هداية الحيارى/المناقضات في الإنجيل
المناقضات في الإنجيل
وأما «الإنجيل» فهي أربعة أناجيل أخذت عن أربعة نفر، اثنان منهم لم يريا المسيح أصلا، واثنان رأياه واجتمعا به، وهما: متى ويوحنا، وكل منهم يزيد وينقص، ويخالف إنجيله إنجيل أصحابه في أشياء، وفيها ذكر القول ونقيضه كما فيه أنه قال: «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة؛ ولكن غيري يشهد لي».
وقال في موضع آخر: «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين جئت وإلى أين أذهب».
وفيه أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال: «قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول؟ يا أبتاه، سلمني من هذا الوقت، وأنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما، وقال: يا إلهي!لم أسلمتني؟ !».
فكيف يجتمع هذا مع قولكم: إنه هو الذي اختار إسلام نفسه إلى اليهود ليصلبوه، ويقتلوه، رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج بذلك آدم، ونوحا، وإبراهيم، وموسى، وجميع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس؟
وكيف يجزع إله العالم من ذلك، وكيف يسأل السلامة منه وهو الذي اختاره ورضيه؟
وكيف يشتد صياحه ويقول: «يا إلهي لم أسلمتني» وهو الذي أسلم نفسه؟
وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه، وإنزال صاعقة على الصليب، وأهله أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود؟
وفيه أيضا: «أن اليهود سألته أن يظهر لهم برهانا أنه المسيح فقال: تهدمون هذا البيت - يعني بيت المقدس - وأبنيه لكم في ثلاثة أيام، فقالوا له: بيت مبني في خمس وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام».
ثم ذكرتم في الإنجيل أيضا: «أنه لما ظفرت به اليهود، وحمل إلى بلاط عامل قيصر، واستدعيت عليه بينة أن شاهدي زور جاءا إليه، وقالا: سمعناه يقول: أنا قادر على بنيان بيت المقدس في ثلاثة أيام».
فيالله العجب كيف يدعي أن تلك المعجزة والقدرة له ويدعي أن الشاهدين عليه بها شاهدا زور؟
وفيه أيضا للوقا: «أن المسيح قال لرجلين من تلامذته: اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما، فإذا دخلتماه فستجدان فلوا مربوطا لم يركبه أحد، فحلاه وأقبلا به إلي».
وقال في إنجيل متى في هذه القصة: «أنها كانت حمارة متبعة».
وفيه أنه قال: «لا تحسبوا أني قدمت لا صلح بين أهل الأرض، لم آت لصلاحهم، لكن لألقي المحاربة بينهم؛ إنما قدمت لأفرق بين المرء وابنه، والبنت وأمها، حتى يصير أعداء المرء أهل بيته».
ثم فيه أيضا: «إنما قدمت لتحيوا، وتزدادوا خيرا، وأصلح بين الناس». وأنه قال: «من لطم خدك اليمين فانصب له الآخر».
وفيه أيضا أنه قال: «طوبا لك يا شمعون رأس الجماعة، وأنا أقول إنك ابن الحجر وعلى هذا الحجر تبني بيعتي، فكلما أحللته على الأرض يكون محللا في السماء، وما عقدته على الأرض يكون معقودا في السماء».
ثم فيه بعينه بعد أسطر يقول له: «اذهب يا شيطان، ولا تعارض فإنك جاهل» فكيف يكون شيطان جاهل مطاع في السموات.
وفي الإنجيل نص: «أنه لم تلد النساء مثل يحيى».
هذا في إنجيل متى، وفي إنجيل يوحنا: «أن اليهود بعثت إلى يحيى من يكشف عن أمره، فسألوه من هو، أهو المسيح؟ قال: لا، قالوا: نراك إلياس؟ قال: لا، قالوا: أنت نبي؟ قال: لا، قالوا: أخبرنا من أنت؟ قال: أنا صوت مناد المفاوز» ولا يجوز لنبي أن ينكر نبوته فإنه يكون مخبرا بالكذب.
ومن العجب أن في إنجيل متى نسبة المسيح إلى أنه ابن يوسف، فقال: عيسى بن يوسف بن فلان، ثم عد إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أبا.
ثم نسبه لوقا أيضا في إنجيله إلى يوسف، وعد منه إلى إبراهيم نيفا وخمسين أبا، فبينا هو إله تام إذ صيروه ابن الإله، ثم جعلوه ابن يوسف النجار؟
والمقصود أن هذا الاضطراب في الإنجيل يشهد بأن التغيير وقع فيه قطعا، ولا يمكن أن يكون ذلك من عند الله؛ بل الاختلاف الكثير الذي فيه يدل على أن ذلك الاختلاف من عند غير الله، وأنت إذا اعتبرت نسخه ونسخ التوراة التي بأيدي اليهود، والسامرة، والنصارى، رأيتها مختلفة اختلافا يقطع من وقف عليه بأنه من جهة التغيير والتبديل، وكذلك نسخ الزبور مختلفة جدا.
ومن المعلوم أن نسخ التوراة والإنجيل إنما هي عند رؤساء اليهود والنصارى، وليست عند عامتهم، ولا يحفظونها في صدورهم كحفظ المسلمين للقرآن، ولا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ، ولا سيما إذا كان بقيتهم لا يحفظونها، فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك، ثم إذا تواطؤا على أن لا يذكروا ذلك لعوامهم وأتباعهم أمكن ذلك.
وهذا واقع في العالم كثيرا، فهؤلاء اليهود تواطئوا وتواصوا بكتمان نبوة المسيح، وجحد البشارة به، وتحريفها، واشتهر ذلك بين طائفتهم في الأرض مشارقها ومغاربها، وكذلك تواطئوا على أنه كان طبيبا ساحرا ممخرقا ابن زانية، وتواصوا به مع رؤيتهم الآيات الباهرات التي أرسل بها، وعلمهم أنه أبعد خلق الله مما رمي به، وشاع ما تواطئوا عليه، وملؤا به كتبهم شرقا وغربا.
وكذلك تواطئوا على أن لوطا نكح ابنتيه وأولدهما أولادا، وشاع ذلك فيهم جميعهم، وتواطئوا على أن الله ندم وبكى على الطوفان وعض أنامله، وصارع يعقوب فصرعه يعقوب، وأنه راقد عنهم، وأنهم يسألونه أن ينتبه من رقدته وشاع ذلك في جميعهم.
وكذلك تواطئوا على فصول لفقوها بعد زاول مملكتهم يصلون بها لم تعرف عن موسى، ولا عن أحد من أتباعه، كقولهم في صلاتهم: «اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا، واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك، يا جامع تشتيت قوم إسرائيل». وقولهم فيها: «أردد حكامنا منا كالأولين، وسيرتنا كالابتداء، وابن أورشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها، سبحانك، يا باني أورشليم» ولم يكن موسى وقومه يقولون في صلاتهم شيئا من ذلك، وكذلك تواطؤهم على قولهم في صلاتهم أول العام ما حكيناه عنهم.
وكذلك تواطؤهم على شرع صوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصا، وصوم كدليا، وفرضهم ذلك، وصوم صلب هامان، وقد اعترفوا بأنهم زادوها لأسباب اقتضتها، وتواطؤا بذلك على مخالفة ما نصت عليه التوراة من قوله: «لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا» فتواطؤا على الزيادة والنقصان، وتبديل أحكام الله، كما تواطؤا على تعطيل فريضة الرجم على الزاني وهو في التوراة نصا.
وكذلك تواطؤهم على امتناع النسخ على الله فيما شرعه لعبادة تمسكا منهم باليهودية، وقد أكذبتهم التوراة وسائر النبوات.
ومن العجائب حجرهم على الله أن ينسخ ما شرعه لئلا يلزم البداء، ثم يقولون: أنه ندم وبكي على الطوفان، وعاد في رأيه، وندم على خلق الإنسان، وهذه مضارعة لإخوانهم من النصارى الذين نزهوا رهبانهم عن الصاحبة والولد، ثم نسبوهما إلى الفرد الصمد.
ومن ذلك تواطؤهم على أن الملك يعود إليهم، وترجع الملل كلها إلى ملة اليهودية، ويصيرون قاهرين لجميع أهل الملل.
ومن ذلك تواطؤهم على تعطيل أحكام التوراة وفرائضها، وتركها في جل أمورهم إلا اليسير منها، وهم معترفون بذلك، وأنه أكبر أسباب زوال ملكهم وعزهم.
فكيف ينكر من طائفة تواطأت على تكذيب المسيح، وجحد نبوته، وبهته وبهت أمه، والكذب الصريح على الله، وعلى أنبيائه، وتعطيل أحكام الله، والاستبدال بها، وعلى قتلهم أنبياء الله أن تتواطأ على تحريف بعض التوراة، وكتمان نعت محمد رسول الله ﷺ وصفته فيها.
وأما اليهود، وعباد الصليب والصور والمزوقة في الحيطان، وشاتموا خالقهم ورازقهم أقبح شتم، وجاعلوه مصفعة اليهود، وتواطؤهم على ذلك، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل.
فلا إله إلا الله الذي أبرز للوجود مثل هذه الأمة... وخلى بينهم وبين سبه وشتمه، وتكذيب عبده ورسوله، ومعاداة حزبه وأوليائه، وموالاة الشيطان، والتعوض بعبادة الصور والصلبان عن عبادة الرحمن الرحيم، وعن قول "الله أكبر" بالتصليب على الوجه، وعن قراءة (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) ب (اللهم أعطنا خبزنا الملائم لنا)، وعن السجود للواحد القهار، بالسجود للصور المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد.
هذا بعض شأن هاتين الأمتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب، فما الظن بسائر الأمم الذين ليس عندهم من النبوة والكتاب حس ولا خبر ولا عين ولا أثر.