البداية والنهاية/الجزء الخامس/وفد أهل نجران
قال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين ثنا يحيى بن آدم عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.
قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا رجلا أمينا.
فقال: «لا يبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين».
فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ وقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح.
فلما قام قال رسول الله ﷺ: «هذا أمين هذه الأمة».
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن سلمة بن يشوع، عن أبيه، عن جده قال يونس: وكان نصرانيا فأسلم - أن رسول الله ﷺ كتب إلى نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان؛ «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران أسلم أنتم، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام».
فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه قطع به وذعر به ذعرا شديدا وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة - وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأتهم، ولا السيد ولا العاقب - فدفع الأسقف كتاب رسول الله ﷺ إلى شرحبيل فقرأه.
فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟
فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي، وجهدت لك.
فقال له الأسقف: تنح فاجلس.
فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي.
فقال له مثل قول شرحبيل.
فقال له الأسقف: تنح فاجلس.
فتنحى فجلس ناحيته وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه.
فقال له مثل قول شرحبيل، وعبد الله، فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحيته، فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران و المسموح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلوا إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله ﷺ وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبار بن فيض الحارثي، فيأتوهم بخبر رسول الله ﷺ.
قال: فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله ﷺ فسلموا فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا يعرفونهما فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس.
فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن!إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما، أترون أن نرجع؟
فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودوا إليه.
ففعلوا فسلموا فرد سلامهم.
ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم».
ثم ساءلهم وسائلوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ليسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه.
فقال رسول الله ﷺ: «ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى».
فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين }. [آل عمران: 59 - 61] .
فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول الله ﷺ الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة.
فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا، ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا متقويا فكنا أول العرب طعن في عيبته، ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بحائجة، وإنا أدنى العرب منهم جوارا ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك.
فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟.
فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا.
فقالا له: أنت وذاك.
قال: فتلقى شرحبيل رسول الله ﷺ فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك.
فقال: «وما هو؟».
فقال: حكمك اليوم إلى الليل، وليلتك إلى الصباح، فما حكمك فينا فهو جائز.
فقال رسول الله ﷺ: «لعل وراءك أحد يثرب عليك؟».
فقال شرحبيل: سل صاحبي.
فقالا: ما ترد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل.
فقال رسول الله ﷺ: «كافر» أو قال: «جاحد موفق».
فرجع رسول الله ﷺ فلم يلاعنهم حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي الأمي رسول الله لنجران أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق، فأفضل عليهم، وترك ذلك كله على ألفي حلة من حلل الأواقي، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة».
وذكر تمام الشروط إلى أن شهد أبو سفيان ابن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة، وكتب حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له: بشر بن معاوية، وكنيته: أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله ﷺ إلى الأسقف، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر، غير أنه لا يكنى عن رسول الله ﷺ.
فقال له الأسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا مرسلا.
فقال له بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتي رسول الله ﷺ فضرب وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له: افهم عني إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه، أو رضينا بصوته، أو نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا.
فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته وهو مولي الأسقف ظهره وارتجز يقول:
إليك تغدو وضينها * معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
حتى أتى رسول الله ﷺ فأسلم ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك، قال: ودخل الوفد نجران، فأتى الراهب ابن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعته فقال له: إن نبيا بعث بتهامة، فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله ﷺ وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبوا، وأن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم.
فقال الراهب: أنزلوني، وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة.
قال: فأنزلوه، فأخذ معه هدية وذهب إلى رسول الله ﷺ، منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء، وقعب، وعصا.
فأقام مدة عند رسول الله ﷺ يسمع الوحي، ثم رجع إلى قومه ولم يقدر له الإسلام، ووعد أنه سيعود، فلم يقدر له حتى توفي رسول الله ﷺ، وأن الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله ﷺ ومعه السيد والعاقب، ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه، وكتب للأسقف هذا الكتاب، ولأساقفة نجران بعده:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ورهبانهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير، جوار الله ورسوله لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبدا، ما أصلحوا ونصحوا، عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين».
وكتب المغيرة بن شعبة.
وذكر محمد بن إسحاق أن وفد نصارى نجران كانوا ستين راكبا، يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، وهم العاقب واسمه: عبد المسيح، والسيد: وهو الأتهم، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس بن الحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، وأمر هؤلاء الأربعة عشر يؤل إلى ثلاثة منهم، وهم العاقب وكان أمير القوم، وذا رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان ثمالهم، وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم، وخيرهم، وكان رجل من العرب من بكر بن وائل، ولكن دخل في دين النصرانية، فعظمته الروم، وشرفوه، وبنوا له الكنائس، ومولوه، وخدموه، لما يعرفون من صلابته في دينهم، وكان مع ذلك يعرف أمر رسول الله ﷺ ولكن صده الشرف والجاه من اتباع الحق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان عن ابن البيلماني، عن كرز بن علقمة قال: قدم وفد نصارى نجران ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب، والسيد، وأبو حارثة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم، وصاحب مدارستهم، وكانوا قد شرفوه فيهم، ومولوه، وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات، وبنوا له الكنائس لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما توجهوا من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة.
فقال كرز: تعس الأبعد - يريد رسول الله ﷺ.
فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.
فقال له كرز: ولم يا أخي.
فقال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره.
فقال له كرز: وما يمنعك وأنت تعلم هذا.
فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأخدمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.
قال: فأضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك.
وذكر ابن إسحاق أنهم لما دخلوا المسجد النبوي دخلوا في تجمل وثياب حسان، وقد حانت صلاة العصر، فقاموا يصلون إلى المشرق.
فقال رسول الله ﷺ: «دعوهم».
فكان المتكلم لهم أبا حارثة بن علقمة، والسيد، والعاقب، حتى نزل فيهم صدر من سورة آل عمران، والمباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا أن يرسل معهم أمينا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، كما تقدم في رواية البخاري، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنة.