشكره، فيقول: لقد عظم ثواب فلان إذ قوّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة، وشيّد أساسه، وأحكم سياج الشرع، فيبلغ القادم قوله، فيقول: ما عندكم أفقه منه، ولا أعلم بالتوراة، وإذا لقيه يقول: زين إليه بك أهل بلدنا، ونعش بك هذه الطائفة!
وإن كان القادم عليهم حبرا من أحبارهم، فهناك ترى العجب العجيب من الناموس التي تراه يعتمده، والسنن التي يحدثها، ولا يعترض عليه أحد، بل تراهم مسلمين له، وهو يحتلب درّهم، ويجتلب درهمهم.
وإذا بلغه عن يهودي طعن عليه، صبر عليه حتى يرى منه جلوسا على قارعة الطريق يوم السبت، أو يبلغه أنه اشترى من مسلم لبنا، أو خمرا، أو خرج عن بعض أحكام المشنا والتلمود، فحرمه بين ملأ اليهود، وأباحهم عرضه، ونسبه إلى الخروج عن اليهودية، فيضيق به البلد على هذه الحال، فلا يسعه إلا أن يصلح ما بينه وبين الحبر بما يقتضيه الحال، فيقول لليهود: إن فلانا قد أبصر رشده، وراجع الحق، وأقلع عما كان فيه، وهو اليوم يهودي على الوضع، فيعودون له بالتعظيم والإكرام.