هداية الحيارى/الفصل الرابع: نصوص الكتب المتقدمة في البشارة به وصفته ونعت أمته
الفصل الرابع: نصوص الكتب المتقدمة في البشارة به وصفته ونعت أمته
فهذه الوجوه على تقدير عدم العلم بوجود نعته وصفته والخبر عنه في الكتب المتقدمة، ونحن نذكر بعض ما ورد فيها، من البشارة به، ونعته، وصفته، وصفة أمته، وذلك يظهر من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى في التوراة: «سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك اجعل كلامي في فِيه ويقول لهم ما آمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه» فهذا النص مما لا يمكن أحد منهم جحده وإنكاره؛ ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق:
أحدها حمله على المسيح وهذه طريقة النصارى.
وأما اليهود فلهم فيه ثلاثة طرق:
أحدها أنه على حذف أداة الاستفهام، والتقدير: أءقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أي لا أفعل هذا، فهو استفهام إنكار حذفت منه أداة الاستفهام.
الثاني أنه خبر ووعد، ولكن المراد به شمويل النبي، فإنه من بني إسرائيل، والبشارة إنما وقعت بنبي من إخوتهم، وإخوة القوم هم بنو أبيهم، وهم بنوا إسرائيل.
الثالث أنه نبي يبعثه الله في آخر الزمان، يقيم به ملك اليهود ويعلو به شأنهم وهم ينتظرونه إلى الآن.
وقال المسلمون: البشارة صريحة في النبي ﷺ العربي الأمي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لا يحتمل غيره؛فإنها إنما وقعت بنبي من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل نفسهم، والمسيح من بني إسرائيل، فلو كان المراد بها هو المسيح لقال: أقيم لهم نبيا من أنفسهم، كما قال تعالى:
(لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) وإخوة بني إسرائيل هم بنوا إسماعيل، ولا يعقل في لغة أمة من الأمم أن بني إسرائيل هم أخوة بني إسرائيل، كما أن إخوة زيد لا يدخل فيهم زيد نفسه.
وأيضا فإنه قال: «نبيا مثلك» وهذا يدل على أنه صاحب شريعة عامة مثل موسى، وهذا يبطل حمله على شمويل من هذا الوجه أيضا، ويبطل حمله على يوشع من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه من بني إسرائيل لا من إخوتهم.
الثاني: أنه لم يكن مثل موسى الثاني، وفي التوراة لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى.
الثالث أن يوشع نبي في زمن موسى، وهذا الوعد إنما هو بنبي يقيمه الله بعد موسى.
وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل حمله على هارون، مع أن هارون توفي قبل موسى، ونبأه الله مع موسى في حياته.
ويبطل ذلك من وجه «رابع» أيضا وهو أن في هذه البشارة أنه ينزل عليه كتابا يظهر للناس من فيه، وهذا لم يكن لأحد بعد موسى غير النبي ﷺ، وهذا من علامات نبوته التي أخبرت بها الأنبياء المتقدمون، قال تعالى:
(وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الأولين، أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).
فالقرآن نزل على قلب رسول الله ﷺ وظهر للأمة من فِيه، ولا يصح حمل هذه البشارة على المسيح باتفاق النصارى لأنها إنما جاءت بواحد من إخوة بني إسرائيل، وبنو إسرائيل وإخوتهم كلهم عبيد ليس فيهم إله، والمسيح عندهم إله معبود، وهو أجل عندهم من أن يكون من إخوة العبيد، والبشارة وقعت بعبد مخلوق يقيمه الله من جملة عبيده وأخوتهم، وغايته أن يكون نبيا لا غاية له فوقها، وهذا ليس هو المسيح عند النصارى.
وأما قول المحرفين لكلام الله: أن ذلك على حذف ألف الاستفهام وهو استفهام إنكار، والمعنى: لا أقيم لبني إسرائيل نبيا.
فتلك عادة لهم معروفة في تحريف كلام الله عن مواضعه، والكذب على الله، وقولهم لما يبدلونه ويحرفونه هذا من عند الله، وحمل هذا الكلام على الاستفهام والإنكار غاية ما يكون من التحريف والتبديل، وهذا التحريف والتبديل من معجزات النبي ﷺ التي أخبر بها عن الله من تحريفهم وتبديلهم، فأظهر الله صدقه في ذلك لكل ذي لب وعقل، فازداد إيمانا إلى إيمانه، وازداد الكافرون رجسا إلى رجسهم.
الوجه الثاني: قال في التوراة في السفر الخامس: «أقبل الله من سيناء، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، ومعه ربوات الإظهار عن يمينه» وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة: نبوة موسى، ونبوة عيسى، ونبوة محمد ﷺ، فمجيئه من سينا: وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، ونبأه عليه إخبار عن نبوته، وتجليه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت المقدس، وساعير: قرية معروفة هناك إلى اليوم، وهذه بشارة بنبوة المسيح.
وفاران: هي مكة، وشبه سبحانه نبوة موسى بمجيء الصبح، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ونبوة خاتم الأنبياء باستعلات الشمس، وظهور ضوءها في الآفاق، ووقع الأمر كما أخبر به سواء.
فإن الله سبحانه صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة (التين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين).
فذكر أمكنة هؤلاء الأنبياء وأرضهم التي خرجوا منها (والتين والزيتون)والمراد بهما: منبتها، وأرضهما وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح، (وطور سينين)الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فهو مظهر نبوته، (وهذا البلد الأمين) مكة حرم الله وأمنه التي هي مظهر نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم.
فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة، سواء قالت اليهود: «فاران»: هي أرض الشام وليست أرض الحجاز، وليس هذا ببدع من بهتهم وتحريفهم، وعندهم في التوراة: أن إسماعيل لما فارق أباه سكن في برية فاران.
هكذا نطقت التوراة، ولفظها: «وأقام إسماعيل في برية فاران، وأنكحته أمه امرأة من جرهم» ولا يشك علماء أهل الكتاب أن فاران مسكن لآل إسماعيل، فقد تضمنت التوراة نبوة تنزل بأرض فاران، وتضمنت نبوة تنزل على عظيم من ولد إسماعيل، وتضمنت انتشار أمته وأتباعه حتى يملؤا السهل والجبل كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ولم يبق بعد هذا شبهة أصلا إن هذه هي نبوة محمد ﷺ التي نزلت بفاران، على أشرف ولد إسماعيل حتى ملأت الأرض ضياء ونورا وملأ أتباعه السهل والجبل، ولا يكثر على الشعب الذي نطقت التوراة بأنهم عادموا الرأي والفطانة ينقسموا إلى جاهل بذلك، وجاحد مكابر معاند، ولفظ التوراة فيهم: «إنهم لشعب عادم الرأي، وليس فيهم فطانة» ويقال لهؤلاء المكابرين: أي نبوة خرجت من الشام فاستعلت استعلاء ضياء الشمس، وظهرت فوق ظهور النبوتين قبلها؟ !وهل هذا إلا بمنزلة مكابرة من يرى الشمس قد طلعت من الشرق فيغالط ويكابر، ويقول بل طلعت من المغرب!
الوجه الثالث: قال في التوراة في السفر الأول: «إن الملك ظهر لهاجر أم إسماعيل، فقال: يا هاجر من أين أقبلت والى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فأني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا أسميه إسماعيل لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك، وولدك يكون وحش للناس، وتكون يده على الكل، ويد الكل مبسوطة إليه بالخضوع».
وهذه بشارة تضمنت أن يد ابنها على يد كل الخلائق، وأن كلمته العليا، وأن أيدي الخلق تحت يده، فمن هذا الذي ينطبق عليه هذا الوصف سوى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟
وكذلك في السفر الأول من التوراة: أن الله قال: «لإبراهيم إني جاعل ابنك إسماعيل لأمة عظيمة إذ هو من زرعك» وهذه بشارة بمن جعل من ولده لأمة عظيمة، وليس هو سوى محمد بن عبد الله الذي هو من صميم ولده، فإنه جعل لأمة عظيمة، ومن تدبر هذه البشارة جزم بأن المراد بها رسول الله ﷺ، لأن إسماعيل لم تكن يده فوق يد إسحاق قط، وكانت يد إسحاق مبسوطة إليه بالخضوع.
وكيف يكون ذلك وقد كانت النبوة والملك في إسرائيل والعيص وعما ابنا إسحاق فلما، بعث رسول الله ﷺ، وانتقلت النبوة إلى ولد إسماعيل ودانت له الأمم وخضعت له الملوك، وجعل خلافة الملك إلى أهل بيته إلى آخر الدهر، وصارت أيديهم فوق أيدي الجميع مبسوطة إليهم بالخضوع.
وكذلك في التوراة في السفر الأول: «إن الله تعالى قال لإبراهيم إن في هذا العام يولد لك ولد اسمه إسحاق، فقال إبراهيم: ليت إسماعيل هذا يحي بين يديك يمجدك، فقال الله تعالى: قد استجبت لك في إسماعيل وإني أباركه وأيمنه وأعظمه جدا جدا بما قد استجبت فيه، وإني أصيره إلى أمة كثرة وأعطيه شعبا جليلا» والمراد بهذا كله الخارج من نسله، فإنه هو الذي عظمه الله جدا جدا وصيره إلى أمة كثيرة، وأعطاه شعبا جليلا، ولم يأت من صلب إسماعيل من بورك وعظم وانطبقت عليه هذه العلامات غير رسول الله ﷺ، فأمته ملؤا الآفاق وأربوا في الكثرة على نسل إسحاق.
الوجه الرابع: قال في التوراة في السفر الخامس: «قال موسى لبني إسرائيل: لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين، فسيقيم لكم الرب نبيا من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي» ولا يجوز أن يكون هذا النبي الموعود به من أنفس بني إسرائيل لما تقدم أن أخوة القوم ليسوا أنفسهم، كما يقول: بكر وتغلب ابنا وائل، ثم يقول: تغلب أخوة بكر وبنو بكر أخوة بني تغلب، فلو قلت: أخوة بني بكر بنو بكر كان محالا، ولو قلت: لرجل أتيني برجل من أخوة بني بكر بن وائل، لكان الواجب أن يأتيك برجل من بني تغلب ابن وائل لا بواحد من بني بكر.
الوجه الخامس: ما في الإنجيل: «إن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق، لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد علي وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس، وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به». وفي إنجيل يوحنا: «الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، وإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه مما يسمع به، ويكلمكم ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب».
وفي موضع آخر «أن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي باسمي، هو يعلمكم كل شيء».
وفي موضع آخر «إني سائل له أن يبعث إليكم فارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء».
وفي موضع آخر «ابن البشر ذاهب والفارقليط من بعده يحبي لكم بالأسرار ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل».
قال أبو محمد بن قتيبية: وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة، وإنما اختلفت لأن من نقلها عن المسيح ﷺ في الإنجيل من الحواريين عدة، «والفارقليط»: بلغتهم لفظ من ألفاظ الحمد، أما أحمد، أو محمد، أو محمود، أو حامد، أو نحو ذلك، وهو في الإنجيل الحبشي «ابن نعطيس».
وفي موضع آخر «إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد، ويتكلم بروح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه، ولست أدعكم أيتاما إني سآتيكم عن قريب».
وفي موضع آخر «ومن يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتحد المنزل، كلمتكم بهذا لأني لست عندكم مقيما، والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كلما قلت لكم، استودعتكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، فإني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمعنى الأب فإن ثبت كلامي فيكم كان لكم كلما تريدون».
وفي موضع آخر «إذا جاء الفراقليط الذي أبي أرسله روح الحق الذي من أبي يشهد لي، قلت لكم حتى إذا كان تؤمنوا ولا تشكوا فيه».
وفي موضع آخر «إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب».
وقال يوحنا: قال المسيح: «إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء».
وقال متى: قال المسيح: «ألم تروا أن الحجر الذي أخره البنّاؤن صار أسا للزاوية من عند الله، كان هذا وهو عجيب في أعيننا، ومن أجل ذلك أقول لكم إن ملكوت الله سيأخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى، تأكل ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر ينشدخ، وكل من سقط هو عليه يمحقه».
وقد اختلف في الفارقليط في لغتهم فذكروا فيه أقوالا ترجع إلى ثلاث: أحدهما:
إنه الحامد والحماد أو الحمد كما تقدم، ورجحت طائفة هذا القول، وقال الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم: أنه الحمد، والدليل عليه قول يوشع: «من عمل حسنة يكون له فارقليط جيد» أي حمد جيد.
والقول الثاني: وعليه أكثر النصارى أنه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص، قالوا: وهذه كلمة سريانية ومعناها المخلص، قالوا: وهو بالسريانية فاروق، فجعل «فارق» قالوا: و«ليط» كلمة تزاد، ومعناها: كمعنى قول العرب: رجل هو، وحجر هو، وفرس هو.
قالوا: فكذلك معنى ليط في السريانية.
وقالت طائفة أخرى من النصارى: معناه بالسريانية المعزّى قالوا: وكذلك هو في اللسان اليوناني.
ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم يكن لغته سريانية، ولا يونانية، بل عبرانية، وأجيب عن هذا بأنه يتكلم بالعبرانية والإنجيل إنما نزل باللغة العبرانية، وترجم عنه بلغة السريانية، والرومية، واليونانية، وغيرهما، وأكثر النصارى على أنه المخلص، والمسيح نفسه يسمونه المخلص، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال: «إنما أتيت لأخلص العالم».
والنصارى يقولون في صلاتهم: لقد ولدت لنا مخلصا ولما لم يمكن النصارى إنكار هذه النصوص حرفوها أنواعا من التحريف، فمنهم من قال: هو روح نزلت على الحواريين.
ومنهم من قال: هو ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا بها الآيات والعجائب.
ومنهم من يزعم: أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما وكونه قام من قبره.
ومنهم من قال: لا يعرف ما المراد بهذا الفارقليط، ولا يتحقق لنا معناه.
ومن تأمل ألفاظ الإنجيل وسياقها، علم أن تفسيره بالروح باطل، وأبطل منه تفسيره بالألسن النارية، وأبطل منهما تفسيره بالمسيح، فإن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده، وليست موصوفة بهذه الصفات، وقد قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانو آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
وقال النبي ﷺ لحسان ابن ثابت لما كان يهجو المشركين: «اللهم أيده بروح القدس» وقال: «إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه».
وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فارقليطا علم أن الفارقليط أمر غير هذا.
وأيضا فمثل هذه الروح لا زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون وما بشر به المسيح، ووعد به أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا، وأيضا فإنه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا الروح وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له، فإنه قال: «إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد».
فقوله «فارقليطا آخر» دل على أنه ثان لأول كان قبله، وأنه لم يكن معهم في حياة المسيح وإنما يكون بعد ذهابه، وتوليه عنهم، وأيضا فإنه قال: «يثبت معكم إلى الأبد» وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر، ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته فعلم أنه بقاء شرعه وأمره.
والفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف الأول، وهذا إنما ينطبق على محمد ﷺ.
وأيضا فإنه أخبر أن هذا الفارقليط الذي أخبر به يشهد له ويعلمهم كل شيء، وأنه يذكر لهم كل ما قال المسيح، وأنه يوبخ العالم على خطيئته، فقال:
«والفارقليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كلما قلت لكم، وقال إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله هو يشهد أني قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به، ولا تشكوا فيه، وقال إن خيرا لكم إن انطلق إلى أبي، إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط، فإن، انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة فإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقول لكم، ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب».
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على أمر معنوي في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه، وإنما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه، فيشهد للمسيح ويعلمهم كل شيء، ويذكرهم كلما قال لهم المسيح.
ويوبخ العالم على الخطيئة، ويرشد الناس إلى جميع الحق، ولا ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبرهم بكل ما يأتي، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين، وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد، ولا يكون هدى وعلما في قلب بعض الناس، ولا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب بما أخبر به المسيح.
وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا، بل يكون أعظم من المسيح، فإن المسيح أخبر أنه يقدر على ما لا بقدر عليه المسيح، ويعلم ما لا يعلمه المسيح، ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحقه الرب حيث قال:
«إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب».
فلا يستريب عاقل أن هذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد ﷺ، وذلك لأن الأخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات، وعن ملائكته، وعن ملكوته، وعما أعده في الجنة لأوليائه، وفي النار لأعدائه، أمر لا تحتمل عقول أكثر الناس معرفته على التفصيل.
قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
وقال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: (الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن) قال: ما يؤمنك أن لو أخبرتك بها لكفرت.
يعني: لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت بها، وكفرك بها تكذيب بها، فقال لهم المسيح: «إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله» وهو الصادق المصدوق وفي هذا، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات الله تعالى، وصفات ملكوته، وصفات اليوم الآخر، إلا أمور مجملة.
وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة، مع أن موسى ﷺ كان قد سهل الأمر للمسيح، ومع هذا فقد قال لهم المسيح:
«إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله»، ثم قال: «ولكن إذا جاء روح الحق فذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، وأنه يخبركم بكل ما يأتي، وبجميع ما للرب».
فدل هذا على أن الفارقليط هو الذي بفعل هذا دون المسيح، وكذلك كان، فإن محمدا ﷺ أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق نبي يأتي بعده غيره.
وأخبر محمدا ﷺ بكل ما يأتي من أشراط الساعة، والقيامة، والحساب، والصراط، ووزن الأعمال، والجنة وأنواع نعيمها، والنار وأنواع عذابها، ولهذا كان في القرآن تفصيل أمر الآخرة وذكر الجنة والنار وما يأتي أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل وذلك تصديق قول المسيح أنه يخبر بكل ما يأتي، وذلك يتضمن صدق المسيح وصدق محمد ﷺ، وهذا معنى قوله تعالى: (أنهم إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين).
أي: مجيئه تصديق للرسل قبله، فإنهم أخبروا بمجيئه فجاء كما أخبروا به، فتضمن مجيئه تصديقهم، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه، ومحمد ﷺ بعثه الله بين يدي الساعة، كما قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى».
وكان إذا ذكر الساعة؛ علا صوته، واحمر وجهه، واشتد غضبه، وقال: «أنا النذير العريان».
فأخبر من الأمور التي تأتي في لمستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء، كما نعته به المسيح حيث قال: «إنه يخبركم بكل ما يأتي». ولا يوجد مثل هذا أصلا عن أحد من الأنبياء قبل محمد ﷺ، فضلا عن أن يوجد عن شيء نزل عل قلب بعض الحواريين.
وأيضا فإنه قال: «ويعرفكم جميع ما للرب» فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات، وما له من الحقوق، وما يجب من الإيمان به، وملائكته، وكتبه، ورسله، بحيث يكون يأتي به جامعا لما يستحقه الرب وهذا لم يأت به غير محمد ﷺ فإنه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة هذا كله.
وأيضا فإن المسيح قال: «إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أبي، فهو يشهد لي، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به»، فأخبر أنه شهد له، وهذه صفة نبي بشر به المسح ويشهد للمسيح، كما قال تعالى:
(وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة، وهذا يستحيل على معنى يقوم بقلب الحواريين، فإنهم آمنوا به، وشهدوا له قبل ذهابه، فكيف يقول: «إذا جاء فإنه يشهد لي» ويوصيهم بالإيمان به، أفترى الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح؟ فهذا من أعظم جهل النصارى وضلالهم.
وأيضا فإنه لم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد ﷺ، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس، ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان، ولم يقتصر على مجرد النهي، بل وبخهم وفزعهم وتهددهم.
وأيضا فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع.
وهذا إخبار بأن كلما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئا تعلمه من الناس، أو عرفه باستنباط، وهذه خاصة محمد ﷺ.
وأما المسيح فكان علم بما جاء به موسى قبله ويشاركه به أهل الكتاب تلقاه عمن قبله، ثم جاءه وحي خاص من الله فوق ما كان عنده قال تعالى:
(ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)، فأخبر سبحانه أنه يعلمه التوارة التي تعلمها بنو إسرائيل، وزاده تعليم الإنجيل الذي اختص به، والكتاب الذي هو الكتابة، ومحمد ﷺ لم يكن يعلم قبل الوحي شيئا البتة، كما قال تعالى:
(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان). وقال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبل لمن الغافلين) فلم يكن ﷺ ينطق من تلقاء فسه، بل إنما كان ينطق بالوحي، كما قال تعالى:
(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) أي: ما نطقه إلا وحي يوحى وهذا مطابق لقول المسيح أنه لا يتكلم من تلقاء نفسه بل إنما يتكلم بما يوحى إليه، والله تعالى أمره أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له العصمة في تبليغ رسالاته.
فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق، وألقى للناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء، ألقاه خوفا أن يقتله قومه، وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده، وأنهم لا يطيقون حمله، وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور، ومحمد ﷺ أيده الله سبحانه تأييدا لم يؤيده لغيره: فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره، وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم، فلا يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح: «إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكن لا تستطيعون حمله». ولا ريب أن أمة محمد ﷺ أكمل عقولا، وأعظم إيمانا، وأتم تصديقا وجهادا، ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم.
وأيضا فإنه أخبر عن الفارقليط أنه شهد له، وأنه يعلمهم كل شيء، وأنه يذكرهم كلما قال المسيح، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له بشهادة يسمعها الناس لا يكون هذا في قلب طائفة قليلة.
ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد ﷺ، فإنه أظهر أمر المسيح، وشهد له بالحق، حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض، وعلموا أنه صدق المسيح، ونزهه عما افتراه عليه اليهود، وما غالت فيه النصارى، فهو الذي شهد له بالحق، ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد ﷺ للمسيح قال لهم: «بما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود».
وجعل الله أمة محمد صلى الله وسلم (شهداء على الناس) شهدوا عليهم بما علموا من الحق، إذ كانوا وسطا عدولا لا يشهدون بباطل، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا، بخلاف من جار في شهادته، فزاد على الحق، أو نقص منه، كشهادة اليهود للنصارى في المسيح.
أيضا فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد، أو الحماد، أو المحمود، أو الحمد، فهذا الوصف ظاهر في محمد ﷺ، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال، وهو صاحب لواء الحمد، مفتاح خطبته ومفتاح صلاته، ولما كان حمادا سمى بمثل وصفه، فهو محمد وزن مكرم ومعظم ومقدس، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمده غيره ويستحق ذلك، فلما كان حمادا لله كان محمدا، وفي شعر حسان:
أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله ميمون يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
وأما أحمد: فهو أفعل التفضيل، أي: هو أحمد من غيره أي أحق بأن يكون محمودا أكثر من غيره، يقال: هذا أحمد من هذا، أي: هذا أحق بأن يحمده من هذا، فيكون تفضيل على غيره في كونه محمودا.
فلفظ محمد يقتضي زيادة في الكمية، ولفظ أحمد يقتضي زيادة في الكيفية، ومن الناس من يقول: معناه أنه أكثر حمدا لله كان من غيره، وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد، وعلى الأول بمعنى المحمود. وأن الفارقليط بمعنى: الحمد، فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد، كما يقال: رجل عدل ورضي ونظائر ذلك، وبهذا يظهر سر ما أخبر به القرآن عن المسيح من قوله: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)، فإن هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم، وفي التوراة ما ترجمته بالعربية:
«وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاك ها أنا قد باركت فيه وأثمره وأكبره بمأذ بمأذ»، هكذا هذه «مأذ» اللفظة مأذ على وزن عمر، وقد اختلف فيها علماء أهل الكتاب فطائفة يقولون معناها جدا جدا، أي: كثيرا كثيرا، فإن كان هذا معناها فهو بشارة بمن عظم من بنيه كثيرا كثيرا، ومعلوم أنه لم يعظم من بنيه أكثر مما عظم من محمد ﷺ.
وقالت طائفة أخرى: بل هي صريح اسم محمد، قالوا: ويدل عليه أن ألفاظ العبرانية قريبة من ألفاظ العربية، فهي أقرب اللغات إلى العربية.
فإنهم يقولون لإسماعيل: شماعيل، وسمعتك: شمعتيني، وإياه: أو ثو، وقدسك: قدشيخا، وأنت: أنا، وإسرائيل: سيرائيل.
فتأمل قوله في التوراة «قدس لي خل بخور خل ريخم بني سرائيل باذام ويبياميل» معناه: قدس لي كل بكر كل أول مولود رحم في بني إسرائيل من إنسان إلى بهيمة لي.
وتأمل قوله: «نابي أقيم لاهيم تقارب أخيهم كانوا أخا إيلاؤه شماعون» فإن معناه نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به يؤمنون، وكذلك قوله «أنتم عابر تم بعيولي أجيخيم بنوا عيصاه» معناه: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص.
ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر، فإذا أخذت لفظة "مؤذ مؤذ" وجدتها أقرب شيء إلى لفظة محمد، وإذا ردت تحقيق ذلك فطابق بين ألفاظ العبرانية والعربية، وكذلك يقولون: «أصبوع أو لو هم هوم» أي: أصبع الله كتب له بها التوراة، ويدل على ذلك أداة الباء في قوله: «بمأذ مأذ» ولا يقال أعظمه بجدا جدا؛ بخلاف أعظمه بمحمد.
وكذلك فإنه هو عظم به وازداد به شرفا إلى شرفه؛ بل تعظيمه؛ بمحمد ابنه ﷺ فوق تعظيم كل والد بولده العظيم القدر، فلله سبحانه كبره بمحمد ﷺ، وعلى التقديرين فالنص من أظهر البشارات به، أما على هذا التفسير فظاهر جدا، وأما على التفسير الأول فإنما كبر إسماعيل وعظم على إسحاق جدا جدا بابنه محمد ﷺ.
فإذا طابقت بين معنى الفارقليط ومعنى «موذ موذ» ومعنى «محمد، وأحمد» ونظرت إلى خصال الحمد التي فيه، وتسمية أمته بالحمادين، وافتتاح كتابه بالحمد، وافتتاح الصلاة بالحمد، وختم الركعة بالحمد، وكثرة خصال الحمد التي فيه وفي أمته وفي دينه كتابه وعرفت ما خلص به العالم من أنواع الشرك والكفر والخطايا والبدع والقول على الله بلا علم، وما أعز الله به الحق وأهله، وقمع به الباطل وحزبه، تيقنت أنه الفارقليط بالاعتبارات كلها، فمن هذا الذي هو روح الحق الذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه؟
ومن هو العاقب للمسيح، والشاهد لما جاء به، والمصدق له بمجيئه، ومن الذي أخبرنا بالحوادث في الأزمنة المستقبلة، كخروج الدجال، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول المسيح ابن مريم، وظهور النار التي تحشر الناس، وأضعاف أضعاف ذلك من الغيوب التي قبل يوم القيامة، والغيوب الواقعة من الصراط، والميزان، والحساب، وأخذ الكتب بالأيمان والشمايل.
وتفاصيل ما في الجنة والنار، ما لم يذكر في التوارة والإنجيل، غير محمد ﷺ؟
ومن الذي وبخ العالم على الخطايا سواه؟
ومن الذي عرف الأمة ما ينبغي لله حق التعريف غيره؟
ومن الذي تكلم في هذا الباب بما لم يطق أكثر العالم أن يقبلوه غيره حتى عجزت عنه عقول كثير ممن صدقه وآمن به، فساموه أنواع التحريف والتأويل لعجز عقولهم عن حمله، كما قال أخوه المسيح صلوات الله عليهما وسلامه؟
ومن الذي أرسل إلى جميع الخلق بالحق قولا وعملا واعتقادا في معرفة الله، وأسمائه، وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، وقضائه وقدره، غيره؟
ومن هو أركون العالم الذي أتى بعد المسيح غيره؟
وأركون العالم هو عظيم العالم، وكبير العالم، وتأمل قول المسيح في هذه البشارة التي لا ينكرونها، «إن أركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شيء» كيف هي شاهدة بنبوة المسيح ونبوة محمد معا، فإنه لما جاء صار الأمر له دون المسيح.
فوجب على العالم كلهم طاعته، والانقياد لأمره، وصار الأمر له حقيقة. ولم يبق بأيدي النصارى إلا دين باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ بما بعث الله به محمد ﷺ، فطابق قول المسيح قول أخيه محمد ﷺ: «ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيحكم بكتاب ربكم» وقوله في اللفظ الآخر: «يأتيكم بكتاب ربكم» فطابق قول الرسولين الكريمين، وبشر الأول بالثاني، وصدق الثاني بالأول.
وتأمل قوله في البشارة الأخرى: «ألم ترى إلى الحجر الذي أخره البناؤن صار أسا للزاوية» كيف تجده مطابقا لقول النبي صلى الله عليه: «ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها، ويقولون: هلا وضعت تلك اللبنة؟ فكنت أنا تلك اللبنة»
وتأمل قول المسيح في هذه البشارة: «إن ذلك عجيب في أعيننا»، وتأمل قوله فيها: «إن ملكوت الله سيأخذ منكم، ويدفع إلى أمة أخرى»، كيف تجده مطابقا لقوله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) وقوله:
(وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).
وتأمل قوله في الفارقليط المبشر به: «يفشى لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل» وكيف تجده مطابقا للواقع من كل وجه ولقوله تعالى: (وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) ولقوله تعالى: (ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).
وإذا تأملت التوراة والإنجيل والكتب، وتأملت القرآن وجدته كالتفصيل لمجملها والتأويل لأمثالها والشرح لرموزها، وهذا حقيقة قول المسيح: «أجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل ويفسر لكم كل شيء».
وإذا تأملت قوله: «وكل شيء عده الله لكم به» وتفاصيل ما أخبر به من الجنة والنار والثواب والعقاب تيقنت صدق المرسولين الكريمين، ومطابقة الأخبار المفصلة من محمد ﷺ للخبر المجمل من أخيه المسيح.
وتأمل قوله في الفارقليط «وهو يشهد لي كما شهدت له» كيف تجده منطبقا على محمد بن عبد الله، وكيف تجده شاهدا بصدق الرسولين، وكيف تجده صريحا في رجل يأتي بعد المسيح يشهد له بأنه عبد الله ورسوله كما شهد له المسيح؟
فلقد أذن المسيح بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهما أذانا لم يؤذنه نبي قبله، وأعلن بتكبير ربه أن يكون له صاحبة أو ولد، ثم رفع صوته بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا فردا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ثم أعلن بشهادة أن محمدا عبده ورسوله الشاهد له بنبوته، المؤيد بروح الحق، الذي لا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بما يوحي إليه، ويعلمهم كل شيء، ويخبرهم ما أعد الله لهم، ثم رفع صوته بحي على الفلاح باتباعه، والإيمان به وتصديقه وأنه ليس له من الأمر معه شيء، وختم التأذين بأن ملكوت الله سيؤخذ ممن كذبه ويدفع إلى اتباعه والمؤمنين به، فهلك من هلك عن بينة، وعاش من عاش عن بينة، فاستجاب اتباع المسيح حقا لهذا التأذين، وأباه الكافرون والجاحدون، فقال تعالى:
(إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم فيه تختلفون). وهذه بشارة بأن المسلمين لا يزالون فوق النصارى إلى يوم القيامة، فإن المسلمين هم أتباع المرسلين في الحقيقة، وأتباع جميع الأنبياء لا أعداؤه، وأعداؤه النصارى الذين رضوا أن يكون إلها مصفوعا مصلوبا مقتولا، ولم يرضوا أن يكون نبيا عبدا لله وجيها عنده مقربا لديه، فهؤلاء أعداؤه حقا والمسلمون أتباعه حقا، والمقصود أن بشارة المسيح بالنبي ﷺ فوق كل بشارة، لما كان أقرب الأنبياء إليه، وأولاهم به، وليس بينه وبينه نبي.
وتأمل قول المسيح: «إن أركون العالم سيأتي» وأركون العالم هو سيد العالم وعظيمه.
ومن الذي ساد العالم وأطاعه العالم بعد المسيح غير النبي ﷺ؟ وتأمل قول النبي ﷺ وقد سئل ما أول أمرك قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى».
وطابق بين هذا وبين هذه البشارات التي ذكرها المسيح، فمن الذي ساد العالم باطنا وظاهرا وانقادت له القلوب والأجساد، وأطيع في السر والعلانية في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار، وأفضل الأقاليم والأمصار، وسارت دعوته مسير الشمس، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وخرت لمجيئه الأمم على الأذقان، وبطلت به عبادة الأوثان، وقامت به دعوة الرحمن، واضمحلت به دعوة الشيطان، وأذل الكافرين والجاحدين، وأعز المؤمنين، وجاء بالحق وصدق المرسلين.
حتى أعلن بالتوحيد على رؤوس الأشهاد، وعبد الله وحده لا شريك له في كل حاضر وباد، وامتلأت به الأرض تحميدا وتكبيرا الله وتهليلا، وتسبيحا، واكتست به بعد الظلم والظلام عدلا ونورا.
وطابق بين قول المسيح: «أن أركون العالم سيأتيكم» وقول أخيه محمد ﷺ: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي، وأنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا، ومبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي».